وقد وجدت وحدة الإغريق بسرعة كبيرة كما عرضت للخطر؛ وذلك لأن الفلسفة لا تنطوي على «نداء حرب» للجمهور، وقد عاش الرومان زمنا طويلا بفضل قانونهم المشترك وبفضل دولتهم القوية التنظيم، وقد وحد الإسلام، الذي فرض بغتة بدستور كفريق جديد، عروقا وشعوبا كثيرة بما هو أبقى مما صنعته النصرانية، ومع ذلك فقد انقسم الإسلام كما انقسمت النصرانية، وكانت الحبة التي يجب أن تنبت وتنشئ إمبراطورية من بذر مفكر، وقد تمثل هذا المفكر الفكرة ثم حققها بالفتح. وقد ترك محمد وراءه جزيرة العرب موحدة، ولما اقتسم قواده، بعد زمن، وفيما بينهم، فارس ومصر وبلدانا أخرى سيطر عليها حديثا عقب فتوح سريعة كان يمسك دين جديد هذه الأقطار موحدة، ولم يكن هذا الدين رمزيا ولا مبهما كدين الأغارقة، وإنما كان منهاجا ناظما للحياة ودستورا للأخلاق والصحة. ومع أن النصرانية ساعدت على بقاء الإمبراطورية الرومانية المسنة ثلاثة قرون أخرى، لم ينم الإسلام نموا تاما إلا بإقامة ممالك عربية يرتبط بعضها في بعض بديانة واحدة ولغة مشتركة. وقد انتشرت النصرانية ببطوء وهدوء، وقد انتشر الإسلام بسرعة وجهاد، واليوم يدين بكل من الدينين مئات الملايين من الآدميين.
ولم تكن فتوح العرب من الحروب الدينية، بل كانت نتيجة انتصارات شعب مقاتل شديد الشكيمة، وهي تختلف عن فتوح الجرمان حول البحر المتوسط اختلافا أسياسيا من حيث الثقافة والاجتماع، وما كان من تحول هذه الحروب إلى حروب ضد النصرانية هو معلول سياسي لا علة أولية، وهكذا بدا هذا الحادث الغريب، وهو أن القبائل الجرمانية، حين غزت بلاد البحر المتوسط فيما بين القرن الخامس والقرن التاسع واعتنقت النصرانية التي كانت دينا تهاجمه، لم تظهر من غير البرابرة ولم تعد من غير البرابرة على الرغم من ذلك، وعلى العكس واصل العرب بما فيهم من قوة إدغام، كما عند اليهود والفنيقيين، ما وجدوه حول البحر المتوسط من الحضارات الراقية جدا، ولما فتح الخليفة الثاني عمر مدينة القدس بعد وفاة النبي بخمس سنين لم يعامل النصارى بسوء قط، ولكنه طرد منها الفرس، وكان البطرك النصراني الذي سلم إليه القدس لا يزال من رعايا بزنطة كما كان أسلافه، وكانت القدس رومانية مدة ستة قرون بلا انقطاع تقريبا؛ أي من زمن عيسى حتى زمن محمد، وهي لم تنفك تكون مسلمة منذ سنة 637 حتى سنة 1918، وذلك خلا فترة قصيرة.
ولم يدنس مسلم قبر عيسى، وعيسى ممن يؤمن بنبوته المسلمون، ويمضي زمن فتشتعل الحروب عن تطرف وتوقد نار الحروب الصليبية عن إفراط، وكان لا بد من ظهور أذكى رجال البحر المتوسط، فردريك الثاني، حتى ينظم في أثناء حديث سريع مع السلطان جميع الوظائف الدينية في القدس بروح من التسامح، وقد بلغت هذه النتيجة مع الترك بعد حين.
وإذا ما تركنا جانبا حروب الإسلام ضد فارس ومصر لعدم وجود علاقة مباشرة لهما بحياة البحر المتوسط، وجدنا العرب يحاربون فريقين من الدول فيما بين القرنين السابع والتاسع، يحاربون بزنطة والجرمان، وما اتفق لسلطان أبناء الصحراء من سرعة نشوء في قوتهم البحرية يقضي بالعجب، ومن قول محمد: «نصر فوق البحر يعدل عشرة انتصارات فوق البر.»
