158

Bahr Mutawassit

البحر المتوسط: مصاير بحر

Genres

وكانت تلك المراكب تنتهي إلى أسواق ومتاجر في نهاية أسفارها الهادئة، لا إلى مستعمرات، ولما نقش أسد مجنح على حجر فوق رتاج كره الجنويون ذلك ما دام الأسد يرمز إلى رتاج القديس مرقص في البندقية. وقد وسعت كل من جنوة والبندقية نطاق تجارتها حتى الفرات، حتى البحر الأسود حيث هلك نصف الأسطول البندقي ذات مرة نتيجة اختلاف في إصدار فراء من روسية، ومن المحتمل أن كانت تلك الحرب التي وقعت سنة 1353 حول الفراء أول حرب تجارية حقيقية في التاريخ الحديث.

وما اشتعل حول بزنطة في بدء الأمر، وما كان من اصطراع في سبيل السلطة بين أرباب المصارف بجنوة والبندقية، أدى في قرن واحد إلى سفك دماء أكثر مما إلى إنفاق مال. وفي بزنطة كان الرومي ميشل باليولوغ قد ارتقى إلى العرش الإمبراطوري فحالف جنوة ضد البندقية، ويسلم، بعد انتصار جنوة، إلى الجنويين أحياء البندقيين ومحتكراتهم، وتقابل الضربات بالضربات ويعقب النصر الانكسارات، وكان يمكن هذا أن يدوم إلى ما لا نهاية له لو لم يظهر الترك ويقبضوا على ناصية سورية قبل استيلائهم على بزنطة بزمن واضعين، آليا، حدا لمحتكرات مدن الغرب البحرية، ولم تعتم البندقية، التي كانت تمد بالمال إحدى الحروب الصليبية، أن انحازت إلى الترك فأغلقت جنوة مضايق الدردنيل من فورها، أفلا يشابه هذا ما قرأناه أمس في الجريدة؟

ويفرض حل نهائي بعد كثير من الهدن المؤقتة، وذلك أن البندقية كانت تبدو للعالم بالغة السعادة والغنى منذ قرنين، فتحسد وتمقت، ويغدو جميع العالم إلبا واحدا عليها؛ أي آل هابسبرغ الذين كانوا يدنون من تريستة، والهنغاريون الذين اتحدوا في مملكة بلقانية قوية واحدة تحت تاج أنجوي، وأهل جنوة، ويوغل هؤلاء في مناقع البندقية ويحاصرون هذه المدينة فيلوح أنها محكوم عليها بالموت جوعا لعجزها عن الامتراء

10

برا أو عن الاتصال بالبر، ويسجن أهل البندقية أمير بحرهم المقهور بيزاني، ويطلقونه في الساعة الأخيرة، فيوفق في تحويل المحاصرين إلى محاصرين دفعة واحدة في جزيرة كيوجا المجاورة، ويكره مراكب دوريا الاثنين والثلاثين ورجاله ال 5000 على التسليم بعد وقت قصير، وتعد هذه من الضربات الرائعة التي يسفر عنها وضع مقطوع الرجاء منه لا يلبث أن يثير حنق شجاعة فيقهر به ضابط مقدام - وفق أسلوبه الخاص - عدوا كان يعد نفسه منصورا منذ هنيهة.

وتثبت البندقية تفوقها على جنوة في الساعة الحرجة حين كان كل شيء يتوقف على سرعة ثلاثمائة جذاف أو على هجوم جرئ وعلى تهور عشرة ربابنة وتضحيتهم كما يحتمل، وقد وقع ذلك بعد قيام البندقية بسبعمائة سنة تماما، وقد قال أحد المؤرخين قبل ذلك بزمن طويل: «إن أهل البندقية الذين يقيمون بين الماء هم فوق جميع الأمم الأخرى في أثناء معركة بحرية تقع.»

وقد تعلم أهل البندقية من هول ذلك الحصار القاتل أنهم لا يستطيعون الركون إلى قاعدتهم العائمة العاطلة من الخبز واللحم وأنه لا مناص لهم من حيازة ممتلكة واسعة، ويتحول التجار إلى مقاتلين بنشاط فائق، وينزل هذا الشعب البرمائي إلى البر ويثبت أن ركوب البحر ليس وحده هو الذي يعرف صنعه، أجل، فضل أرباب رءوس الأموال اشتراء بنادق من فضة وجعل مرتزقة سويسريين وغيرهم يطلقون قذائف منها، ولكنهم جندوا أبناءهم أيضا.

وتصبح الدولة البحرية الهادئة، التي أرسلت من مناقعها الأسطورية ثلاثة آلاف مركب تجاري للاتجار مع العالم بأسره، شعبا بريا فاتحا، وتنصر البندقية في حروب متعاقبة، وتقهر دوكية ميلان على الخصوص، فتوجد في شمال إيطالية ممتلكة واسعة لها ممتدة إلى برغام وبريسيا من ناحية الغرب، وإلى كادور من ناحية الشمال، وإلى دلماسية من وراء البحر الأدرياتي حيث كان البندقيون قد ذهبوا ذات مرة في بدء تاريخهم؛ أي منذ سبعة قرون، والآن تدنوا البندقية من أوج سلطانها.

ويقضى على شوكة جنوة بعد معركة كيوجا في سنة 1380، وتداوم جنوة على حيازة أسواق مهمة وعلى ممارسة نفوذها في الغرب، وتوجه سلاحها ضد الفرنسيين مرة، وضد الترك مرة أخرى، ومع ذلك فإن البندقية وحدها هي التي تستأثر بسوق الشرق الكبرى، والبندقية هي التي تعيش بعد سلطان جنوة مدة مائة وثلاثين سنة.

وإن الأمر لكذلك إذ يلقي أمر هائل جرانه بين الأمم المتنازعة، إذ تظهر تلك القوة المشئومة التي كان الناس يدعونها في القرون الوسطى «بلاء الله»، ومن المحتمل أن كان الناس على حق عندما أبصروا في الطاعون الذي يهلكهم عقابا ربانيا، ويلوح أنه هلك حوالي سنة 1350 خمسة وعشرون مليونا من الآدميين في عامين بفعل هذه الجائحة فكان نصفهم من بلاد البحر المتوسط.

Unknown page