Al-Baḥr al-Madīd fī Tafsīr al-Qurʾān al-Majīd
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
Editor
أحمد عبد الله القرشي رسلان
Publisher
الدكتور حسن عباس زكي
Edition
١٤١٩ هـ
Publisher Location
القاهرة
Genres
Tafsīr
ثم كرّر الحق تعالى الأمر بالتوجه إلى الكعبة لعلة أخرى سيذكرها، فقال: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وحيثما حللتم فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. قال البيضاوي: كرر هذا الحكم لتعدد علله، فإنه تعالى ذكر للتحول ثلاث علل: تعظيم الرسول ﷺ بابتغاء مرضاته، وَجَرت العادة الإلهية على أن يُولِّي أهل كل ملة وصاحب دعوة وجهة يستقبلها ويتميز بها، ودفع حجج المخالفين على ما بينه، وقرن كل علة بمعلولها، مع أن القبلة لها شأن، والنسخ من مظان الفتنة والشبهة، فبالحَرِيِّ أن يُؤكد أمرها ويعاد ذكرها مرة بعد أخرى. هـ.
ثم ذكر العلّة الثالثة وهي دفع حجج المخالفين، فقال:
[سورة البقرة (٢): آية ١٥٠]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠)
قلت: الاستثناء من (الناس) أي: لئلا يكون لأحد من الناس حجة عليكم إلا المعاندين منهم، و(لأتم) متعلق بمحذوف، أي: ولإتمام نعمتي عليكم وإرادة اهتدائكم أمرتكم بالتحول، أو معطوف على محذوف أي: واخشوني لأحفظكم ولأتم نعمتي عليكم.
يقول الحق ﷻ: وإنما أمرتكم بالتوجه إلى الكعبة دون الصخرة لتدفع حجج الناس، فإن اليهود ربما قالوا: المنعوت في التوراة قبلته الكعبة، وهذا يستقبل الصخرة، أو إن محمدًا يخالف ديننا ويستقبل قبلتنا. والمشركون ربما قالوا: يدعي ملّة إبراهيم ويخالف قبلته، فأمرتكم باستقبال القبلة دفعًا لحجج الناس، إلا المعاندين منهم فلا ينقطع شغبهم، فإنهم يقولون: ما تحول إلى الكعبة إلا مَيلًا إلى دين قومه، وحبًّا لبلده، أو بَدَا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم.
فلا تخافوهم ولا تلتفتوا إلى مَطاعنهم، فإنها لا تضركم، وَاخْشَوْنِي أكْفكم شرهم، فإن مَن خافني خاف منه كل شيء، ومَن لم يخشني خاف من كل شيء، وأمرتكم أيضًا بالتوجه إلى قبلة جدكم لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بإقرار عين نبيكم، وإرادة اهتدائكم، فاشكروا ما أوليتكم، واذكروا ما به أنعمت عليكم أزدكم من فضلي وإحساني، وأسبغ عليكم إنعامي وامتناني.
الإشارة: من حكمة المدبر الحكيم أن دبر ملكه العظيم، ووجه كل فرقة بوجهه من مصالح عباده، أفناه فيها وولاه إياها. فقوم اختصهم لمحبته واصطفاهم لحضرته وهم العارفون، وقوم أقامهم لخدمته وأفناهم في عبادته
1 / 181