7
قدرت محاسن النظام الملكي من قبل الديمقراطيات دوما، وقدرت مساوئه من قبل الملكيات دوما، وينزع في كل وقت إلى لوم شكل الحكومة القائمة، ويبالغ في تقدير الحكومة الجارة التي لا ترى معايبها من بعيد، ولو نظرت إلى الأمر منذ عهد الفراعنة حتى عهد آل هابسبرغ لوجدت كل بيت مالك قد أنعم على شعبه بالديمومة وقد أساء إلى شعبه بما أنتجه من الوارثين العاجزين الذين تعاقبوا السلطان مع آخرين مقتدرين أنجب بهم. وأحسن حل للمسألة هو أن يختار العاهل من يخلفه، وإذا حدث أن تبناه، وإذا حدث أن دعاه ابنا له، فإن الأمر يكون قد تقدم خطوة إلى الأمام، بيد أن تفضيل غريب قدير على ابن عاجز أمر يتطلب قوة نفس بحكم الطبيعة.
وتؤثر أفكار ودسائس تأثيرا مزعجا في خيار أغسطس الذي توقفت وراثة عرشه على بضع عشرة ضباط نادوا بإمبراطور جديد في معسكر وبثلاثة أباطرة مختلفين في ثلاثة معسكرات أحيانا. ثم نودي بعضو السنات، نرفا، إمبراطورا فسهل عليه أن يتبنى خلفا لعطله من ابن، ويتعاقب السلطان بعد ذلك أربعة أباطرة عن تبن، ويبدو هؤلاء أباطرة ممتازين لا ترى مثلهم في سلسلة الملك المتصلة الوراثية. وقد قبض على زمام الدولة الرومانية كل واحد من هؤلاء الأباطرة الأربعة بعد الآخر في ثلاثة أجيال؛ أي من تراجان إلى مارك أوريل؛ أي من سنة 98 إلى سنة 180، فظهر من الخير سابق تدرجهم إلى السلطان، وقد انقطعت منازعات الأحزاب والجيوش الشخصية التي كانت تؤدي إلى سنوات فتن، فصرت لا تبصر تمردا ولا اغتيالا.
وكان تراجان عارفا بالبحر، وتتجلى سجيته الإنشائية الجدية في الأشغال التي كان يأمر بها، ومنها مرافئ على البحر الأدرياتي وعلى نهر التيبر، وإصلاح القناة في السويس، وجسر نهر تاجه المشهور المعدود من الأوابد والقائم على ست قناطر تبلغ كل واحدة منها 85 قدما. ومما يوكد طبيعة تراجان العسكرية ما وقع من غزوات ضد الفرطانيين، فقد سار على أثر الإسكندر وبلغ المحيط الهندي، ولكن مع علمه كيف يعود في الوقت الملائم، وفي عهده يكون قد مضى على قيام الإمبراطورية الرومانية مائة سنة فبلغت أوج عظمتها. وكان هذا الروماني، المولود في إسبانية والذي هو أول إمبراطور من الولايات، ولوعا بالمطالعة، فيذكرنا ما كان بينه وبين بليني الشاب من رسائل بأعاظم ملوك القرن الثامن عشر، وقد شمل تاسيت وبلوتارك وبليني وجوفينال بعين رعايته فوضعوا آثارهم في عهده، على الخصوص، كما وضع يوحنا الإنجيلي. أجل، لم يبلغ عهده من الأبهة ما بلغه عهد أغسطس، غير أنه ينم على العصر الذهبي الحقيقي الذي امتزج فيه السلطان مع السلم فبلغا ذروتهما.
وكان تراجان جنديا حقيقيا، وكان ذا وجدان وحذر فتردد كثيرا قبل أن يتبنى خلفا له، قبل أن يتبنى أدريان الذي كان على النقيض منه بطبعه المتوقد وألمعيته. وكان أدريان أول من شجع على الالتحاء تقليدا لفلاسفة اليونان ودلالة على ميله إلى الحضارة اليونانية، وكان أدريان إسبانيا أيضا، وهو، على ما فيه من مزاج جندي، انتحل سياسة دفاعية وأنشأ حصونا ضد الجرمان والبريتان الذين كان لا يرى عمل شيء تجاههم. وهو قد كان عالميا في آرائه وفي فهمه أمر مختلف العروق، فاتخذ من التدابير ما يلائم العبيد. وهو قد استطاع أن يحفظ الأمن مع غرابته في بعض الأحيان، وهو قد جهز الجيش بإلهة جديدة، جهزه بالنظام. وهو قد قضى نصف عهده في الأسفار، فكانت أثينة محل إقامته المفضل؛ حيث توحي بقايا معبده عند سفح الأكروبول في أيامنا بمنظر ذي طابع يوناني، وهو قد نقش على ناحية من باب منزله الجديد بتلك المدينة قوله: «هنا أثينة، مدينة تيزه القديمة»، كما نقش على الناحية الأخرى: «هنا مدينة أدريان، لا مدينة تيزه.» وهو قد وسع نطاق التبني مشترطا على خلفه أن يتبنى بدوره ابن أخ نابغة له.
