Al-Baḥr al-Mutawassiṭ: maṣāʾir baḥr
البحر المتوسط: مصاير بحر
Genres
ومما ساعد الترك على التقدم ما وجدوه لدى أعدائهم من انحطاط كالذي وجده الإسبان، وكانت بزنطة والعالم الإغريقي من شدة الضعف منذ انتصار البندقيين كمن بقي من العرب المنهوكين في إسبانية، فسقط البزنطيون، كالمغاربة، أما صولة أمم أشد شبابا، وذلك بعد رخاء دام زمنا يثير العجب، وقهرت شعوب قوية فتية عاملة منذ قرن واحد فقط زمرا متحرزة رازحة تحت ثمانية قرون وأحد عشر قرنا، والبأس، لا العرق، هو الذي يتوقف عليه النصر في اصطراع الأمم كما في الملاكمة.
ويكفي أن ينعم النظر في وجوه آخر أباطرة بزنطة وأن تقابل بوجوه الترك أو الصرب الأولين الذين أقاموا في ذلك العصر دولا مهمة حول بزنطة، وما على المرء إلا أن يقرأ وصف وليمة تتويج آخر إمبراطور بزنطي بين المراسم التقليدية التالدة مع تقديم الأطعمة في أطباق خزفية لما لا يوجد من أطباق ذهبية وفضية، وما على الإنسان إلا أن يطلع على نبأ تتويج ملك الصرب في ذلك الزمن، دوشان، باحتفال بربري صاخب، ويشابه أكابر الكروات المنقوشون على مقدم كنيسة شيبينيك زعماء البلاشفة في عصرنا.
وكان الترك العثمانيون، الذين اتخذوا في أوروبة عاصمة لهم منذ سنة 1365، يبدون لبزنطة صداقة قائمة على الرئاء منذ زمن طويل، وكانوا يحيطون بالإمبراطورية التي تنقص من أطرافها فتضيق مقدارا فمقدارا، فتسأل هذه الإمبراطورية في نفسها مغتمة، كأوليس وأصحابه عند رؤية بوليفيم،
26
عن الفريق الذي يفترس عما قليل. وقد تعلم الترك، الذين كانوا نصف حلفاء ونصف مؤتمرين، من البزنطيين أمورا كثيرة في الحكمة العامة ودسائس البلاط والاغتيالات السياسية، وقد تزوجوا نساء بزنطيات مع مساعدة تلك الدولة عسكريا على حين يشحذون خناجرهم ليقضوا عليها في الوقت المناسب، أجل، كان البزنطيون يعلمون ذلك، ولكنهم كانوا لا يستطيعون غير محاولة لاكتساب بعض الوقت.
وتغير طالع الحرب في آسية الصغرى وفي البلقان حتى جوار فينة بعد معارك صاخبة لا مكان لبيان جزرها ومدها هنا، وذلك بين الترك والصرب والمجر، وذلك بين السلجوقيين والعثمانيين والمغول أيضا، ولم تؤد واحدة من هذه الحروب إلى فارق واضح بين المسلمين والنصارى. وكانت ضروب الفظائع تقترف بحجة الدين، وزادت قسوة المسلمين خلافا لما كانوا عليه أيام الحروب الصليبية، وكان الإسلام قد أضاع في القرن الخامس عشر روح التسامح التي امتاز بها قبل ثلاثة قرون، فإزاء هذه الأساليب الحربية الهائلة حل مؤتمر كونستانس الديني كل نصراني من إيفاء عهد لكافر، وهذا التدبير خطر جدا وإن كان طبيعيا ومن شأنه أن يقوض مبادئ النصرانية في الأخلاق.
ومع ذلك كان من المتعذر إثارة حرب صليبية جديدة؛ وذلك لأن العوامل الضرورية لإيقادها عادت غير موجودة منذ زمن طويل، ويلوح أن الرغبة الجامحة الجافية في نيل السلطان بأي ثمن كانت تثبت انقضاء الدور الذي سمي «القرون الوسطى» فيما بعد.
وقد تجلى فقدان المثل الأعلى هذا في صورة الحذق التجاري لدى البندقيين على الخصوص، وأهل البندقية هؤلاء عقدوا في ثمانين سنة تسعة عهود صداقة مع الترك ضامنة لهم حرية التجارة من حيث الملاحة وحق الإقامة والقضاء، ويصبحون حلفاء لبزنطة وهنغارية ذات مرة فيقهرون الترك، ومع ذلك لم يلبثوا أن انفصلوا عن حلفائهم النصارى اجتنابا لاستفزاز الترك كثيرا، ويلقي الرئيس موسنيغو كلمات في مجلس الشيوخ بالبندقية سمع مثلها في مجلس النواب البريطاني سنة 1938، وهي: «إن السلم خير الأمور، وإذا كان السلام حليفنا قمنا بالخير أحسن قيام وغدونا سادة المال والنصرانية وخاف العالم ثراءنا وكان الله معنا!» وكان كبار التجار هؤلاء من شدة الحذر ما رفضوا معه فتح القسطنطينية خلافا لما عرضه عليهم الإمبراطور إمانويل؛ وذلك لما كانت عليه هذه المدينة من خطر ولما يرونها محلا غير ذي قرار وسكون.
وكان سادة القسطنطينية يشعرون من ناحيتهم بأن زوالهم أمر لا مفر منه، فيبدون استعدادهم للاتحاد بالمذهب النصراني المنافس دعما للكثلكة ، وفي دور غسق الآلهة هذا ذهب الكردينال بيساريون الذي كان إغريقيا إلى توحيد مذهبي أفلاطون وأرسطو بالنصرانية رسميا، ومن الممكن أن كان يميز في مجمع فلورنسة الديني الذي عقد سنة 1439 وجه الكذب في مظاهر الإخاء، وينشق رهبان جبل أتوس ريح العاصفة فيضعون ديرهم الجليل تحت حماية السلطان.
ويتخذ السلطان محمد الثاني وضعا واضحا، ويقبض على زمام الأمور في الحادية والعشرين من سنيه، ويبدو مثل فرعون جديد فيجمع عددا عظيما من العمال ويجعلهم يقيمون في أربعين يوما حصون البسفور القوية التي تظهر بقاياها اليوم سمة المنظر الروائية، ثم بدأ يحاصر بزنطة التي قاومت مقاومة بطولة حقيقية مدة ثلاثين يوما، ويجتمع الإمبراطور والشعب والقسوس في أيا صوفية، في المساء الذي يسبق آخر هجوم، لوداع يشابه عيد أموات، ويقف هذا الشعب الفاسد المنحط على شفير الموت، وإن شئت فقل على المستوى السني الذي حكت عنه القصة، فلما كان الغد ضرب الإمبراطور الأخير أنبل مثل للعالم فخر صريعا شاهرا سيفه.
Unknown page