[الجزء الاول]
ترجمة المؤلف
«١»
اسمه
: هو نصر بن محمد، بن أحمد، بن إبراهيم، أبو الليث، الفقيه السمرقندي، المشهور ب: إمام الهدى.
وذكر له كحالة في «معجم المؤلفين» صفاتا منها: «فقيه، مفسر، محدث، حافظ، صوفي» اه.
أما كونه فقيها فهذا صحيح، كونه ذكر في عدد من «طبقات الحنفية» . ويدل على فقهه وسعة علمه كتابيه: «المقدمة في الفقه»، «وشرح الجامع الصغير» .
وهو مفسر أيضا، يدل على ذلك كتابه هذا «بحر العلوم» وقد ذكره الداوودي في «طبقات المفسرين» .
أما عن أنه محدث حافظ «٢» ففي ذلك نظر، فقد قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء»: وتروج عليه الأحاديث الموضوعة إلّا أن له رواية، يروي عن: محمد بن الفضل بن أنيف البخاري اه.
وروى عنه: أبو بكر محمد بن عبد الرحمن الترمذي، وغيره.
وهو صوفي له باع في علومهم، فمن ذلك كتابه: «بستان العارفين» .
وفي «طبقات الحنفية» للكنوي: أنه أخذ عن، أبي جعفر الهندواني، عن أبي القاسم الصفار، عن نصير بن يحيى، عن محمد بن سماعة، عن أبي يوسف.
وهو حنفي المذهب ذكر ذلك في «تاج التراجم»، و«الجواهر المضية»، و«الفوائد البهية» وغير ذلك. وقد أخطئوا في «دائرة المعارف الإسلامية» «٣» حيث عدّوه فقيها حنبليا.
مؤلفاته
: ١- بحر العلوم، كتاب في التفسير.
وقد شكّك الزركلي في «الأعلام» «٤» في نسبة هذا المخطوط إلى أبي الليث السمرقندي، مقلدا بذلك حاجي خليفة في «كشف الظنون» «٥» ونسبه إلى سمرقندي آخر اسمه: علي، من أبناء المائة التاسعة.
_________
(١) أنظر ترجمته في: طبقات المفسرين ٢/ ٣٤٥، سير أعلام النبلاء ١٦/ ٣٢٢، تاج التراجم ٥٨- ٥٩، الجواهر المضيئة ٢/ ١٦٠، الفوائد البهية ٢٢١، كشف الظنون ٢٤٣، ٣٣٤، معجم المؤلفين ١٣/ ٩١، معجم سركيس ١٠٤٥، إيضاح المكنون ١/ ٤٧٤.
(٢) أخطأ كحالة في معجم المؤلفين ١٣/ ٩١ فقد أحاله إلى «تذكرة الحفاظ» ولم يذكره الذهبي.
(٣) دائرة المعارف الإسلامية- النسخة المصرية- ١/ ٣٩٦.
(٤) الأعلام ٨/ ٢٨.
(٥) كشف الظنون ١/ ٢٢٥.
1 / 3
والصواب أنه لأبي الليث نصر بن محمد السمرقندي، المترجم له.
إلّا أن كلام حاجي خليفة صحيح من حيث نسبة تفسير «بحر العلوم» إلى علاء الدين علي بن يحيى السمرقندي القرماني، المتوفى في حدود سنة ٨٦٠ ب: لارندة. وهو شيخ علاء الدين البخاري. إلا أنه لم يتنبه إلى وجود تفسيرين لسمرقنديين يحملان نفس العنوان. ولقد ذكر في «الشقائق النعمانية» أنه لم يكمله، بل بلغ فيه إلى سورة المجادلة. بينما «بحر العلوم» الذي ألفه أبو الليث نصر بن محمد السمرقندي فهو تام- وسيأتي في وصف المخطوطة بيان ذلك-.
ففي فهرس «المكتبة العبدلية» «١» نسخة من مخطوطة «بحر العلوم» لعلاء الدين علي بن يحيى السمرقندي المتأخر. الجزء الأول- من سورة الفاتحة، وتنتهي إلى قوله تعالى، وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً من سورة المائدة ... وفيه ما نصه: نسخت مسودة كتاب علاء الدين السمرقندي المسمى «ببحر العلوم» فوق لفظ نسخت- يعني: ولي بن مصطفى بن إسحاق، من أحباس الوزير خير الدين على المكتبة الصادقية سنة ١٢٩٢.
ومن مؤلفاته أيضا.
٢- تنبيه الغافلين. ط.
٣- خزانة الفقه، على مذهب أبي حنيفة. ط.
٤- وبستان العارفين في الآداب الشرعية. ط.
٥- عمدة العقائد. خ.
٦- فضائل رمضان. خ.
٧- المقدمة، في الفقه. ط.
٨- شرح الجامع الصغير، في الفقه.
٩- عيون المسائل، خ.
١٠- دقائق الأخبار في بيان أهل الجنة وأهوال النار. خ.
١١- مختلف الرواية، في الخلافيات بين أبي حنيفة ومالك والشافعي. خ.
١٢- شرعة الإسلام، فقه. خ.
١٣- النوازل من الفتاوى. خ.
١٤- تفسير جزء عم يتساءلون، موجز. خ.
١٥- رسالة في أصول الدين. خ.
_________
(١) أنظر فهرس جامع الزيتونة، المكتبة العبدلية ص (٤٠) .
1 / 4
وفاته
: قال الكنوي: ذكر صاحب «مدينة العلوم» وفاته ليلة الثلاثاء لإحدى عشرة خلت من جمادي الآخرة سنة ٣٩٣، وذكر علي القاري في طبقاته: أنه مات بكورة بلخ سنة ٣٧٦، وذكر هو في «شرح الشفا» لعياض أنه مات سنة ٣٧٣ هـ، وذكر صاحب «الكشف»، وفاته عند ذكر «البستان»، و«التفسير»، و«تنبيه الغافلين» سنة ٣٢٥، وعند ذكر «خزانة الفقه»، سنة ٣٨٣. وسيأتي عن الكفوي أنه مات سنة ٣٧٣.
وصف المخطوط
اعتمدنا في تحقيق هذا التفسير على مخطوطتين. الأولى: بدار الكتب المصرية. رقم ٥٦ تفسير.
خطها: نسخ دقيق واضح، ميزت الآيات بالحمرة، والتفسير بالمداد الأسود.
أوراقها: ٥٤٣.
