ونلتفت فنرى امتداد المنظر الإغريقي عند أقدامنا، ويوجد بين الأعمدة المضاعفة التي حفظت تماما بالقرب من مدخل البارتنون عمود يجلس عند قاعدته أجنبي فيشتمل بنظرة خاطفة على أفكار اليونان الأفلاطونية، ويستند إلى الفرضة العريضة الضاربة إلى سمرة في ركن الزاوية الجنوبية الغربية مسترخي الساقين، وذلك لأن تلك الدرج العظيمة صنعت لكيلا تبلغها الآلهة والآدميون. وكانت هذه الأعمدة ذات بياض ناصع في العصر الذي تمثلها المهندس الأستاذ إختين واختار رخامها من بين حجارة الجبال المجاورة، ويبهرنا هذا البياض عند فحص الوجوه الداخلية للقطع التي رفعها العمال المرممون من الأعمدة المتفتتة فوجدت قطعة منها أمام المؤلف حينما كتب هذه السطور، وقد لفحت الشمس ذلك الرخام في ألفي سنة كما لو كان وجها بشريا.
وتمتد أمام أعيينا سنفونية البحر والجزر والماء والجبال التي تمثل كيان بلاد اليونان، وهنالك، في مكان قريب، وأمام البيره، تبصر جزيرة سلامين ذات التلال الوديعة والفرضة التي أنقذت فيها حرية الإغريق في نهار واحد، وفيما هو أبعد من ذلك في الجنوب تبدو أكبر من تلك قليلا جزيرة إيجين التي تمتد عليها ظلال بعض الأعمدة، ويزيد عدد ما يبدو من الجزر شيئا فشيئا، ويستر بعضها بعضا حتى يمحي ساحل كورنث في الضباب المشمسة، ونحو الجنوب تمتد جبال الساحل الأثني حتى النقطة التي يبصر فيها صخور رأس كولون، وفي الشمال الغربي تغيب تلك الجبال في جوار دلف، وهكذا يتألف من الجزائر والفرض والرءوس والمعابد والملاحة والهاتف مجموع رمزي. والمرء إذا مال إلى الخلف قليلا وأمر يده على طول التخاريم أبصر فوقه تيجان الأعمدة وبقايا نوبة البناتينه، وأبصر تحته السياج مع رقص الانتصارات، وأبصر عن يمينه تمثال الإركتوم الخارجي الداعم، ثم يشعر بغتة بمركز العالم الذي كان يعبر به عن الكون.
وما كانت يد الإنسان لتنتج في أي مكان من البحر المتوسط مثل البارتنون أثرا لا ينسى، واليوم لا يزال بناءو جميع العالم يستوحونه ويستنسخونه على مقياس صغير بإقامتهم على طرازه كنائس ومصارف وبرلمانات.
ومن مدن اليونان الأخرى شادت إليس وأكراغاس وسرقوسة معابد رائعة في القرن الخامس فلا يزال بعضها قائما حتى اليوم، وفي جو روائي حفظ معبد فغالية بمنطقة من الجبال الموحشة في سواء البلوبونيز.
وفي جنوب إيطالية توحي بستوم دوسجست بالعصر الإغريقي أيضا، ومع ذلك لم تقرن فكرة الأكروبول بأثينة فيجهل معظم الناس وجود أكروبولات أخرى جهلا تاما؟ ولم قبل هذا المعبد الحصن في زون البشر على غرار ثلاثة أو أربعة من أنبيائه؟ ذلك لأن حضارة ألفية بلغت ذروتها في هذا المكان، وذلك لأن كل حجر رخامي فيه على شكل طبل يستدق فينضد على حجر آخر في شيد هذه الأعمدة الواسعة فيكون مثل بناء قائم تكريما للروح التي أبدعت تلك الحضارة وحافظت عليها؛ وذلك لأن سلطان الدولة وحس الجمال كانا يتوافقان في ذلك الأثر كما في هندسة قصور دوج بالبندقية وقصر فارنيز برومة وأسكي سراي باستانبول، وتختلط قوة ثالثة، قوة الإيمان بالآلهة، بالقوتين الأخريين فتعلو الأكروبول. وكان ملك الفرس قد حرق المعابد القديمة التي هنالك فيما مضى فأقام قاهر الفرس بعد ذلك أسوارا طويلة تربط أثينة بمينائها مع حمايتها، ويحل الوقت الذي يجمع فيه بين المفيد والمبهج، وبين الضروري والوافر.
