وتقيم الأمم معابد وكتدرائيات بعبقريتها في غضون القرون مستعينة بمهندسين مجهولين، وذلك كما في طيبة وأثينة وستراسبرغ، ويثبت طابع الأكروبول المغفل غنى نبوغ أهل أثينة؛ وذلك لأن الفن في أثينة مزج بالصانع؛ ولأن النقد والرأي العام أثرا في تقدمه، وأنجزت جميع آثار الفن في أثناء الهدن التي تفصل بين الحروب. وحاول بركلس، العارف بشدة إنكار شعبه للجميل، أن يحمي مقدما، ولكن على غير جدوى، صديقه فيدياس بأن توزن له كل أوقية ذهب تطبق على ثوب الإلهة أتينة، وهذا لم يحل، في نهاية الأمر، دون اتهام المعلم بالسرقة وهلاكه في السجن، ورأى المهندس إختين أن يفر، وكتب الهلاك لفيدياس في آخر صنعته نتيجة لقضية شائنة.
وتتجلى روح الأثني بما رفع من القضايا ضد فيدياس وأسبازية؛ أي ضد صديق بركلس وخليلته، في وقت واحد تقريبا، وفي كلتا القضيتين كان رئيس الدولة هو المتهم الحقيقي، وبلغ أريستوفان من التحامل ما لام معه بركلس على إيقاد حرب البلوبونيز مع أنه كان يعمل على تأخير نشوبها زمنا طويلا.
ويتهم أهل أثينة بركلس بأنه جعل فيدياس يصوره على ترس أتينة بملامح شيخ أصلع، وكان هذا بعيد الاحتمال جدا؛ وذلك لأن بركلس كان حريصا في جميع حياته على إخفاء قحفه الطويل تحت شعره وخوذته. وكان متهمو بركلس يودون أن يعرفوا أيضا أين يوجد الذهب الذي اختلسه فيدياس في أثناء إنشاء التمثال ... وأين كان يمكن أن يذهب إن يتسرب لدى الخليلة أسبازية؟ ومع ذلك لم يكن تمازج الدولة والحضارة العجيب الذي هو سر تاريخ اليونان ليظهر بأبلغ مما في تلك السنين، وقد تجمع كل شيء في ذلك العصر؛ وذلك لأن أثينة لم تبق في الأوج غير أربعين عاما، وذلك كدور النهضة الإيطالية الذي وقع بعد ألفي سنة.
كسبت معركة سلامين، وظهر بركلس ظافرا، واتخذ جميع فلاسفة اليونان المادة قاعدة لمذهبهم، فذهب أحدهم من الماء، وذهب آخر من النار، وذهب الثالث من التراب، وذهب الرابع من الهواء، وهؤلاء الفلاسفة هم الذين مهدوا السبيل للفلسفة الراقية قبل كنت بألفي سنة. وقد استخرج الأغارقة وحدة الفكر من تعدد الحوادث، ومع ذلك استطاعوا من غير خطر أن يحافظوا على آلهتهم الكثيرة.
19
ومن كان يقيض له في سنة 440 أن يصعد الأكروبول، وأن يجلس على إحدى درج البارتنون الذي كان قد تم تقريبا، يسمع في ساعة مجيدة دق المطارق وصوت من لم يحصهم عد من العمال، ويشاهد الرجال القليلين الممثلين لأثينة في ذلك الزمن فيعدون رمزا لمجد العالم، وإنه لأمر فريد في التاريخ أن يكون الرجل مشهورا في أثناء حياته وأن يظل مقدسا لدى الأعقاب، والذي يحدث على العموم هو أن ينكر العبقري عصره أو أن تنسى الذراري من رفعه الفوز حينا من الزمن، ومن دأب الأثنيين أن يعترفوا بالعبقري وأن ينتقموا منه مع ازدراء لاحق، ولكن التاريخ يجده بسهولة بعد حين.