مسطرتها: ٢٩.
وفي آخرها ذكر تاريخ الفراغ من كتابتها في يوم الأحد مستهل محرم من سنة ٩٩٢ هـ.
وقد اعتبرناها النسخة الأصل، لأنها أكثر ضبطا وقليلة الأخطاء.
والثانية: هي نسخة جامعة «أدينبرج» رقم ٣٦٨٨ مكتبة شستربيتي. فيها نقص لأربع سور من الحجر إلى آخر الكهف. وهي في أربعة أجزاء.
خطها: مشرقي.
أوراقها: ٣٥٢ مسطرتها: ٢٤ في أولها فهرس المواضع السور وللمواضيع.
ولم يظهر تاريخ النسخ عليها. إلا أن هذه النسخة تعتبر متقدمة بالنسبة للمخطوطة الأولى، وهناك تباين ظاهر بين المخطوطتين بالنسبة للنص، وكأن هذه المخطوطة مسودة لكثرة الأخطاء التي فيها- وهي ليست كذلك- ووجود تقديم وتأخير بين بعض الجمل والعبارات، إضافة إلى الأخطاء النحوية والصرفية الموجودة.
ولم نشر إلى اختلاف النسختين لعدم ضرورة ذلك، ولاعتبار النسخة الأولى هي النسخة الصحيحة نسبيا والمعتمدة في التحقيق، أما النسخة الثانية فقد استخدمناها كنسخة مساعدة في حال التعذر في قراءة نص ما، أو في حال وجود اضطراب أو إشكال.
1 / 5
آخر المخطوطة من التفسير، وتنتهي بتفسير سورة الناس. وعليها تاريخ النسخ آخر المخطوطة لوحة (ب) وتنتهي بتفسير سورة الناس وعليها تاريخ النسخ ٦٤٤
1 / 10
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المصنف
باب الحث على طلب التفسير
قال: أخبرنا أبو الفضل جبريل بن أحمد اليوناني قال: أنبأنا أبو محمد لقمان بن حكيم بن خلف الفرغاني بأوزكندة قال: حدثنا الفقيه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي رحمة الله عليه، قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن الفضل قال: أخبرنا محمد بن جعفر الكرابيسي، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدّثنا وكيع، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن مرة الهمذاني قال: قال ابن مسعود ﵁: من أراد العلم فليثر القرآن- وفي رواية أخرى فليؤثر القرآن- فإن فيه علم الأولين والآخرين. وروي عن علي بن أبي طالب ﵁ أنه قال: مَا من شيء إلا وعلمه في القرآن غير أن آراء الرجال تعجز عنه.
حدّثنا أبو جعفر محمد بن الفضل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا محمد بن الفضل الضبّي، عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السّلمي، قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله ﷺ أنهم كانوا يقرءون على النبيّ ﷺ عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى، حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل.
قال الفقيه: حدثنا أبي قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن أحمد المعلم قال: حدثنا أبو عمران الفريابي قال: حدثنا عبد الرحمن بن جبير بن حبيب قال: حدثنا داود بن المخبر قال:
حدّثنا عباد بن كثير، عن عبد خير، عن علي بن أبي طالب- ﵁: أن النبيّ ﷺ قال في خطبته: «أَيُّها النّاس، قد بين الله لكم في محكم كتابه ما أحلّ لكم وما حرّم عليكم، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وآمنوا بمتشابهه، واعملوا بمحكمه، واعتبروا بأمثاله» قال: فلما أمر النبيّ ﷺ بأن يحل حلاله ويحرم حرامه، ثم لا يمكن أن يحل حلاله، ويحرم حرامه إلا بعد ما يعلم تفسيره. ولأن الله تعالى أنزل القرآن هدى للناس، وجعله حجة على جميع الخلق لقوله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: ١٩] فلما كان القرآن حجة على
1 / 11
العرب والعجم، ثم لا يكون حجة عليهم إلا بعد تفسيره برأيه، فدلّ ذلك على أن طلب تفسيره وتأويله واجب.
ولكن لا يجوز لأحد أن يفسر القرآن من ذات نفسه برأيه، ما لم يتعلم ويعرف وجوه اللغة وأحوال التنزيل، لأنه روي في الخبر ما حدثنا به محمد بن الفضيل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا وكيع عن سفيان، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ﵄، عن النبيّ ﷺ أنه قال: «من قال في القرآن بغير علم، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . وروى أبو صالح، عن ابن عباس- ﵄ عن النبيّ ﷺ أنه قال: «من فسّر القرآن برأيه فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» .
قال الفقيه: حدثنا محمد بن الفضيل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا أبو حفص، عن ابن مجاهد قال: قال رجل لأبي: أنت الذي تفسر القرآن برأيك؟ فبكى أبي ثم قال: إني إذا لجريء. لقد حملت التفسير عن بضعة عشر رجلا من أصحاب النبيّ ﷺ ﵃.
وروي عن أبي بكر الصديق ﵁ أنه سئل عن قوله تعالى: وَفاكِهَةً وَأَبًّا [عبس: ٣١] فقال: لا أدري ما الأبّ. فقيل له: قل من ذات نفسك يا خليفة رسول الله. قال:
أيّ سماء تظلّني وأي أرض تقلّني، إذا قلت في القرآن بما لا أعلم. فإذا لم يعلم الرجل وجوه اللغة وأحوال التنزيل، فتعلم التفسير وتكلف حفظه فلا بأس بذلك، ويكون ذلك على سبيل الحكاية. والله أعلم.
1 / 12
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة (١): الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)
بسم الله الرحمن الرحيم حدثنا القاضي الخليل بن أحمد قال: حدثنا السراج قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال:
حدثنا خالد، عن داود، عن عامر قال: كان النبيّ ﷺ يكتب: باسمك اللهم فلما نزل في سورة هود بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود: ٤١] كتب: بسم الله فلما نزل في سُورَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: ١١٠] كتب بسم الله الرحمن فلما نزل في سورة النمل إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل: ٣٠] كتب: بسم الله الرحمن الرحيم.