وكان ابن الأخ هذا غلاما وسيما حنونا جديا مغامرا بالغا من العمر سبع عشرة سنة، وكان اسمه مارك أوريل، ويجعل أنتونن التقي ابن أخيه الغلام الطالب قريبا منه، ويسفر ذلك عن تعاون بين الإمبراطور ووارثه يندر وقوعه في الأسر المالكة التي تهزها الدسائس ، ولم تمس تلك الصلات العجيبة بأي كدر مدة ثلاث وعشرين سنة حتى بزواج الفتى بابنة عمه. وقد حافظ صاحبا ذينك الطبعين الكريمين، في الخارج، على السلم التي تجمع بينهما؛ ولذا كان من الإصابة قول أحد الخطباء: «ليست الإمبراطورية غير بلد واحد.» ولما أصيب أنتونن بالحمى قريبا من العاصمة، واضطجع على سرير موته، لم يكن حارس الليل ليعرفه فسأله عن كلمة السر، فكان جوابه؛ أي آخر كلمة نطق بها الإمبراطور: «الإنصاف».
وكان مارك أوريل في الأربعين من عمره حينما صار إمبراطورا، ولكنه كان له في ثماني سنين أخ بالتبني فاسد فاحتمله صابرا، ومع أنه كان فيلسوفا طبيعة وتربية وبيئة فإنه كان نشيطا بمزاجه وأكثر استعدادا لتحمل المسئولية وللجلوس على العرش من معظم أمراء القرون القديمة. والواقع أن المذهب الذي يدعو إلى صفاء الروح قد اعتنق من قبل صاحب نفس صافية مصادفة، ومن قول رينان عدم اشتقاق ديانته من عرق أو عقيدة، وإنما كانت مظهرا لخلق عميق، وقد وضع مارك أوريل السؤال الآتي: أويمكن التوفيق بين الحكمة والحقيقة؟
ومن المحتمل أن تعلم الاعتدال والاتزان من تربيته الطويلة كأمير فعرف قدره بما قام به من أعمال في أثنائها، ولم يكن فن الحكم غريبا عنه، والمسئولية وحدها هي التي كانت جديدة عليه. وكان مارك أوريل قد درس، في زمن طويل وبنشاط، مبادئ الأخلاق والنظم ورومة وولاياتها وأمراء الإمبراطورية، التابعين وأعداءها ومطاليب الجماهير والطبقات الموسرة والدولة والرجال على العموم، فاستطاع إذن، أن يبدأ عهده سيدا من فوره، وإلا صعب إيضاح ما بين الأفكار والأعمال، وبين العزم والتأمل، من توازن يدل عليه عهده الذي دام عشرين عاما.
ولا ننسى أن جميع هؤلاء الأباطرة كانوا طغاة جبابرة من الطراز القديم فيكترثون لنيل الحظوة لدى الشعب والجيش أكثر مما لمنافقي السنات والقناصل، وأكثر من ذلك ميلهم إلى الحكم المطلق وسيرهم مع الأهواء وولعهم بالنساء وحبهم للزهو والانتقام.
ولا ينم تمثال مارك أوريل النصفي حين شبابه على زاهد أو حكيم، بل يدل على خيالي، ويعرضه تمثال الكابيتول رجلا ملتحيا متزنا حازما. ومن ينظر إلى الوجه الذي كان يرى به الواجب، فتلقاه من حفيد لبلوتارك، وإلى صفائه وعزمه وحذره، يجد كل ذلك مبادئ بادية في كتاباته، وقد سيرته هذه المبادئ قائدا كما سيرته قطبا سياسيا مع تذكيرها إياه بأنه فيلسوف.
Unknown page