يصعد ثلاثة رجال في درج البروبيلة رويدا رويدا، ويلوح أحد الملتحيين في الخمسين من سنيه ويدل الثالث، وهو أحدث منه سنا، على الذي تم حتى ذلك الحين وعلى الذي ينوى عمله فيما بعد، ويظهر بركلس السائر بينهما مسيطرا عليهما كلما حاول أن يمحي ويبدو بركلس ملكا أكثر من أن يبدو إلها، وإن كان هادئا هدوءا ألنبيا ينم عليه نظره وصوته، وليس من غير سبب ألا يخصص وقته للغريب الذي هو عن شماله والذي يزور أثينة غالبا في أثناء سياحاته الكبرى، ومن البديهي أن ينظر الغريب إلى ما حوله على شاكلته، وأن يجمع مسرعا من العناصر المختلفة بما هو مفطور عليه من موهبة الملاحظة والتحليل، وهو يسمع ويبصر ويسجل كل شيء في ذاكرته التي لا تخطئ؛ وهذا الرجل هو هيرودوتس الذي يرجو بركلس أن يحسن معاملته في مؤلفاته؛ وذلك لأن من عادة هذا المؤلف أن يتلو مقتطفات منها على الشعب حين الألعاب الألنبية؛ ولأن كل أثني مثقف يسعى في نيل نسخة من مخطوطاته.
والرجل الثالث صامت بعيد من الاثنين، وهو يتسور الدرج، وهو ذو وجه بطل، وهو يظن أنه قائد أكثر من أن يظن أنه بركلس لو لم ينم عبوسه على أنه مفكر، وهو صاحب قحف طويل كقحف بركلس وإن كان أنصع منه، وهو صاحب لحية قصيرة أيضا، غير أن شعره أكثر تجعدا وفمه المتزن أقل شهوة، وهذا هو سوفوكل، وقد بلغ من الجمال في صباه ما وجه معه جوقة أعياد النصر، وله بانسجام مظهره البدني وآثاره ما يدنيه من بركلس. وكلا الرجلين اشترك في وضع الدستور؛ وذلك لأن الفن وأمور الدولة في أثينة متماثلان، وسوفوكل تقلد قيادة حربية كبيرة بعدما أصاب من نجاح كبير في «أنتيغون»، وسوفوكل شاعر ونشيط كما أنه مفكر كرجل الدولة. ويبدو بناء هذا المعبد لكلا الرجلين أمرا يناط به مستقبلهما. والواقع أن الشاعر أيضا يفكر في المجد القادم، ومن المحتمل أن يكون في ذلك الصباح قد رسم ذهنيا خطوط الأنشودة عن هيرودوتس ليكتبها بعدئذ.
ولما أبصر فيدياس وصولهم خرج من بين الجمع للقائهم هو وأسبازية التي هي أنضر نساء أثينة، وهو قد جاء بها ليريها ما ينتفع به من الرسوم لنحت التماثيل الداعمة للأفاريز، ويروي بلوتارك أن من عادة بركلس تقبيل جبينها في كل مرة يلاقيها. وكانت هذه المرأة العاطلة من الاسم والأسرة، والتي تدعى أسبازية؛ أي المحبوبة فقط، قد تعرف بها بركلس الأسن منها عشرين سنة في أوج مجده، واتبع بركلس عادة أثينة التي كانت تكرم الخليلات فلم يعتم أن ترك زوجته، ومما لا ريب فيه أن كانت من العبقرية ما أغضى معه ذلك المولود سيدا مطلقا عن وجودها بجانبه.
وهنا، على الأكروبول، يحادث هيرودوتس أسبازية كرجل عالمي، ولكنه في الوقت نفسه يستعين بقدرته على التحليل فيلاحظ كل معنى في وجه بركلس، وكان أولئك الرجال الأربعة وتلك المرأة التي هي أذكى النساء يعرفون أن عيون الجمهور شاخصة إليهم، وأن جميع المدينة ستتكلم في ذلك المساء عن لقائهم، فلا ترى قوما بلغوا ما بلغ أهل أثينة ارتيابا وانتقادا، وهذا مع استثناء أهل باريس في زماننا على ما يحتمل.
Unknown page