ففي هذا الخبر دليل على أنه ليس من أول كل سورة، ولكنه بعض آية من كتاب الله تعالى من سورة النمل. فأما تفسير قوله: بِسْمِ اللَّهِ، يعني: بدأت باسم الله، ولكن لم يذكر بدأت، لأن الحال ينبئ أنك مبتدئ فيستغنى عن ذكره. وأصله: باسم الله بالألف، ولكن حذفت من الاسم لكثرة الاستعمال، لأنها ألف وصل، وليست بأصلية، بدليل أنها تسقط عند التصغير، فتقول سميّ. وقال بعضهم: معنى قوله بِسْمِ اللَّهِ، يعني: بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته، وهذا تعليم من الله تعالى لعباده، ليذكروا اسم الله تعالى عند افتتاح القراءة وغيرها، حتى يكون الافتتاح ببركة اسم الله تعالى. وقوله اللَّهِ هو اسم موضوع ليس له اشتقاق، وهو أجلّ من أن يذكر له الاشتقاق، وهو قول الكسائي. قال أبو الليث ﵀: هكذا سمعت أبا جعفر يقول: روي عن محمد بن الحسن أنه قال: هو اسم موضوع ليس له اشتقاق. وروي عن الضحاك أنه قال: إنّما سمي اللَّهِ إلها، لأن الخلق يولهون إليه في قضاء حوائجهم، ويتضرعون إليه عند شدائدهم. وذكر عن الخليل بن أحمد البصري أنه قال: لأن الخلق يألهون إليه، بنصب اللام، ويألهون بكسر اللام أيضا، وهما لغتان وقيل أيضا: إنه اشتق من الارتفاع.
وكانت العرب تقول للشيء المرتفع «لاه»، وكانوا يقولون إذا طلعت الشمس: طلعت لاهة، غربت لاهة وقيل أيضا: إنما سمي اللَّهِ، لأنه لا تدركه الأبصار، «ولاه» معناه احتجب كما قال القائل:
لاه ربّي عن الخلائق طرّا ... خالق الخلق لا يرى ويرانا
1 / 13
وقيل أيضا: سمي اللَّهِ لأنه يوله قلوب العباد بحبه.
وأما «الرحمن» فالعاطف على جميع خلقه بالرزق لهم، ولا يزيد في رزق التقيّ لأجل تقاه، ولا ينقص من رزق الفاجر لأجل فجوره. وما كان في لغة العرب على ميزان «فعلان» يراد به المبالغة في وصفه، كما يقال: شبعان، وغضبان، إذا امتلأ غضبا. فلهذا سمى نفسه رحمانا، لأن رحمته وسعت كل شيء، فلا يجوز أن يقال لغير الله تعالى «الرحمن»، لأن هذا الوصف لا يوجد في غيره.
وأما «الرحيم» فالرفيق بالمؤمنين خاصة، يستر عليهم ذنوبهم في الدنيا، ويرحمهم في الآخرة، ويدخلهم الجنة. وقيل أيضا: إنما سمى نفسه رحيما، لأنه لا يكلف عباده جميع ما يطبقون، وكل ملك يكلف عباده جميع ما يطيقون، فليس برحيم.
وروي عن علي بن أبي طالب ﵁ أنه قال في قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ قال:
اسمه شفاء من كل داء، وعون على كل دواء. وأما الرحمن فهو عون لمن آمن به، وهو اسم لم يسم به غيره. وأما «الرحيم» فلمن تاب وآمن وعمل صالحًا.
وقد فسره بعضهم على الحروف، وروى عبد الرحمن المديني، عن عبد الله بن عمر:
أن عثمان بن عفان- ﵃ سأل ﷺ عن تفسير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فقال:
أما الباء: فبلاء الله وروحه، ونصره وبهاؤه وأما السين: فسناء الله، وأما الميم: فملك الله وأما الله: فلا إله غيره وأما الرحمن: فالعاطف على البر والفاجر من خلقه وأما الرحيم:
فالرفيق بالمؤمنين خاصة.
وروي عن كعب الأحبار أنه قال: الباء، بهاؤه، والسين: سناؤه ولا شيء أعلى منه، والميم: ملكه، وَهُوَ على كُلّ شَىْء قدير، فلا شيء يعازه. وقد قيل: إن كل حرف هو افتتاح اسم من أسمائه فالباء: مفتاح اسمه بصير، والسين: مفتاح اسمه سميع، والميم: مفتاح اسمه ملك، والألف: مفتاح اسمه الله، واللام: مفتاح اسمه لطيف، والهاء: مفتاح اسمه هادي، والراء: مفتاح اسمه رزاق، والحاء: مفتاح اسمه حليم، والنون: مفتاح اسمه نور. ومعنى هذا كله: دعاء الله عند الافتتاح.
1 / 14
سبع آيات مدنية روي عن مجاهد أنه قال: سورة فاتحة الكتاب مدنية، وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: هي مكية. ويقال: نصفها نزل بمكة ونصفها نزل بالمدينة. حدثنا الحاكم أبو الفضل، محمد بن الحسين الحدادي قال: حدثنا أبو حامد المروزي قال: حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا عمر بن يونس قال: حدثنا جهضم بن عبد الله بن العلاء عن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة- ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ فِي كِتَابِ الله لَسُورَةً مَا أَنْزَلَ الله عَلَى نَبِيٍ مِثْلَهَا، فسأله أبي بن كعب عنها فقال: إنِّي لأرْجُو أنْ لا تَخْرُجَ مِنَ البَابِ حَتَّى تَعْلَمَهَا، فجعلتُ أتبطَّأ، ثم سأله أبيٌّ عنها فقال: كَيْفَ تَقْرَأُ فِي صَلاتِكَ؟ قال: بأمِّ الكتاب.
فقال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالقُرْآنِ مِثْلُهَا، وَإنَّهَا السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ» وقال بعضهم: السبع المثاني، هي السبع الطوال سورة: البقرة، وآل عمران، والخمس التي بعدها، وسماها مثاني لذكر القصص فيها مرتين. وقال أكثر أهل العلم: هي سورة الفاتحة وإنما سميت السبع، لأنها سبع آيات وإنما سميت المثاني، لأنها تثنى بقراءتها في كل صلاة.
وقال: حدثنا أبي قال: حدّثنا أبو عبد الله، محمد بن حامد الخزعوني قال: حدّثنا علي بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن مروان، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي
1 / 15
صالح، مولى أم هانئ، عن ابن عباس- ﵄ في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ قال:
الشكر لله. ومعنى قول ابن عباس: الشكر لله، يعني الشكر لله على نعمائه كلها وقد قيل:
(الحمد لله) يعني الوحدانية لله. وقد قيل: الألوهية لله. وروي عن قتادة أنه قال: معناه الحمد لله، الذى لم يجعلنا من المغضوب عليهم ولا الضالين. ثم معنى قوله (الحمد لله) قال بعضهم: «قل» فيه مضمر يعني: قُلِ: الحمد لِلَّهِ. وقال بعضهم: حمد الرب نفسه، ليعلم عباده فيحمدوه.
