من الأدوار الثلاثة المهمة التي تستغرق حياة المرأة؛ أي أدوار البنوة والزوجية والأمومة، كانت تحت تأثير الدور الثاني يوم كتبت «النسائيات »؛ لخروجها من دور البنوة الصرف. ولما لم ترزق ولدا ينال نصيبه من عنايتها فقد ظل اهتمامها محصورا في موقف الزوجة ومركزها في العائلة والأمة. نعم إنها بحثت في جميع أدوار المرأة المصرية من الطفولة إلى الشيخوخة، ولكنها كانت بالزوجية أكثر اهتماما منها بأي دور نسائي غيره. أما في أحاديثها فكانت تكثر من ذكر أبيها وقرينها؛ مما يدل على مقدار احترامها لهما وتعلقها بهما.
زرتها مرة وسيدة إنجليزية فوجدنا صالونها مملوءا بالزائرات المسلمات من والدات وفتيات، ودارت بينهن مناقشة فيما إذا وقع خلاف بين أب المرأة وزوجها فأيهما تتبع. فكثرت الأقوال واحتدم الجدال إلى أن قالت شابة عروس عام: «مات أبي منذ سنوات خمس فحزنت عليه حزنا شديدا، وما زلت أبكيه إلى يومي هذا. ولكن إذا مات زوجي أموت معه ولن أعيش بعده لحظة لأبكيه.» فاعترضت والدة هذه السيدة بلهجة جعلتني أظن أن بينها وبين صهرها سوء تفاهم في أمر من الأمور، وإنها تود استمالة ابنتها إليها. لكن باحثة البادية دخلت بينهما قائلة بلهجة جمعت بين الجد والمزاح: «مكثت في دار أبي عشرين سنة ولما تتم لي هذه المدة عند زوجي ...» فقاطعها هنا بعض الزائرات قائلات: «ما هذا؟ أتجعلين طول الإقامة ميزانا للحب!»
قلت إن باحثة البادية امرأة بكل معنى الكلمة؛ فهي لا تريد أن يعرف الجميع خفايا ضميرها، ولا تريد أن تجرح زائراتها. وقد كان لديها مع قلمها (الذي كان صريره يشبه أحيانا وخز حربة صغيرة غمست في مداد إنما هو مزيج من مرارة ولهيب) سلاح آخر نسائي محض، وهو الضحك، وما يتقدمه من نظرات لطيفات المعاني، وما ينتج عنه من إرضاء الجميع دون إغضاب أحد، والتخلص من المواقف الحرجة بمهارة وبساطة.
لو قالت: «تتبع المرأة زوجها» لغضبت الأمهات. ولو قالت: «تتبع والدها» لسخط الأخريات. فلم تقل هذا ولا ذاك، بل ضحكت في وسط الضوضاء والاحتجاج والاعتراض ضحكة فضية كرنين البلور على البلور، أعقبتها بنكتة صغيرة أقفلت باب الموضوع وأرغمت جميع الحاضرات على الاشتراك في الضحك. وما كان أجمل ضحكة ثغرها! بينا شفتاها القرمزيتان تتلامسان بألفاظ مصرية التركيب واللهجة والمعنى!
الفصل الثالث
المسلمة
لئن أجملت هنا ما فصلته في النبذة السابقة من حيث إن باحثة البادية «امرأة» في جميع ما كتبت فيحسن بي الآن المجاهرة بأنها إزاء صفاتها الأخرى «مسلمة» قبل كل شيء. وأي مسلمة هي! مسلمة شغوف بدينها، تغار عليه غيرة محب مدنف يقدس الاسم المحبوب ويرى في كل حرف من حروفه عالم بهاء وعظمة ومجد لا يفنى. إن إسلامها لظاهر في كتاباتها ظهورا جليا، وأقدر أنها كانت معروفة بالورع بين أخواتها المسلمات. وقد ذكرت ذلك الآنسة نبوية موسى - التي كانت رفيقتها في المدرسة - في خطبة بعثت بها إلى لجنة التأبين وألقيت في الاحتفال المهيب الذي أقامه لها رجال مصر.
هي مسلمة إلى حد إدخال الدين في كل أمر من الأمور سياسيا كان أو اجتماعيا أو أخلاقيا، حتى مسائل الأزياء والزينة والاصطلاحات والأحاديث الثانوية. ومما قالته في أسلوب المحادثة بين الزوجين:
هناك أخرى تقول لزوجها حضرتك وسعادتك، فما هذا التكلف البارد! إننا بتسميتنا فلانا صاحب العزة وتلقيبنا أحد الملوك بصاحب الجلالة لنكفر ونلحد. فما صاحب العزة وذو الجلالة إلا الله الواحد القهار. ولو أنصف كتابنا لحذفوا تلك الألفاظ الدالة على الشرك في كتاباتهم وأقوالهم.
1
Unknown page