وليس الرجل الذي تسأله المحكمة الآن متهما بجرم، وكان كل ما يطلبه الأغارقة من هذا الأجنبي يوضع في قالب محاضرة من الاستعلام الممزوج بالمجاملة؛ ولذلك ليرى هل يؤذن له في مخاطبة الجمهور. وكان الأجنبي يعرف أنه لا يحكم عليه بشرب السم، وإن كاد يرجم ذات مرة، وكان هذا الأجنبي دربا بالسجون والأغلال، فيشك في أن ينال جزاء آخر، وكل ما كان يعلمه في الحقيقة هو مذهب الناصري الأكبر منه سنا ببضع سنين فقط.
ويمضي على صلب يسوع عشرون عاما فلم تؤد تعاليمه إلى حماسة عامة، وإنما كانت توجب ضجيجا ومعارضة، وكان المؤمنون يجمعون في بيوت الفقراء واحدا بعد الآخر، ومن هو، إذن، ذلك الرجل البالغ من العمر خمسين سنة والأشيب اللحية واللابس حلة فيمد ذراعه اليمنى متخذا وضع خطيب روماني؟ كان ذلك الرجل بالغا من الجرأة ما يتكلم به عن إله الروح الجديد في وسط أثينة حيث السخرية والغطرسة وحيث كان الرواقيون والإبيقوريون المتخاصمون يرون أنهم أعلى من كل من يجرؤ على إنكار أمرهم. وعلى الرجل الذي يود أن يأتي بمذهب جديد أمام مجلس الحكماء أن يكون ذا عرفان وإقدام وإيمان وعزم، وأن يكون جامعا في شخصه لليهودي من الوجهة الدينية وللإغريقي من الوجهة الثقافية وللروماني من الوجهة العالمية.
كان ذلك هو الرسول بولس الذي هاجم في تلك الليلة أهل أثينة المرتابين، وفي الرسول بولس كان يجتمع - كما في قليل من رجال عصره - ثلاث صفات ذكرناها، وكان في دور حياته الصاعد بالأثر الذي يحدثه وبالتراث الذي ينقله، وكان يسير ليصير من أقوى رجال القرون القديمة، وهو قد ترك في التاريخ من الطابع الدائم ما يعدل أثر بركلس أو الإسكندر أو قيصر. وهو الرجل الذي أخذ يحول النصرانية التي هي مذهب يهودي إلى ديانة عالمية. وهو الذي كان بأصوله وعمله يجمع في شخصه أقوى اندفاعات اليهود واليونان والرومان، فيطرح قواعد النظام المسيطر على معظم شواطئ البحر المتوسط منذ ألفي عام، وهنالك شخص واحد فقط كان يمكنه أن يستفيد من المصائب التي جاوزها، وهذا النشاط الباهر هو الذي يميز أخلاق بولس من أخلاق جميع الرسل الآخرين. ولو كان هذا الروماني الصاحب لنفس دنيوية ابنا لوثني لصار عضوا في مجلس السنات أو نائب قنصل في إحدى الولايات، ولكنه كان ذا رسالة أعظم من ذلك يقوم بها. وقد ولد في طرسوس بآسية الصغرى؛ أي في هذه المدينة التي كانت مع الإسكندرية وأثينة مركزا للحضارة اليونانية، وقد نشأ في بلده وفي أورشليم جامعا للحكمة اليونانية واليهودية، وقد كان ابنا لحائك بسط فزاول صنعة أبيه، ولما بلغ الثلاثين من عمره عاد إلى أورشليم. وفي أورشليم ناهض بما أوتي من قوة فريسي ذلك المذهب الناشئ الصغير الذي هو مذهب هؤلاء اليهود النصارى الذين كانوا يعدون مثل المسيح نبيا متهوسا ويلقون الشبهات حول شريعة إسرائيل القاسية، ولما قبض الجمهور على أحدهم (أسطفان) لدعوته إلى مثل هذه المذاهب اتبع بولس الجمهور وأشار عليه برجم أسطفان. وهكذا يبدأ تاريخ رسولي يسوع بإنكار المعلم، بخيانة بطرس إياه وقتل بولس تلميذه، ويلتقي الرسولان بعد حين ويعترف كل منهما للآخر بأقتم ساعة في حياته، وهنالك لم يبق لهما غير الانتحار أو الإخلاص التام للمذهب الذي كانا قد أنكراه، وقد اختارا الأمر الثاني فكفرا عن كفرهما الأول بعد إخلاص ثلاثين سنة أو تزيد.