وقال أهل اللغة: الحمد هو الثناء الجميل، وحمد الله تعالى هو: الثناء عليه بصفاته الحسنى، وبما أنعم على عباده، ويكون في الحمد معنى الشكر وفيه معنى المدح وهو أعم من الشكر، لأن الحمد يوضع موضع الشكر، ولا يوضع الشكر موضع الحمد. وقال بعضهم:
الشكر أعم، لأنه باللسان وبالجوارح وبالقلب، والحمد يكون باللسان خاصة. كما قال اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْرًا [سبأ: ١٣] .
وروي عن ابن عباس أنه قال: الحمد لله كلمة كل شاكر، وذلك إن آدم ﵇، قال حين عطس: الحمد لله فقال الله تعالى: يرحمك الله، فسبقت رحمته غضبه. وقال الله تعالى لنوح: فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون: ٢٨] وقال إبراهيم- ﵇: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [إبراهيم: ٣٩] وقال في قصة داود وسليمان: وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل: ١٥] وقال لمحمد- ﵇: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا [الإسراء: ١١١] وقال أهل الجنة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: ٣٤] فهي كلمة كل شاكر.
وقوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ قال ابن عباس- ﵄: سيد العالمين. وهو رب كل ذي روح تدب على وجه الأرض. ويقال: معنى قوله رَبِّ الْعالَمِينَ: خالق الخلق ورازقهم ومربيهم ومحولهم من حال إلى حال، من نطفة إلى علقة، ومن علقة إلى مضغة.
والرب في اللغة: هو السيد قال الله تعالى: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ [يوسف: ٥٠]، يعني إلى سيدك. والربّ: هو المالك يقال: ربّ الدار، وربّ الدابة والرب هو المربي من قولك: ربى يربي. وقوله: (العالمين) كل ذي روح ويقال: كل من كان له عقل يخاطب، مثل بني آدم والملائكة والجن، ولا يقع على البهائم ولا على غيرها. وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال:
«إن لله تَعَالَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ألْفَ عَالَمٍ، وَإنَّ دُنْيَاكُمْ مِنْهَا عَالَمٌ وَاحِدٌ» ويقال: كل صنف من الحيوان عالم على حده.
قوله ﷿: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال في رواية الكلبي: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر. وقال بعض أهل اللغة: هذا اللفظ شنيع، فلو قال: هما اسمان لطيفان، لكان
1 / 16
أحسن ولكن معناه عندنا- والله أعلم- أنه أراد بالرقة الرحمة، يقال: رق فلان لفلان إذا رحمه. يقال: رق يرق إذا رحم. وقوله: أحدهما أرق من الآخر قال بعضهم: الرحمن أرق، لأنه أبلغ في الرحمة لأنه يقع على المؤمنين والكافرين وقال بعضهم: الرحيم أرق، لأنه في الدنيا وفي الآخرة. وقال بعضهم: كل واحد منهما أرق من الآخر من وجه، فلهذا المعنى لم يبين، وقال: أحدهما أرق من الآخر، يعني كل واحد منهما أرق من الآخر.
قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قرأ نافع وابن كثير وحمزة وأبو عمرو بن العلاء وابن عامر: ملك بغير الألف، وقرأ عاصم والكسائي بالألف. فأما من قرأ بالألف قال: لأن المالك أبلغ في الوصف، لأنه يقال: مالك الدار، ومالك الدابة، ولا يقال ملك: إلا لملك من ملوك.
وأما الذي قرأ: ملك بغير ألف قال: «لأن الملك أبلغ في الوصف، لأنك إذا قلت: فلان ملك هذه البلدة، يكون ذلك كناية عن الولاية دون الملك وإذا قلت فلان مالك هذه البلدة، كان ذلك عبارة عن ملك الحقيقة. وروى مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي يفتتحون الصلاة ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وكلهم يقرءون مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بالألف. قال الفقيه- ﵀: سمعت أبي يحكي بإسناده عن أبي عبد الله، محمد بن شجاع البلخي يقول: كنت أقرأ بقراءة الكسائي مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بالألف، فقال لي بعض أهل اللغة: الملك أبلغ في الوصف، فأخذت بقراءة حمزة وكنت أقرأ ملك يَوْمِ الدين، فرأيت في المنام كأنه أتاني آت فقال لي: لم حذفت الألف من مالك؟ أما بلغك الخبر عن رسول الله ﷺ أنه قال: «اقرءوا القُرْآنَ فَخْمًا مُفَخَّمًا»، فلم أترك القراءة ب: «ملك» حتى أتاني بعد ذلك آت في المنام فقال لي: لم حذفت الألف من مالك؟ أما بلغك عن رسول الله ﷺ أنه قال: من قرأ القُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَناتٍ، فَلِمَ نقّصت من حسناتك عشرًا في كل قراءة؟ فلما أصبحت، أتيت قطربًا- وكان إمامًا في اللغة- فقلت له: ما الفرق بين ملك ومالك؟ فقال: بينهما فرق كثير. فأما ملك فهو ملك من الملوك، وأما مالك فهو مالك الملوك. فرجعت إلى قراءة الكسائي.
ثم معنى قوله «مالك» يعني: قاضي وحاكم يَوْمِ الدِّينِ يعني: يوم الحساب كما قال تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [التوبة: ٣٦ وغيرها]، يعني الحساب القيم. وقيل أيضًا: معنى يَوْمُ الدين، يعني يوم القضاء. كما قال تعالى: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف: ٧٦] يعني: في قضائه وقيل أيضًا: يوم الدين أي يوم الجزاء، كما يقال: كما تدين تدان، يعني كما تجازي تجازى به. فإن قيل: ما معنى تخصيص يوم الدين؟ وهو مالك يوم الدين وغيره، قيل له: لأن في الدنيا، كانوا منازعين له في الملك، مثل فرعون ونمرود وغيرهما. وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه، وكلهم خضعوا له. كما قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: ١٦]
1 / 17
فأجاب جميع الخلق لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [الرعد: ١٦، وغيرها] فكذلك هاهنا. قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يعني في ذلك اليوم لا يكون مالك، ولا قاض، ولا مجاز غيره.
قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ هو تعليم علم المؤمنين كيف يقولون، إذا قاموا بين يديه في الصلاة، فأمرهم بأن يذكروا عبوديتهم وضعفهم، حتى يوفقهم ويعينهم فقال إِيَّاكَ نَعْبُدُ أي نوحد ونطيع. وقال بعضهم إِيَّاكَ نَعْبُدُ يعني إياك نطيع طاعة نخضع فيها لك. وقوله تعالى:
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يقول: بك نستوثق على عبادتك وقضاء الحقوق. وفي هذا دليل على أن الكلام قد يكون بعضه على وجه المغايبة وبعضه على وجه المخاطبة، لأنه افتتح السورة بلفظ المغايبة وهو قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثم ذكر بلفظ المخاطبة، فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وهذا كما قال في آية أخرى هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ [يونس: ٢٢] فذكر بلفظ المخاطبة، ثم قال: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها [يونس: ٢٢] هذا ذكر على المغايبة ومثل هذا في القرآن كثير.
قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ رويت القراءتان عن ابن كثير أنه قرأ «السراط» بالسين، وروي عن حمزة أنه قرأ بالزاي، وقرأ الباقون بالصاد وكل ذلك جائز، لأن مخرج السين والصاد واحد، وكذلك الزاي مخرجه منهما قريب، والقراءة المعروفة بالصاد قال ابن عباس ﵄: اهْدِنَا يعني أرشدنا، الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وهو الإسلام فإن قيل:
أليس هو الطريق المستقيم؟ وهو الإسلام فما معنى السؤال؟ قيل له: الصراط المستقيم، هو الذي ينتهي بصاحبه إلى المقصود. فإنما يسأل العبد ربه أن يرشده إلى الثبات على الطريق الذي ينتهي به إلى المقصود، ويعصمه من السبل المتفرقة. وقد روي عن عبد الله بن مسعود- ﵁ أنه قال: خط لي رسول الله ﷺ خطًا مستقيمًا، وخط بجنبه خطوطًا، ثم قال: إن هذا الصراط المستقيم وهذه السبل، وعلى رأس كل طريق شيطان يدعو إليه ويقول: هلم إلى الطريق. وفي هذا نزلت هذه الآية وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: ١٥٣] فلهذا قال: اهدنا الصراط المستقيم واعصمنا من السبل المتفرقة. قال الكلبي: أمتنا على دين الإسلام.
وروي عن علي بن أبي طالب- ﵁ أنه قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ يعني ثبتنا عليه. ومعنى قول علي: ثبتنا عليه. يعني احفظ قلوبنا على ذلك، ولا تقلبها بمعصيتنا. وهذا موافق لقول الله تعالى: وَيَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح: ٢] فكذلك هاهنا.
قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يعني طريق الذين مننت عليهم، فحفظت قلوبهم على الإسلام حتى ماتوا عليه. وهم أنبياؤه وأصفياؤه وأولياؤه. فامنن علينا كما مننت عليهم.
1 / 18
أخبرنا الفقيه، أبو جعفر قال: حدثنا أبو بكر، أحمد بن محمد بن سهل، القاضي قال:
حدثنا أحمد بن جرير قال: حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد قال: حدثنا هشام بن القاسم قال: حدثنا حمزة بن المغيرة، عن عاصم، عن أبي العالية في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ قال: هو النبي ﵇ وصاحباه من بعده أبو بكر- وعمر ﵄ قال عاصم: فذكرت ذلك للحسن البصري فقال: صدق والله أبو العالية ونصح.
وقوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ أي غير طريق اليهود. يقول: لا تخذلنا بمعصيتنا، كما خذلت اليهود فلم تحفظ قلوبهم، حتى تركوا الإسلام.
وَلَا الضَّالِّينَ يعني ولا النصارى، لم تحفظ قلوبهم وخذلتهم بمعصيتهم حتى تنصروا. وقد أجمع المفسرون أن المغضوب عليهم أراد به اليهود، والضالين أراد به النصارى، فإن قيل: أليس النصارى من المغضوب عليهم؟ واليهود أيضًا من الضالين؟ فكيف صرف المغضوب إلى اليهود، وصرف الضالين إلى النصارى؟ قيل له: إنّما عرف ذلك بالخبر واستدلالًا بالآية. فأما الخبر، فما روي عن رسول الله ﷺ أن رجلًا سأله وهو بوادي القرى:
من المغضوب عليهم؟ قال: اليهود قال: ومن الضالين؟ فقال: النصارى وأما الآية، فلأن الله تعالى قال في قصة اليهود: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ [البقرة: ٩٠] وقال تعالى في قصة النصارى: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: ٧٧] .
«آمين» ليس من السورة. ولكن روي عن النبيّ ﷺ أنه كان يقوله ويأمر به، ومعناه ما قال ابن عباس: يعني كذلك يكون. وروي عن مجاهد أنه قال: هو اسم ن أسماء الله تعالى ويكون معناه: يا الله استجب دعاءنا. وقال بعضهم: هي لغة بالسريانية. وروي عن النبيّ ﷺ أنه قال: مَا حَسَدَتْكُمْ اليَهُودُ فِي شَيْءٍ، كَحَسَدِهِمْ فِي «آمين» خَاتَمِ رَبِّ العَالَمِينَ، يَخْتِمُ بِهِ دُعَاءَ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ. وقال مقاتل: هو قوة للدعاء واستنزال للرحمة. وروى الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس- ﵄: سألت رسول الله ﷺ ما معنى آمين؟ قال: رَبِّ افْعَلْ. ويقال: فيه لغتان «أمين» بغير مد، و«آمين» بالمد، ومعناهما واحد، وقد جاء في أشعارهم كلا الوجهين. قال القائل:
تَبَاعَدَ عَنِّي فُطْحُلٌ إِذْ دَعَوْتُه ... آمِينَ فَزَادَ الله مَا بَيْنَنَا بُعْدَا
وقال الآخر:
يَا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَدَا ... وَيَرْحَمُ الله عَبْدًا قَالَ: آمِينَا
وصلى الله على سيدنا محمد.
