يلقي أسطول بيزة المهدد لأسطول جنوة مراسيه في مصب الأرنو ذات صباح من شهر أغسطس، ويبصر الملاحون، في أثناء الصلوات العامة، سقوط تمثال قديس في الماء عرضا وتواريه فيفزعون، ويقطع الصمت مع الارتعاش بغتة بالصراخ: «لا تقنطوا! فإذا كان يسوع حليفا لجنوة فإن الريح معنا!» وتسير سفن بيزة مختالة بعد الظهر وتقع المعركة التي أعدت في أجيال، وينفخ في الأبواق والنواقير، وتسد فتحات المؤخرات، ويسقط وابل من النبال والمعادن والحجارة، ويضطر مقدم المراكب إلى مواجهة العدو منعا له من الإيغال في الجوانب، وبما أن مقدم المراكب أقوى سلاح لمن يستفيد من ريح ملائمة فإنه يمكن أسطولا حسن الاتجاه أن يقضي، أو أن يعرقل على الأقل، نصف أسطول العدو.
وإليك المراكب المصفوفة المتأهبة للصراع، ويحاول كل من الأسطولين أن يصاول الآخر وأن يهاجم مؤخراته وأبراجه، ويجندل المقاتلون في أثناء الصراع بضربات أعدائهم وبما يرمى عليهم من دهن وزيت يقذفهما الأعداء من المجانق على مراكبهم، وترمي السفن الرئيسة رصاصا ذائبا وماء حارا، ويتعارف القادة من مركب إلى مركب، ويؤتى بحاكم بيزة مجروحا جرحا خطرا في رأسه، وينزع علم بيزة مع بقاء مساكه
9
على السارية جامعا لشمل الملاحين القانطين، فلما سقط المساك ضاع كل شيء، وقد غنمت وأغرقت ست وثلاثون سفينة حربية بيزية ونقالتان بيزيتان مع خمسة آلاف قتيل وثمانية آلاف أسير، وترتد طائفة صغيرة من السفن إلى الميناء الأصلي مقفلة إياه بالسلسلة الكبرى، وتختم المعركة بالليل، ويعرض علم بيزة، الذي كان قد مزق وبصق عليه، في كتدرائية جنوة يوم الأحد القادم، وهكذا تكون جنوة قد قضت على منافسة بيزة في يوم واحد.
ويمضي قرن فتقهر البندقية منافستها الأخيرة جنوة، وأقوى الأسطولين هو الذي تم له النصر.
ولم يكن الأسطول الحربي في ذلك الدور مختلفا عن الأسطول التجاري، وكان من العسير تمييز السفن الشراعية من السفن ذوات المقاذيف، وكان يمكن أكبر مركب نقال أن يحمل، وهو يطلى بلون رمادي أزرق في مثل هذه الحال، وإذا كانت السفينة حربية رفعت راياتها الصفر أو البيض مع صلبان حمر، ولم تكن الأسلحة لتخفى في ذلك الحين كما في أيامنا، بل كانت تبدى بما يستفز به بدلا من أن تنكر، وكان من الممكن أن تستوعب هذه المراكب الكبيرة ألف رجل أو أن تشتمل على الأعمدة الرخامية الاثني عشر التي أخذت من قصر ملك اليهود يهوذا الميكابي، ولم تصل هذه المراكب مع ذلك وإنما ظلت ضاجعة في قعر البحر.
وكان أكثر المراكب شيوعا هو المركب ذو الأشرعة والمقاذيف الذي ظل يبنى على طرازه حتى القرن الثامن عشر، وكان هذا المركب يحمل على جوانبه أسماء جميلة مرقومة في سجلات السفن ك «غازيلا» و«فالكو» و«دولسيس» و«براديزيس». وكانت هذه السفن ذوات المقاذيف، التي لا تجهز بالأشرعة إلا حين ملاءمة الهواء، تغادر المرفأ مع مرقاة خارجية مشابهة لجسورنا الضيقة، وكانت ذات مراس معلقة بحبال بدلا من المراسي ذات السلاسل في القرون القديمة، وكان هذا الأسطول شبه الحربي في ذلك الحين يحمي التجارة وفق أسلوب مماثل لمنهاج مراكب الحراسة في الوقت الحاضر، وذلك حين عودة السفن من الشرق مشحونة بأوساق ذات قيمة، وكان يوجد لهذه السفن الضخمة في الغالب مالكون كثيرون فيكون أحدهم راكبا فيها.
ولم يكن من النزه الجميلة أن يسافر في البحر المتوسط في القرون الوسطى، وقد أبحر الصليبيون كالحيوان ووجدوا أنفسهم من السعداء لمعاملتهم على هذا الوجه، ومما جاء في تاريخ قديم أن ملك فرنسة أمر الجنويين بأن يضعوا في المراكب علفا للخيل لمدة ثمانية أشهر، وخمرا لمدة أربعة أشهر فقط، وإذا ما حمل تاجر غني معه دواجن حية كان مؤرخو ذلك العصر يسجلون هذا الترف كما تسجل جرائد أيامنا فارسا سنمائيا يبحر مع خيله المسرجة.
وقد نشأ المركب الحربي وفق مثالين أصليين، ولم يكن أحدهما، ويعرف بالغليون، غير سفينة شراعية، وكان ذا طبقات كثيرة، وكان أعرض وأعلى من المركب العادي، وكان يبلغ من الطول ثمانية وعشرين مترا ومن العرض تسعة أمتار، وكان هذا المركب ثقيلا غير سهل الاستعمال ولكنه من المتانة ما يستطيع أن يحمل معه مدفعين. وأما المثال الآخر، ويعرف بالغلياس، فكان يبلغ من الطول خمسة وخمسين مترا مع دخول أربعة أمتار في الماء، وكان أبطأ من الغليون، ولكن مع قدرة على إطلاق النار أكثر منه، وكان ما تصيب مدافعه به الهدف من القنابل يزن 36 رطلا؛ أي ما يقتل جمعا من الناس في سفينة العدو، وقد ظل طراز المراكب هذا مستعملا في المعارك البحرية حتى سنة 1800.
وكان أهل جنوة يرسلون قناصلهم إلى الحرب منعمين عليهم بلقب «أمير البحر» أحيانا؛ أي بهذه الكلمة العربية التي بدئ باستعمالها في أثناء الحروب الصليبية بدلا من الكلمات اللاتينية: «كابيتانوس» و«دوكس» و«ركتور». وفي البندقية وحدها كان يحق لأحد الأشراف أن يقود سفينة حربية كبيرة وأن يحلف مقدما أنه يقاتل وحده خمسة وعشرين مركبا من مراكب الأعداء، وهذا ما وقع في ليبانت فعلا.
Unknown page