وكان بولس أعظم الاثنين بمراحل، وكان بطرس قد خان معلمه فبدا مجددا أضعف الاثنين في كفاحه المشهور المشترك مع بولس، وهو قد أذعن وأذن للوثنيين في الأكل حول مائدة واحدة مع اليهود، وهو لم يسطع أن ينال مكانه في الأسطورة مع مفاتيح الجنة إلا بسبب القول المشهور المأثور عن يسوع الذي كان كثير الثقة به، وما صدر عنه من إنكار ليسوع قبيل موته كان ذنبا عظيما، مع أنه يدرك أمر تعصب بولس الذي لم ير يسوع قط، ولم يكن لدى بطرس ذلك الاطلاع الواسع على العالم الذي يعد بولس مدينا له بكل شيء، ولا يعرف كبير شيء عن العمل الذي قام به بطرس في الإمبراطورية الرومانية، ويشك أكابر علماء اللاهوت حتى في ذهابه إلى رومة وصلبه. وفي الحقيقة كان يجب أن تدعى كنيسة القديس بطرس كنيسة القديس بولس، كما كان يجب أن يحمل التمثال الذي يقبل الحجاج قدمه البرونزية كتابا وسيفا بدلا من مفاتيح بطرس.
والواقع أنه كان لبولس صفتان: صفة العالم وصفة المقاتل، وينم أسلوب رسائله التي قام عليها مجده وتأليف هذه الرسائل على أنه كان يونانيا عظيم الثقافة، وقد تعرف أيام صباه في طرسوس بأستاذ أغسطس وصديقه أتنودور الطاعن في السن، ومن المحتمل أن سمعه أيضا يوضح أمام تلاميذه، وفي شارع ظليل على ضفاف البردان،
7
المذهب المشهور القائل: «عش مع الناس كما لو كان الله يراك، وخاطب الله كما لو كان الناس يسمعونك.»
ولكن بولس كان رومانيا أيضا، وهذا ما أنقذ حياته في أمرين خطرين على الخصوص، وقد كان له بهذه الصفة ملجأ رجولي ووقار طبيعي ألقى بهما حيرة في نفوس أكابر موظفي الإمبراطورية بعد زمن، وهدى بهما إلى كنيسته ألوف الرومان الذين ما كانوا ليوافقوا على بدع دينية كثيرة كتلك أتى بها غير روماني؛ أي ابن من شعب في المرتبة الدنيا، ولو كان لوقا الإنجيلي قد عرضه باسمه التام، كايوس جوليوس بولس أو سولوس، لأدرك الأعقاب أمره جيدا. وما فتئت رومة تجتذب بولس مدى حياته؛ لأنه كان رومانيا، وهو لما بلغ عاصمة العالم هذه بعد جهاد عشر سنين وجد فيها أوسع مجال لنشاطه. وهو لا يعد مؤسسا للكنيسة الرومانية؛ لأن رأسه قطع في رومة، بل لنشاطه فيها سنين كثيرة، وجهاده مدى حياته، لا شهادته، هو الذي جعل منه أبا للكنيسة الرومانية، وما كانت هذه الكنيسة لتقوم بغير رجل يرى العالم وطنا له، وما الوجه الذي اعتنق به النصرانية إلا من صفات الخلق الروماني، فبعد رجم أسطفان بزمن قليل ذهب بولس إلى دمشق راكبا فرسا لرجم أتباع يسوع الآخرين، وإنه لفي الطريق إذ يرى يسوع في منامه ذي الصبغة الرومانية، وكان بولس وأصحابه ركبانا، وفي قصصه، وفي مختلف الصور التي تمثل هذا المنظر، يعرض فارس يسقط، مع ضوضاء، من ظهر حصانه السائر ذات اليمين وذات الشمال، ويطرحه على الأرض سهم ملتهب، وذلك كما في الأساطير اليونانية القديمة حين أبدت زوس للآدميين، ولم ينشأ ذعره عن أحد الأرواح، بل عن قدرة علوية، وهو قد أذعن لعجزه عن قهر هذه القدرة بالسلاح.
وينتهي هذا المنظر الدرامي،
8
Unknown page