1 / 19
سورة البقرة
مدنية وهي مائتان وست وثمانون آية
[سورة البقرة (٢): الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)
قال الفقيه: حدّثني أبي ﵀ قال: حدثني محمد بن حامد قال: حدّثنا علي بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن مروان، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله تعالى: الم يعني: أنا الله أعلم. ومعنى قول ابن عباس أنا الله أعلم يعني الألف: أنا، واللام: الله، والميم: أعلم، لأن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب قد كانت تذكر حرفًا وتريد به تمام الكلمة ألا ترى إلى قول القائل:
قُلْتُ لَهَا قِفِي لَنَا قَالَتْ قَاف ... لاَ تَحْسَبِي أَنَّا نَسِينَا الإِيجَاف
يعني بالقاف: قد وقفت.
وقال الكلبي: هذا قسم، أقسم الله تعالى بالقرآن أن هذا الكتاب الذي أنزل على قلب محمد ﷺ، هو الكتاب الذي نزل من عند الله تعالى لا ريب فيه. وقال بعض أهل اللغة: إن هذا الذي قال الكلبي لا يصح، لأن جواب القسم معقود على حروف مثل: إن، وقد، ولقد، وما، واللام وهنا لم نجد حرفًا من هذه الحروف، فلا يجوز أن يكون يمينًا. ولكن الجواب أن يقال: موضع القسم قوله لاَ رَيْبَ فِيهِ، فلو أن إنسانًا حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه، لكان الكلام سديدًا، وتكون «لا» جوابًا للقسم، فثبت أن قول الكلبي صحيح سديد. فإن قيل: إيش الحكمة في القسم من الله تعالى، وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين، مصدق ومكذب فالمصدق يصدق بغير قسم، والمكذب لا يصدق مع القسم. قيل له: القرآن نزل بلغة العرب، والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه، أقسم على كلامه، فالله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده.
1 / 20
وقد قيل الم: الألف: الله تعالى، واللام: جبريل، والميم: محمد ﷺ ويكون معناه: الله الذي أنزل جبريل على محمد بهذا القرآن لاَ رَيْبَ فِيهِ.
وقال بعضهم: كل حرف هو افتتاح اسم من أسماء الله تعالى. فالألف مفتاح اسمه: الله، واللام مفتاح اسمه: اللطيف، الميم مفتاح اسمه: مجيد ويكون معناه: الله اللطيف المجيد أنزل الكتاب.
وروي عن محمد بن كعب بن علي الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة، ولا يعرف ذلك إلاَّ نبي أو ولي، ثم بين ذلك في جميع السور ليفقه الناس. وروي عن الشعبي أنه قال: إن الله تعالى سرًا جعله في كتبه، وإن سره في القرآن هو الحروف المقطعة. وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود- ﵃ أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر وعن علي ﵁: هو اسم من أسماء الله تعالى، فرقت حروفه في السور. يعني أن هاهنا قد ذكر الم وذكر: الر في موضع آخر وذكرٍ: حم في موضع آخر وذكر:
ن في موضع، فإذا جمعت يكون (الرحمن)، وكذلك سائر الحروف إذا جمع يصير اسمًا من أسماء الله.
وذكر قطرب: أن المشركين كانوا لا يستمعون القرآن، كما قال الله تعالى: وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦] فأراد أن يسمعهم شيئًا لم يكونوا سمعوه، ليحملهم ذلك إلى الاستماع حتى تلزمهم الحجة. وقال بعضهم: أن المشركين كانوا يقولون: لا نفقه هذا القرآن، لأنهم قالوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: ٥] فأراد الله أن يبين لهم أن القرآن مركب على الحروف التي ركبت عليها ألسنتكم، يعني هو على لغتكم، ما لكم لا تفقهون؟ وإنما أراد بذكر الحروف تمام الحروف، كما أن الرجل يقول: علمت ولدي: أ، ب، ت، ث، وإنما يريد جميع الحروف ولم يرد به الحروف الأربعة خاصة.
وقال بعضهم: هو من شعار السور وكان اليهود أعداء الله فسروه على حروف الجمل، لأنه ذكر أن جماعة من اليهود، منهم كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب، وشعبة بن عمرو، ومالك بن الصيف دخلوا على رسول الله ﷺ وقالوا: بلغنا أنك قرأت: الم ذلِكَ الْكِتابُ فإن كنت صادقًا، فيكون بقاء أمتك إحدى وسبعين سنة، لأن الألف: واحد، واللام: ثلاثون، والميم: أربعون، فضحك رسول الله ﷺ ثم قالوا له: وهل غير هذا؟ قال: نعم. المص فقالوا: هذا أكثر لأن (ص) تسعون. فقالوا: هل غير هذا؟
قال: نعم. الر فقالوا: هذا أكثر، لأن (الراء): مائتان، ثم ذكر المر فقالوا: خلطت علينا يا محمد لا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟ وإنما أدركوا من القرآن مقدار عقولهم، وكل
1 / 21
إنسان يدرك العلم بمقدار عقله. وكل ما ذكر في القرآن من الحروف المقطعة، فتفسيره نحو ما ذكرنا هاهنا والله أعلم بالصواب.
قوله ﷿: ذلِكَ الْكِتابُ أي هذا الكتاب لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أنه مني، لم يختلقه محمد من تلقاء نفسه. وقد يوضع ذلك بمعنى هذا، كما قال القائل:
أقول له والرمح يأْطِرُ مَتْنَه ... تَأمَّلْ خِفَافًا أَنَّنِي أَنَا ذَلِكَا
يعني هذا. وقال بعضهم: معناه ذلك الكتاب الذي كنت وعدتك يوم الميثاق أن أوحيه إليك، وقال بعضهم: معناه ذلك الكتاب الذي وعدت في التوراة والإنجيل أن أنزل على محمد ﷺ.
وروي عن زيد بن أسلم أنه قال: أراد بالكتاب اللوح المحفوظ، يعني الكتاب ثبت في اللوح المحفوظ.
وقوله: لاَ رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أنه من الله تعالى ولم يختلقه محمد من تلقاء نفسه. فإن قيل: كيف يجوز أن يقال: لا شك فيه؟ وقد شك فيه كثير من الناس وهم الكفار والمنافقون؟ قيل له: معناه لا شك فيه عند المؤمنين وعند العقلاء. وقيل: معناه لا شك فيه، أي لا ينبغي أن يشك فيه، لأن القرآن معجز فلا ينبغي أن يشك فيه أنه من الله تعالى.