وفي ذلك الحين وحده؛ أي حوالي سنة 450، أمكن بناء الأكروبول، وقد جرؤ بركلس وحده على هذا الأثر فأنفق في سبيله ما يقابل ثلاثة ملايين دولار في أيامنا، أولم يكن نسق هذا المشروع فوق العصري ما دامت أروقة بروبيله قد أكملت في خمس سنين وما دام البارتنون قد أكمل في تسع سنين، وذلك من غير استعانة بآلات لرفع الأثقال ولا بأية آلة أخرى؟ لقد شيدت الأهرام بمصر في خمسين سنة أو مائة سنة، ولا تزال أعمال الإنشاء التي شرع بها في أثينة بمال روكفلر وبأحدث الآلات الفنية قائمة منذ عشرين عاما، ولنضف إلى هذا قولنا إن أعمال بركلس الإنشائية تمت بأسلوب حديث كان غير معروف قبل ثلاثين سنة.
وتمضي خمسمائة سنة على الفراغ من الأكروبول فيقول بلوتارك كلمته الجميلة: «إذا ما حكم في كل واحد من آثار بركلس من حيث جماله، وذلك منذ إتمامه، عد قديما، ولكنه إذا نظر إلى وجه الكمال فيها بدت كلها للأعين جديدة ناضرة، وذلك كما لو كان كل واحد منها يشتمل على روح فتية منذ الأزل.» وهكذا يؤيد شاهد مضى عليه سبعة عشر قرنا حكم زماننا.
والأمر عجيب، فبينما كانت الرواية اليونانية نتيجة ثلاثة أدمغة في الحقيقة، وبينما كان شعراء عصر أوميرس لا يؤلفون غير زمرة محدودة، كانت النقوش والأواني الخزفية من عمل كثير من الأيدي، وتمثل الأسماء الأربعة أو الخمسة التي ظلت مشهورة ألوف المتفننين المغفلين الذين يجدر إقامة أثر تذكاري لهم كما يقام للجندي المجهول، والذي كان يرفع الأغارقة فوق جميع الأمم هو الثقافة العامة أو المستوى العام. وقال العبقري العالمي ديمقراطيس موكدا: «إن الثقافة زين في السعادة وملجأ في الشقاء.» وكان المجد يستهوي جميع الأغارقة في الوقت نفسه، فقال ديوتيم لسقراط: «ترى كثرة من يودون أن يكونوا من الخالدين، وتراهم جميعا مستعدين للتضحية بأموالهم وأولادهم وبسعادتهم كلها، وبأنفسهم أيضا، في سبيل هذا المثل الأعلى، أوتعتقد حقا أن ألسست ماتت إنقاذا لأدمت، أو أن أشيل طلب الموت من أجل باتروكل؟ إنهم كانوا يعلمون أن الخلود يكتب لذكراهم بعد موتهم ...»
وأعجب من ذلك في تلك الأحوال عمل ألوف الرجال في أثينة حبا للجمال مع أن مجد آثارهم غدا وقفا على بضعة أسماء، ولا ريب في أن فيدياس لم ينحت وحده تمثال أتينة ولا إفريز البناتيني الرخامي البالغ من الطول مئات كثيرة من الأمتار، ولا ريب في أن فيدياس وضع رسم الأثر وأشرف على عمله، غير أن مما لا مراء فيه أنه لم يساعد على الجزئيات أكثر مما صنع بركلس الذي أعانه في رسم الإفريز.
وأسهل على المرء أن يعرف أثر أيدي ميكل أنجلو الماهرة في فلورنسة ورومة من أن يبين ما بقي من آثار ميرون أو فيدياس أو بركسيتل الشخصية.
Unknown page