ويتخذ فيدياس طور المضيف الذي يستقبل ضيوفه، ويشعر باستعداده العجيب في مصانعة رئيس الدولة، وما الوجه الذي كان يخاطب به أسبازية إلا نتيجة تأملات ناضجة، ويروق وضعه الشعب، فبذلك يكون له فائدة كما يكون لأسبازية وبركلس.
ولا ريب في أنه أبصر على مسافة رجلا له رأس الموسيقي منهمكا في محادثة غلام يدعوه جميع الناس في أثينة بالشمس الطالعة في مسرح ديونيس، وأريبيد هو الذي فاز بجائزة من أجل ابتكار جديد، فقد أظهر امرأة على المسرح، وهو قد أتى من سلامين وفحص بعين ناقدة تقدم البناء، ويلقي الغلام بجانبه نظرات ليست أقل من تلك تقصيا حول هيرودوتس، وقد كان الطموح يأكل قلبه ليكون مؤرخا كبيرا وقطبا سياسيا فيغدو مثل مليتاد وهيرودوتس معا، والغلام هو توسيديد. وبما أن كلا الاثنين أحدث من منافسيهما بعشرين سنة فقد كانا على بعد من الزمرة الأخرى مع زهو واحترام، ويجد هذان المتفننان زملاءهما كلاسيين
115
كثيرا، ويكترثان لضعف الرجال وشهواتهم أكثر من اكتراث هؤلاء الأكبر سنا منهما، ومن المحتمل أن عدا تلك الزمرة المؤلفة من أربعة أعيان أناسا عندا عن ذوق لهم.
وفي الشمال على مسافة منهم تبصر رجلا في الثلاثين من عمره جالسا بين العمال، ويبرز عند أسفل قحفه الكثير النمو أنف أفطس وفم باسم تحت ظل شجرة صغيرة سمراء في الغالب، ويجلس جميع العمال على حجارة رخامية مبعثرة، ويحركون سيقانهم وينظرون إلى الوادي في الأسفل، والآن يلتفتون لينظروا إلى هذا الرجل الذي يضع أحد أسئلته المعتادة الغريبة، ثم يضحك أحدهم بغتة ويحدق آخر حذرا إلى هذا الوجه ذي الأنف الأفطس والذي ينم دوما على السخرية والرفق معا، وهذا هو سقراط الذي فطر على تحيير جميع الناس، والذي يسلي في الوقت نفسه جمهوره بأسئلته المبتذلة ولكن مع خبث اللقانية.
ويحتمل أنه مع بصيرته النافذة لم يلاحظ الطالب الشاب الذي انساب بين الجمع ليراه عن كثب، ولهذا الشاب نظر ثاقب وخبث قاس؛ وذلك لأنه مع فتائه لا يغضي عن أي شيء حوله فيجد في كل مكان من الضعف ما يقيده في دماغه، وهو ليس صديقا للإنسانية كسقراط، ولا مؤرخا كهيرودوتس، ولا شاعرا كسوفوكل، ولا نحاتا كفيدياس، وإنما هو مصور هزلي لولاه ما كانت أثينة أثينة، وهذا هو أريستوفان، وهذا هو العبقري القادم الذي لا يلبث أن يحملهم إلى المسرح جميعا، وأن يخلدهم بأكثر مما يستطيعه شعراء عصره ومؤرخوه.
وإن الأمر لكذلك إذ يجاور الميدان لفيف من الصبيان، ويتتابع هؤلاء الصبيان ويتدافعون بين الحجارة الرخامية ويتضاحكون صاخبين، ويلتفت أولئك الرجال المتزنون جميعهم للإعجاب بما يبدو من الخصل المتموجة في ذلك الذي يلوح أنه يقود الجماعة، وبما يظهر من وثباته الصائلة، وتنقطع الأحاديث في الأكروبول بغتة، ويقف الغلام لبضع دقائق أنظار الشاعرين والمؤرخين وأنظار أسبازية وفيدياس، وبركلس أيضا، ويتوارى الغلام ويعود الجميع مع قليل ذهول إلى الحديث الذي قطع.
والذي مر هو ألكبياد البالغ من العمر عشر سنين.
20
وفي الدور نفسه، في عصري أثينة الكبيرين، لم تنتج إسبارطة نابغة ولا فكرا ولا أثرا فنيا، وكانت تنتج على الأكثر قائدا، وكان قد غادر أثينة جمع من الأطباء والفلاسفة والشعراء والخطباء وتفرقوا في جميع مستعمرات البحر المتوسط، وكان أصل بعض أعاظم الرجال من الشاطئ الإغريقي ومن آسية الصغرى وصقلية، وكان الظلام يحيط بحال إسبارطة العسكرية، وبينا كان بركلس يدرس العلوم الطبيعية مرافقا أستاذه أنكساغورس، وبينا كان يبحث مناقشا في مسائل الأخلاق مع بروتاغوراس، كانت إسبارطة تغلق حدودها دون الفلسفة والتمثيل والموسيقى، ومع قرب هذا الشعب الحربي من مركز الثقافة العالمية كان يجازى من يجرؤ على اتخاذ درس له غير الرياضة البدنية ورمي النشاب ، ومع ذلك كان فتيان أثينة يدربون عضلهم ويتعلمون التجذيف والصراع كما كان أجدادهم الأبطال يصنعون.
Unknown page