قوله ﷿: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي بيانًا لهم من الضلالة للمتقين الذين يتقون الشرك والكبائر والفواحش. فهذا القرآن بيان لهم من الضلالة، وبيان لهم من الشبهات، وبيان الحلال من الحرام. فإن قيل: فيه بيان لجميع الناس، فكيف أضاف إلى المتقين خاصة؟ قيل له: لأن المتقين هم الذين ينتفعون بالبيان، ويعملون به فإذا كانوا هم الذين ينتفعون، صار في الحقيقة حاصل البيان لهم. روي عن أبي روق أنه قال: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي كرامة لهم. يعني إنما أضاف إليهم إجلالًا وكرامة لهم، وبيانا لفضلهم.
[سورة البقرة (٢): آية ٣]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي يصدقون بالغيب. والغيب: هو ما غاب عن العين، وهو محضر في القلب. وإنما أراد به أصحاب رسول الله ﷺ ومن تابعهم إلى يوم القيامة، أنهم يصدقون بغيب القرآن أنه من الله تعالى فيحلون حلاله، ويحرمون حرامه. ويقال:
يؤمنون بالغيب يعني بالله تعالى. حدثنا الخليل بن أحمد قال: حدثنا الديبلي قال: حدّثنا أبو عبيد الله، قال: حدّثنا سفيان قال: حدثنا أصحابنا، عن الحارث بن قيس أنه قال لعبد الله بن مسعود- ﵁ نحتسب بكم يا أصحاب محمد ما سبقتمونا به من رؤية محمد ﷺ
1 / 22
وصحبته، فقال عبد الله بن مسعود: ونحن نحتسب لكم إيمانكم به ولم تروه، وإن أفضل الإيمان الإيمان بالغيب، ثم قرأ عبد الله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وقد قيل: (يؤمنون بالغيب) يعني يصدقون بالبعث بعد الموت.
وقوله تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، أي يديمون الصلاة، وقد قيل أيضًا: إِنَّ العبد يديم الصلاة وقد قيل: يحافظون على الصلوات الخمس بمواقيتها وركوعها وسجودها والتضرع بعدها. وقد قيل: إن العبد إذا صلى صلاة تُقْبَلُ منه، خلق الله تعالى منها ملكًا يقوم ويصلي لله إلى يوم القيامة، وثوابه لصاحب الصلاة فهذا معنى قوله: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ.
وقوله ﷿: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي يتصدقون، قال الكلبي: وهو زكاة المال.
وروى أسباط، عن السدي، عن أصحابه قال: هي نفقة الرجل على أهله وهذا قبل نزول آية الزكاة. ويقال: ينفقون أي يتصدقون صدقة التطوع. ويقال: هي عليهم جميعا التطوع والفريضة.
[سورة البقرة (٢): الآيات ٤ الى ٥]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني بالقرآن قوله: وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعني التوراة والإنجيل وسائر الكتب، ويقال: لما نزلت هذه الآية الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قالت اليهود والنصارى: نحن آمنا بالغيب فلما قال: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ قالوا: نحن نقيم الصلاة فلما قال: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قالوا: نحن ننفق ونتصدق. فلما قال: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ نفروا من ذلك.
وقوله: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي يقرُّون يوم القيامة، والجنة والنار، والبعث، والحساب، والميزان. واليقين على ثلاثة أوجه: يقين عيان، ويقين خبر، ويقين دلالة. فأما يقين العيان: إذا رأى شيئًا، زال عنه الشك في ذلك الشيء، وأما يقين الدلالة: هو أن يرى دخانًا يرتفع من موضع، يعلم باليقين أن هناك نارًا وإن لم يرها وأما يقين الخبر: فإن الرجل يعلم باليقين أن في الدنيا مدينة يقال لها بغداد، وإن لم يكن يعاينها. فهاهنا يقين خبر، ويقين دلالة، أن الآخرة حق ولكن تصير معاينة عند الرؤية.
ثم قال ﷿: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ يعني أهل هذه الصفة الذين سبق ذكرهم على بيان من الله تعالى، أي أكرمهم الله تعالى في الدنيا حيث هداهم، وبين لهم طريقهم. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ في الآخرة، أي الناجون. يعني أن الله تعالى أكرمهم في
1 / 23
الدنيا بالبيان، وفي الآخرة بالنجاة. وقد قيل: الفلاح هو البقاء في النعمة. وقد قيل: الفلاح إذا بلغ الإنسان نهاية ما يأمل. ويقال: معناه قد وجدوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.
وكل ما في القرآن المفلحون، فتفسيره هكذا.
[سورة البقرة (٢): آية ٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (٦)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إن هاهنا للتأكيد وهو حرف من حروف القسم. والكفر في اللغة: هو الستر، يقال: ليلة كافرة إذا كانت شديدة الظلمة وإنما سمي الكافر كافرًا، لأنه يستر نعم الله تعالى.
وقوله ﷿: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ قرأ أهل الكوفة وعاصم وحمزة والكسائي أَأَنْذَرْتَهُمْ بهمزتين، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في رواية هشام بهمزة واحدة مع المد أَنْذَرْتَهُمْ وتفسير القراءتين لا يختلف. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في مشركي قريش، منهم: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل وغيرهم. وقال الكلبي: نزلت في رؤساء اليهود منهم: كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب. قال الكلبي:
وليس هو بأخي حيي. وقال بعضهم هو أخو حيي دخلوا على النبي ﷺ حيث سألوه عن الم والمص ثم خرجوا من عنده فنزل قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا بالقرآن سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ يعني خوفتهم أو لم تخوفهم لاَ يُؤْمِنُونَ أي لا يصدقون. فإن قيل: إذا علم أنهم لا يؤمنون، فما معنى دعوتهم إلى الإسلام؟ قيل له: لأن في الدعوة زيادة الحجة عليهم، كما إن الله تعالى بعث موسى إلى فرعون ليدعوه إلى الإسلام وعلم أنه لا يؤمن. وجواب آخر: أن الآية خاصة، وليست بعامة، وإنما أراد به بعض الكفار الذين ثبتوا على كفرهم، كما روي عن صفية بنت حيي بن أخطب قالت: رجع أبي وعمي من عند رسول الله ﷺ، فقال أحدهما لصاحبه: ما ترى في هذا الرجل؟ فقال: إنه نبي، فقال: ما رأيك في اتباعه؟ فقال: رأيي أن لا أتبعه، وأن أظهر له العداوة إلى الموت. فلم نزلت الآية في شأن مثل هؤلاء الذين قد ظهر لهم الحق وكانوا لا يؤمنون. فقال: أَأَنْذَرْتَهُمْ. وأصل الإنذار هو الإعلام، يعني خوفتهم بالنار، وأعلمتهم بالعذاب أو لم تعلمهم، فهو سواء ولا يصدقونه.
