مقدمة
البهاء زهير
مقدمة
البهاء زهير
البهاء زهير
البهاء زهير
تأليف
مصطفى عبد الرازق
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
عرفت شعر البهاء زهير إذ أنا صبي أقرأ على والدي - يرحمه الله - شيئا من كتب الأدب في بعض الليالي، وقد أحببت شعر البهاء زهير مذ عرفته.
كان يتأتى لعقلي الناشئ أن يستشف معانيه من ثنايا ألفاظه اللطيفة وتراكيبه، على حين تقوم الألفاظ والتراكيب حجابا دون المعاني كثيفا في الشعر أحيانا وفي النثر، وكان موقع وزنه الموسيقي ونغمه يستثير في نفسي أريحية وطربا، حتى لتأثر بذلك ذوقي، فهو يهفو في البيان إلى نوع من الأنغام والوزن.
ثم درست بعد ذلك سيرة البهاء زهير فيما كتب الكاتبون عنه وفيما حفظت لنا الأيام من آثاره، فتجلى لي من امتياز الرجل وتفوقه ما ملأني حبا له وتقديرا.
البهاء زهير مثال من مثل الخلق العظيم؛ يجمع إلى حب الخير وفضيلة العفو قوة الشخصية وشرف النفس وعزة الإباء، وتلك صفات لا تجتمع إلا لأهل الفطر الفائقة، خصوصا في عصر كعصر البهاء زهير ولمن كان في مثل منصبه.
كان البهاء زهير صديقا للشاعر المشهور جمال الدين المصري يحيى بن مطروح، الذي ولد بأسيوط سنة 592ه، ثم أقام بقوص زمنا، وفي قوص تعارف البهاء زهير وابن مطروح، وعاشا كالأخوين أيام الصبا، ثم اتصلا معا بخدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب من قبل أن يتولى الملك في حياة أبيه الملك الكامل، واستمرا في خدمته بعد أن صار ملكا.
أما ابن مطروح فكان في صورة وزير لدمشق، وحسنت حاله، وارتفعت منزلته.
قال ابن خلكان: «وفي سنة 646ه، عزل ابن مطروح عن ولاية دمشق ... ثم عاد الملك بعسكره إلى الديار المصرية وابن مطروح في الخدمة، والملك الصالح متغير عليه، متنكر له؛ لأمور نقمها عليه، وخيم الملك الصالح عسكره على المنصورة وابن مطروح مواظب على الخدمة مع الإعراض عنه. ولما مات الملك الصالح وصل ابن مطروح إلى مصر وأقام بها في داره إلى أن مات سنة 649ه.»
أما البهاء زهير فقد بلغ رتبة تزاحم الوزارة جاهها أو تزيد، وهي رتبة الرياسة لديوان الإنشاء، وقد تنكر له الملك الصالح أيضا في أواخر أيامه وعزله - في حديث نرويه مفصلا بعد - فأبى للبهاء زهير شرف نفسه أن يتنصل من ذنب لم تكن كل تبعته عليه، وأبى له شممه أن يقيم في الخدمة مع الإعراض عنه، فرحل من فوره إلى داره، ولزمها فقيرا معدما حتى مات.
وإذا كان البهاء زهير عظيما في خلقه - كما رأيت - فهو عظيم أيضا بمقامه في تاريخ الأدب العربي.
عاش البهاء زهير في القسم الأخير من العصر العباسي، وكان الأدب العربي في هذا الدور قد جاوز المدى في التنميق والعناية بالمحسنات البديعية والسجع والإغراب اللفظي.
وأشهر أئمة الإنشاء في ذلك العصر رجلان؛ أحدهما: القاضي الفاضل محيي الدين - أو مجير الدين - أبو علي عبد الرحيم البيساني ثم العسقلاني ثم المصري، وزير صلاح الدين وصاحب ديوان الإنشاء لعهده، المتوفى سنة 596.
وثانيهما: العماد الكاتب الوزير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن حامد الأصفهاني، المتوفى سنة 597.
ويلقب القاضي الفاضل بشيخ البلاغة، ويلقب العماد الكاتب بعمدة المنشئين.
وقد أدخل العماد أساليب الترسل بما فيها من سجع، وجناس، واقتباس، واستعارات، وكنايات في المؤلفات العلمية، فكتب في التاريخ كتبا على هذا الطراز؛ مثل مؤلفه المعروف بالفيح القسي في الفتح القدسي.