34
ومن الواقع أن العرب غلبوا أسطول بزنطة عدة مرات فتقدموا حتى رودس وقبرس، ووجدوا طريق بزنطة مفتوحة أمامهم، وهم لم يوقفوا إلا أمام هذه المدينة نتيجة لمقاومة أسوار ثيودوز وبفعل «النار اليونانية» التي اخترعت حديثا. وكان حصار العرب لبزنطة الذي دام سبع سنين أطول حصار تم في تلك الزاوية من العالم منذ عسكر أشيل أمام تروادة؛ أي أطول من حصار صور وكورنث وقرطاجة وسرقوسة، ومع ذلك فإن بزنطة قاومت، فأنقذت أوروبة كما يقال عادة، ومن أي شيء أنقذت في الحقيقة؟ لو صارت أوروبة مسلمة منذ اثني عشر قرنا ما أصبحت أقل حضارة، ولا أقل سعادة، فلم تكن أفضلية أوروبة قاطعة في ذلك الزمن كما أضحت في القرن السابع عشر حين حصار فينة من قبل الترك. وكان تأثير الإسلام الثقافي خصيبا من كل ناحية، فتعلم الفرس والمصريون لغة العرب، على حين كان العرب يدرسون الرياضيات اليونانية والطب اليوناني ، وقد أقامت الإسكندرية والبصرة والقاهرة وقرطبة جامعات عربية نشرت معارفها حتى باريس وأكسفورد وبادو بواسطة طلاب من النصارى، وذلك إلى أن جميع البحر المتوسط كان يحيا بحركة ثقافية. وما كادت مئتا سنة تمران حتى كانت الأمم المسنة قد تلقت من العرب علم الجبر والحساب العشري والرقاص واستعمال الآلات الفلكية والأدوية المخدرة، كما تعلمت منهم الصباغة والدباغة والوشي وصنع الزجاج والخزف والبسط والورق، كما تعلمت منهم البستنة والري وزراعة الأثمار الجديدة، وفي فن البناء اقتبست أوروبة من العرب الأقواس المصنوعة على شكل نعل الفرس، والنقوش على هيئة النباتات والحيوانات وفن الترصيع، ثم إن العرب فجروا الماء داخل البيوت وفي الساحات والحدائق وفي كل مكان.
وهنالك عنت لرجل خطة التوفيق بين الديانتين القريبتين بدلا من أن تتنازعا عن نفرة، وذلك أن الإمبراطور ليون الذي هو سوري يوناني، والذي شجع بحركة غير مكرمة للصور والتماثيل كاسرة لها، حاول أن يجد في وحدانية الله وفي عدم الأصنام أساسا للتوفيق ممكنا صالحا للجميع، غير أن الرهبان عارضوا، غير أن البابا قاوم مثيرا مصالح إيطالية السياسية في سبيل أغراضه، ولما أدرك أسطول بزنطة الغرق لم يكن يسوع ولا الرب حاضرين، أو إنهما كانا حاضرين في الزوبعة ليحولا دون التوفيق.
ويتصادم الغازيان الأجنبيان في إسبانية للمرة الأولى، ومن المحتمل أن بدأ هنالك تمازج العروق العظيم بما يصلح به النوع البشري؛ أي حدث ما ينم على أكبر الفروق بين الإنسان والحيوان، ثم تقع توالدات مهمة في صقلية على الخصوص.
وكان جوستينيان في القرن السادس قد قضى على الأستروغوت والوندال، وعن العرب قطع أسطول بزنطة اللنبار الذين استولوا على إيطالية مؤخرا، ولكن الفزيغوت، الذين لم يزالوا مستقرين قريبا من جبل طارق حتى ذلك الحين، ظلوا مواجهين للعرب الذين فتحوا شمال أفريقية حوالي سنة 700. وكان في ذلك البلد فريق من البربر والبزنطيين؛ أي من الأفريقيين والأغارقة، قد قاتل في سبيل السلطان زمنا طويلا. ولما جاوز الأمير العربي الأول مضيق جبل طارق سنة 771، كان، على ما يحتمل، أول آسيوي ظهر فاتحا في غرب البحر المتوسط بعد الفنيقيين بخمسة عشر قرنا، وكان جيشه مؤلفا، على الخصوص، من مقاتلة من بربر جبال درن اعتنقوا الإسلام، وبالمغاربة سميت ذرية هؤلاء البربر الذين امتزجوا بالعرب وبرومان إسبانية وجرمانها.
ويمتاز بجمال البدن هؤلاء القوم الذين يدعون تارة بالمغاربة وتارة بالبربر دعاء غير صحيح، والذين يبلغ عددهم اثني عشر مليونا في الوقت الحاضر، وكان أجدادهم قبل الميلاد بثلاثة قرون يعدون من شقر الشعور وزرق العيون فيهدم هذا نظرية اختلاط الدم الجرماني، ومع ذلك فإن من الغريب أن ترى كثرة القربى بين أخلاقهم وأخلاق العرب. وكان عندهم مزاج المحارب الخيالي أيضا، وكانوا مختالين محتالين متعصبين، وكانوا مشهورين بأنهم من السحرة الماهرين إلى الغاية مع الشرف البالغ، فاتفق لهم بذلك صيت ذو غرابة عند البحث المقارن في أحوال الأمم، وكانوا في ذلك الدور أيضا مزارعين وبستانيين ماهرين في أعمال الري عارفين كيف يحولون المنحدرات البرية إلى رياض زيتون وتين، ومنهم تلقى بدويو السهوب فن البستنة الذي صاروا متخصصين فيه أخيرا فملئ به شعرهم.
Unknown page