[سورة البقرة (٢): آية ٧]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ قال ابن عباس- ﵄: أي طبع الله، ومعنى الختم على قلوبهم أي، ليس أنه يذهب بعقولهم ولكنهم لا يتفكرون فيعتبرون بعلامات
1 / 24
نبوة محمد ﷺ فيؤمنون، وَعَلى سَمْعِهِمْ فهم لا يسمعون الحق، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ أي غطاء فلا يبصرون الهدى. واتفقت الأئمة السبعة- ﵏ على القراءة برفع الهاء (غشاوة) وقرأ بعضهم بنصبها وهي قراءة شاذة. فأما من قرأ برفع الهاء، فهو على معنى الابتداء أي: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، ثم ابتدأ فقال وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وأما من قرأ بالنصب فيكون الجعل فيه مضمرًا، يعني: جعل على أبصارهم غشاوة. فقد ذكر في شأن المؤمنين ثوابهم في الدنيا الهدى، وفي الآخرة الفلاح، وذكر في شأن الكفار عقوبتهم في الدنيا الختم، وفي الآخرة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني عذابًا وجيعًا، يخلص الوجع إلى قلوبهم.
قال الفقيه- ﵀ وفي الآية إشكال في موضعين: أحدهما في اللفظ والآخر في المعنى فأما الذي في اللفظ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ذكر جماعة القلوب ثم قال: وَعَلى سَمْعِهِمْ ذكر بلفظ الوحدان ثم قال: وَعَلى أَبْصارِهِمْ ذكر بلفظ الجمع، فجوابه: إن السمع مصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع، فلهذا المعنى- والله أعلم- ذكر بلفظ الوحدان. وقد قيل: معنى وَعَلى سَمْعِهِمْ أي: موضع سمعهم، لأن السمع لا يختم وإنما يختم موضع السمع. وقد قيل: إن الإضافة إلى الجماعة تغني عن لفظ الجماعة، لأنه قال: وَعَلى سَمْعِهِمْ فقد أضاف إلى الجماعة، والشيء إذا أضيف إلى الجماعة مرة يذكر بلفظ الجماعة، ومرة يذكر بلفظ الوحدان، فلو ذكر القلوب والأبصار بلفظ الوحدان لكان سديدًا في اللغة فذكر البعض بلفظ الوحدان، والبعض بلفظ الجماعة وهذه علامة الفصاحة، لأن كتاب الله تعالى أفصح الكلام.
وأما الإشكال الذي في المعنى أن يقال: إذا ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، فمنعهم عن الهدى فكيف يستحقون العقوبة؟ والجواب عن هذا: أن يقال: إنه ختم مجازاة لكفرهم. كما قال في آية أخرى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء: ١٥٥] لأن الله تعالى قد يسر عليهم سبيل الهدى، فلو جاهدوا لوفقهم، كما قال تعالى وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: ٦٩]، فلما لم يجاهدوا واختاروا الكفر عاقبهم الله تعالى في الدنيا بالختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، وفي الآخرة بالعذاب العظيم.
وروي عن مجاهد أنه قال: من أول سورة البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين. وروي عن مقاتل أنه قال: آيتان من أول السورة في نعت المؤمنين المهاجرين، وآيتان في نعت المؤمنين غير المهاجرين، وآيتان في نعت مؤمني أهل الكتاب، وآيتان في نعت الكفار، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين من قوله: وَمِنَ النَّاسِ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
[سورة البقرة (٢): آية ٨]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)
1 / 25
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ: (من) للتبعيض، فإنه أراد به بعض الناس ولم يرد به جميع الناس، فكأنه قال: بعض الناس يقولون: آمنا بالله. وقد قيل: معناه: ومن الناس ناس يقولون: آمنا بالله، يعني صدقنا بالله وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وبالبعث. بعد الموت وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يعني ليسوا بمصدقين، بل هم منافقون منهم: عبد الله بن أبي ابن سلول الخزرجي، ومعتب بن قشير، وجد بن قيس، ومن تابعهم من المنافقين. وفي هذه الآية دليل على أن القول بغير تصديق القلب لا يكون إيمانًا، لأن المنافقين كانوا يقولون بألسنتهم، ولم يكن لهم تصديق القلب، فنفى الله الإيمان عنهم فقال: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.
[سورة البقرة (٢): آية ٩]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩)
قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وأصل الخداع في اللغة هو الستر. يقال للبيت الذي يخزن فيه المال: مخدع، والعرب تقول: انخدعت الضب في جحرها. فكان المنافقون يظهرون الإيمان ويسترون نفاقهم وكفرهم فقال: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا أي يكذبون ويخالفون الله والذين آمنوا ويقال يظنون أنهم يخادعون الله والذين آمنوا، لأنه قد بين في سياق الآية حيث قال تعالى: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. روي عن الأخفش أنه قال: اجترءوا على الله، حتى ظنوا أنهم يخادعون الله. وقال بكر بن جريج: يظهرون لا إله إلا الله، يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وأنفسهم ويقال: يظهرون غير ما في أنفسهم. وهذا موافق لما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: علامة المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب.
وقوله: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة الكسائي وَما يَخْدَعُونَ بغير ألف، وقرأ الباقون بالألف وَمَا يخادعون. وتفسير القراءتين واحد يعني:
وبال الخداع يرجع إليهم ويضر بأنفسهم.
قوله: وَما يَشْعُرُونَ. قال الكلبي: يعني وما يعلمون أن الله يطلع نبيه على كذبهم وقال بعضهم: معناه وما يشعرون أن وبال الخداع يرجع إليهم.
[سورة البقرة (٢): آية ١٠]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني شكًا ونفاقًا وظلمة وضعفًا، لأن المريض فيه فترة ووهن، والشاك أيضًا في أمره فترة وضعف. فعبَّر بالمرض عن الشك، لأن المنافقين فيهم ضعف ووهن، ألا ترى إلى قوله تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون: ٤] .
ويقال: إن المريض تعرض للهلاك، فسمي النفاق مرضًا، لأن النفاق قد يهلك صاحبه، لأن
1 / 26