أجل، لم يكن الإسبارطيون من البرابرة لدى الأغارقة ما دامت اليونانية لغتهم، غير أننا نرى الأثنيين أنفسهم من البرابرة لما كانوا يملكونه من العبيد. وقد تغير معنى الكلمة كما تغير معنى كلمة الطاغية ما دام عهد الطاغية بيزيسترات الذي دام ثلاثا وثلاثين سنة قد سمي فيما بعد بعهد أثينة الذهبي. ويتخذ هذا دليلا على أن الطاغية نفسه ليس مذموما بحكم الضرورة، وأن النظام الاستبدادي الحكيم العادل كان أفضل من نظام يؤدي إلى تنازع الأحزاب ودسائسها في القرون القديمة على الأقل، ولا ينبغي أن يحدث عن الروح الديموقراطية الإغريقية إلا بتحفظ كما يحدث عن جميع الديموقراطيات عند تمسكها بنظام الرق. قال غوتة: «أجل، كان الأغارقة أصدقاء الحرية، غير أن كل واحد منهم لم يحب سوى حريته؛ ولذا كان يوجد في كل إغريقي طاغية تعوزه الفرصة لينمو.»
حقا كان يسود إسبارطة ضرب من النظام البروسي على الطراز القديم، كانت تسيطر عليها حكومة أريستوقراطية رؤساؤها من القواد والضباط، وكان المذهب الحديث القائل بجعل مصلحة الدولة فوق مصلحة الأفراد قد لطف في إسبارطة بتناول جميع أبناء الوطن، رجالا كانوا أو نساء، وجباتهم معا، وبحق كل واحد منهم في حيازة خيل وكلاب وغلال، وعبيد في بعض الأحوال، ثم كانت الأرضون التي تفتتح توزع بين جميع الجنود حصصا متساوية. ومما روي أن الرئيس المشترع ليكورغ كان يطوف ذات يوم في الحقول التي يحصد زرعها فقال: «يخيل إلى المتأمل أن هنالك ملكا خاصا بإخوة يقتسمون ميراثا.» وإذا كان الفقير لا يغتني في إسبارطة فإنه كان لا يجوع فيها بفضل الدولة، ولكنه إذا ما كان كثير المرض أو كثير الهرم أمكن قتله وفق مبادئ التناسل.
وكان مبدأ حماية الأقوياء من قبض الضعفاء على زمام الأمور يتجلى أيضا في أمر المال والملك، ولنا بكلمة إيزوقراطيس الآتية التي انتقد بها أهل أثينة ما يكشف عن هذه الحال النفسية، فقد قال: «يخاف الناس أعداءهم أقل من خوفهم أبناء وطنهم، ويفضل الأغنياء قذف أموالهم في البحر على توزيعها بين الفقراء، والفقراء لا يرغبون في أمر بحرارة مثل رغبتهم في سرقة الأغنياء.»
ولم يكن النظام الإسبارطي في تقسيم المجتمع إلى طبقات اجتماعية أكثر إنصافا من النظام الأثني، ولكن روح الشعب بأسره لم تكن أقل ميلا إلى صناعة الأسلحة من ذلك، فكل طموح كان يوجه نحو الحرب بمثل الروح الفاشية الحاضرة، وكذلك كان تمازج الروح الرياضية والروح الحربية من بعد المدى في إسبارطة ما لا يأخذ الشبان معه غير دراهم قليلة دفعا لهم إلى السرقة بمهارة، وما يشترك الفتيات والفتيان معه في الألعاب الرياضية، وإن حظر على هذين الجنسين أن يأكلا معا، وعكس هذا ما كان يقع في زمن جداتنا.
وإذا ما بدت إسبارطة شعبا مدججا بالسلاح، عاطلا من كل تربية غير التدريب الحربي، مزدريا للحياة الذهنية، خاضعا لنظام يعين الزمن الذي يجب على ابن الوطن أن يتزوج فيه والذي يؤخذ فيه من أسرته، تابعا لنظام يقيد حرية السير، قائلا بحكومة تضرب نقودا من الحديد، رئي أنها نموذج كامل لمثل يبشر بها اليوم في بلاد جمعية.
ولكن بما أن أثينة كانت تعرف أيضا ما يسمى النظام الاستبدادي، وبما أن إسبارطة كانت تعرف التفاوت الاجتماعي كذلك، فإن ما بين إسبارطة وأثينة من اختلاف كان يقوم قبل كل شيء على الوجه الذي تبدو به الدولة لكل منهما. ومن مقتضيات وجهة نظر إسبارطة حول الدولة أن كان يباح لفوهررها تدخل لا حد له في حياة ابن الوطن باسم مصلحة الدولة، وذلك على حين كان من النادر أن يساور جمهورية التجار الأثنية ميل إلى الفتح، فكانت تقتصر على الدفاع في الغالب راغبة في وئام جميع العالم، ولكن مع القول بحق الانتقاد وتعاطي الفلسفة، ولكن مع منح جميع أبناء الوطن حرية تامة تقريبا. وهكذا غابت الحرية والجمال وبهجة الحياة غيابا تاما عن دولة إسبارطة البرية والحربية إلى أن زال أثرها، وهكذا كان كل واحد في دولة أثينة البحرية يرجع أصله إلى حب الحرية، فكتب الخلود لليونان بذلك، وما تم لإسبارطة من نصر حربي لم يكن غير فاصلة قصيرة في مجد أثينة الخالد.
16
قال هاتف دلف لتمستوكل: «أنشئ أسوارا من خشب!» وقد أدرك تمستوكل معنى ذلك فأبدع بحرية أثينة الحربية، وحصن في الوقت نفسه مرفأ البيره، وبنى ميناء فرضة فالير الحربي، وهكذا أعد النصر على سرخس في سلامين وما أدى إليه من تحرير اليونان من سلطان الفرس (480 قبل الميلاد).
وبينا كانت الدولة الآسيوية تقمع كل عصيان يقوم به أغارقة آسية الصغرى، وبينا كان جميع اليونان يدفع جزية إلى الفرس، تلوح فكرة الجامعة الإغريقية، فكرة اليونان، وفي الوقت نفسه تولد فكرة عد كل من لا يقاتل الفرس من الأغارقة مقترفا جرم الخيانة العظمى، وتنضم إسبارطة إلى الحلف اليوناني وإلى الجيش الإغريقي الأكبر لزمن معين، بيد أن الأسطول هو الذي ينال النصر الحاسم.
ويحزن المفكر المعاصر باسم الروحي حينما يبصر أن ضمان أعز الأمور، من حرية وعدل وصحة وحياة، يتوقف على صنع الطائرات والدبابات. ومنذ ألفي سنة يشترك بركلس بنفسه في معركة سلامين. وإنا لنرتجف عندما نفكر في أن ما يسمى «عصر بركلس» يتوقف على إنشاء السفن، وفي أن فن الملاحة والحرب هو الذي قرر النصر بين البرابرة وبين أمدن أمم الأرض، وإن ما عومل به منقذ قومه ومنقذ التمدن بأسره بركلس من جحود فيما بعد، هو مما يدخل اليأس إلى النفوس حتى في أيامنا فنشعر بإنكارنا كل إيمان وطموح سياسي.
Unknown page