أما القاضي الفاضل فله في كتابة الإنشاء طريقة تعرف بالطريقة الفاضلية، سار على نهجها أهل عصره ومن جاء بعد عصره، وفشت في الأدب العربي، وقد سن سننا فيما تصدر به الرسائل والتواقيع وما تختم، وفي أساليب الدعاء وغير الدعاء.
وتمتاز الطريقة الفاضلية بالإطناب، وكثرة الاقتباس والتضمين، والمطابقة، والتورية، والمجاز، مع الإسراف في الجناس وما إليه من المحسنات اللفظية، ومع الميل إلى المفردات الغريبة والتراكيب الفخمة.
عين البهاء زهير رئيسا لديوان الإنشاء في الدولة الأيوبية، فحل محلا كان القاضي الفاضل صاحبه من قبل، وتولاه بعده تلميذان من أتباع مذهبه.
جاء البهاء زهير والطريقة الفاضلية في عنفوان مجدها، فابتدع هو في الشعر والإنشاء نمطا جديدا خرج به عن التقاليد المرسومة في صور المخاطبات وفي الأساليب؛ فهو موجز لا يحب الإطناب، وهو مقتصد في زينة اللفظ، وهو نزاع إلى الوضوح والبساطة، فلا يرضى كثرة المجاز والكناية، وهو عدو للجمود على نظم في البيان تقتل مواهب الإبداع والتفنن.
ثم هو لا يريد أن يستبدل الناس بكلامهم العادي كلام الجاهلية الأولى إذا نظموا الشعر أو كتبوا، وإنما يريد أن يصحح الشعراء والكتاب أساليبهم على مقتضى القواعد العربية، حتى لا تنقطع الصلة بين ماضيهم وحاضرهم، من غير أن يجني ذلك على سهولة التفاهم، ولا على حركة اللغة ونموها وحياتها.
هذا المذهب الجديد في إصلاح الأدب العربي لم يلق في ذلك العصر ما يمده ويقويه، ولم يكن البهاء زهير بفطرته السمحة، وخلقه الوديع، رجل كفاح يجاهد متحمسا في سبيل دعوة لمذهب جديد.
لم يرق لكثير من الأذواق التي أفسدها التقليد هذا المذهب الذي يفك عنها قيودها، ويخلصها من التكلف إلى مسايرة الفطر. ولقد أغفل المؤرخون الذين وقفنا على مؤلفاتهم شأن البهاء زهير في ديوان الإنشاء، حتى من تخصص منهم بهذا الموضوع؛ كالقلقشندي صاحب كتاب صبح الأعشى، فلم يرو لنا منهم أحد شيئا من الرسائل التي كتبت بقلمه على كثرة ما نقلوا من رسائل كتاب هم دونه مقاما.
وكل ما عثر عليه من ذلك رسالته في الرد على كتاب لويس التاسع ملك فرنسا إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب، وسنعرض لها فيما بعد.
ذكر هذه الرسالة الإسحاقي في تاريخه، ثم أوردها المقريزي في خططه، ونقلها علي مبارك باشا في الخطط التوفيقية.
وهذه الرسالة المفردة تهدي - عند مقارنتها بما كان يكتبه القاضي الفاضل والعماد الكاتب وأضرابهما - إلى المنازع التي اختص بها البهاء زهير، ويعين على ذلك ديوان شعره، وعسى أن يوفق الباحثون إلى أخوات لهذه الرسالة تزيدنا علما بطريقة البهاء زهير وخصائصها.
هذا، ولست أعرف شاعرا نفخت مصر فيه من روحها ما نفخت في البهاء زهير، فهو مصري في عواطفه، وفي ذوقه، وفي لهجته إلى الغاية القصوى، وإن كان مولده في بلاد الحجاز.
من أجل ذلك كله وضعت هذا البحث في البهاء زهير الشاعر المصري، إحياء لذكرى رجل جدير أن يحيا بيننا تذكاره، وقد سبقني في العام الماضي إلى نشر بحوث في البهاء زهير وشعره الأستاذان المنشاوي والسقا، المدرسان بالمدارس الثانوية الأميرية، والأستاذ الشايب، المدرس بالجامعة المصرية، واطلعت على ما كتبوا بعد أن فرغت من رسالتي.
وقد تحرى الأساتذة مطابقة المنهج الذي وضعته وزارة المعارف لدرس الأدب العربي وتاريخه، فلهم في البحث وجهة غير وجهتي. وهذا ما يسوغ لي أن أنشر رسالتي بعد أن نشروا كتابيهم القيمين، معترفا بفضلهم، مثنيا عليهم جميل الثناء.
مصطفى عبد الرازق
مصر في مارس 1930
البهاء زهير
أبو الفضل
1
زهير بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن منصور بن عاصم المهلبي العتكي الأزدي، الملقب بهاء الدين، المعروف بالبهاء زهير.
والمهلبي نسبة إلى المهلب بن أبي صفرة، فالبهاء زهير ينتسب إلى المهلب الذي كان من أشجع الناس، وكان سيدا جليلا.
روي أنه قدم على عبد الله بن الزبير أيام خلافته بمكة، فخلا به عبد الله يشاوره، فدخل عليه عبد الله بن صفوان بن أمية القرشي، فقال: «من هذا الذي قد شغلك يا أمير المؤمنين يومك هذا؟ قال: أما تعرفه؟ قال: لا؛ قال: هذا سيد أهل العراق، قال: فهو المهلب بن أبي صفرة! فقال المهلب: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: سيد قريش، قال: فهو عبد الله بن صفوان! قال: نعم. وتوفي المهلب سنة اثنتين وثمانين، وخلف عدة أولاد نجباء أجوادا أمجادا، وتسلسل المجد في ذريته زمنا طويلا.
والعتكي (بفتحتين) نسبة إلى العتيك: بطن من قبيلة الأزد. والأزد هي أزد شنوءة، ويقال الأسد بالسين.
ويصف بعض المؤرخين البهاء زهيرا بالحجازي، ويصفه بعضهم بالمصري، ويجمع له آخرون بين الوصفين.
ولئن كان مولد البهاء زهير بمكة أو بوادي نخلة بالقرب من مكة، في روايتين رواهما ابن خلكان الذي عرفه واجتمع به، فإن البهاء زهيرا مصري المنشأ، مصري الروح، مصري العاطفة، وهو القائل:
فرعى الله عهد مصر وحيا
ما مضى لي بمصر من أوقات
حبذا النيل والمراكب فيه
مصعدات بنا ومنحدرات
هات زدني من الحديث عن الني
ل ودعني من دجلة والفرات
وليالي بالجزيرة والجي
زة فيما اشتهيت من لذات
بين روض حكى ظهور الطواوي
س وجو حكى بطون البزاة
حيث مجرى الخليج كالحية الرق
طاء بين الرياض والجنات
والقائل:
ولم أر مصرا مثل مصر تروقني
ولا مثل ما فيها من العيش والخفض
وبعد بلادي فالبلاد جميعها
سواء، فلا أختار بعضا على بعض
والقائل:
أأرحل عن مصر وطيب نعيمها
وأي مكان بعدها لي شائق
وأترك أوطانا ثراها لناشق
هو الطيب لا ما ضمنته المفارق
بلاد تروق العين والقلب بهجة
وتجمع ما يهوى نقي وفاسق
وهو الذي يقول أيضا:
سقى واديا بين العريش وبرقة
من الغيث هطال الشآبيب هتان
وحيا النسيم الرطب عني إذا سرى
هنالك أوطانا إذا قيل أوطان
بلاد متى ما جئتها جئت جنة
لعينك منها كلما شئت رضوان
تمثل لي الأشواق أن ترابها
وحصباءها مسك يفوح وعقيان
فيا ساكني مصر تراكم علمتم
بأني ما لي عنكم الدهر سلوان
وما في فؤادي موضع لسواكم
ومن أين فيه وهو بالشوق ملآن؟
عسى الله يطوي شقة البعد بيننا
فتهدأ أحشاء وترقأ أجفان
علي بذاك اليوم صوم نذرته
وعندي على رأي التصوف شكران
ومن كان هذا هتافه بحب مصر فهو مصري وإن كان مسقط رأسه بلاد الحجاز بإجماع من ترجموا له. •••
ولد البهاء زهير خامس ذي الحجة سنة 581 (27 فبراير سنة 1186)، وتوفي قبل مغرب يوم الأحد رابع ذي القعدة من سنة 656 (2 نوفمبر سنة 1258) بوباء حدث بمصر والقاهرة ذلك العام، ودفن من الغد بعد صلاة الظهر بتربته في القرافة الصغرى غير بعيد من قبة الإمام الشافعي رضي الله عنه في جهتها القبلية.
ونشأ البهاء زهير في مدينة قوص بالصعيد الأعلى كما ذكره السيوطي في «حسن المحاضرة». ولم يذكر ابن خلكان في ترجمته الطويلة للبهاء زهير نسبته إلى قوص، لكنه ذكر في ترجمته لجمال الدين بن مطروح أنه كان بين الاثنين صحبة قديمة من زمن الصبا، وإقامتهما ببلاد الصعيد حتى كانا كالأخوين، وليس بينهما فرق في أمور الدنيا، ثم اتصلا بخدمة الملك الصالح وهما على تلك المودة. وابن مطروح من مدينة أسيوط، وقوص يومئذ هي أكبر مدن الصعيد، وليس بأرض مصر بعد الفسطاط مدينة أعظم منها، وهي باب مكة واليمن والنوبة وسواكن، حفلة الأسواق، متسعة المرافق، فيها تنزل القوافل الواردة من بحر الهند والحبش واليمن والحجاز، وفيها كثير من الفنادق والبيوت الفاخرة، والحمامات والمدارس والبساتين، ويسكنها أرباب الصنائع والفنون والتجار والعلماء والأغنياء، وكانت ملتقى الحجاج المغاربة والمصريين والإسكندريين ومن يتصل بهم، منها يذهبون إلى جدة وإليها انقلابهم في صدورهم من الحج.
وقوص من قديم الزمان منبع العلم والعلماء، ويقول صاحب كتاب «الطالع السعيد الجامع لأسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد»، وهو كمال الدين أبو الفضل جعفر بن ثعلب بن جعفر الأدفوي، المتوفى سنة (748ه/1347م): إن بقوص ستة عشر مكانا للتدريس.
ولم يرد للبهاء زهير ذكر في كتاب الأدفوي إلا عرضا.
ولم يحدثنا أحد ممن ترجموا للبهاء زهير عن سيرة أبيه، غير أنا وجدنا في نسخة خطية قديمة بدار الكتب المصرية لديوان شعر البهاء زهير - رقم 2051 أدب - وصف أبيه «بالعارف محمد قدس الله روحه»، وينعت بذلك في العادة أهل الصلاح والتقوى.
وانتقال والد البهاء زهير من مكة إلى قوص في تاريخ غير معروف، إلا أن كلام المؤرخين، كابن خلكان، يفيد أن البهاء زهيرا قضى زمن صباه في الصعيد، ونشأ الود بينه وبين ابن مطروح في ذلك العهد.
وربما يسبق إلى الظن أن البهاء زهيرا كان طفلا حين هاجرت أسرته إلى وادي النيل؛ لكنا نجد في شعره قصيدتين يذكر فيهما عهده بالحجاز؛ أما أولاهما فهي:
أحن إلى عهد المحصب من منى
وعيش به كانت ترف ظلاله
ويا حبذا أمواهه ونسيمه
ويا حبذا حصباؤه ورماله
ويا أسفى إذ شط عني مزاره
ويا حزني إذ غاب عني غزاله
وكم لي بين المروتين لبانة
وبدر تمام قد حوته حجاله
مقيم بقلبي حيث كنت حديثه
وباد لعيني حيث سرت خياله
وأذكر أيام الحجاز وأنثني
كأني صريع يعتريه خباله
ويا صاحبي بالخيف كن لي مسعدا
إذا آن من بين الحجيج ارتحاله
وخذ جانب الوادي كذا عن يمينه
بحيث القنا يهتز منه طواله
هناك ترى بيتا لزينب مشرقا
إذا جئت لا يخفى عليك جلاله
فعرض بذكري حيث تسمع زينب
وقل ليس يخلو ساعة عنك باله
عساها إذا ما مر ذكري بسمعها
تقول: فلان عندكم كيف حاله؟
والقصيدة الثانية هي:
سقى الله أرضا لست أنسى عهودها
ويا طول شوقي نحوها وحنيني
منازل كانت لي بهن منازل
وكان الصبا إلفي بها وقريني
تذكرت عهدا بالمحصب من منى
وما دونه من أبطح وحجون
وأيامنا بين المقام وزمزم
وإخواننا من وافد وقطين
زمان عهدت الوقت لي فيه واسعا
كما شئت من جد به ومجون
إذ العيش نضر فيه للعين منظر
وإذ وجهه غض بغير غضون
وليست ذكريات طفل هذه الذكريات التي يحن البهاء زهير إلى عهدها بين المقام وزمزم، فلا بد أن يكون شاعرنا جاء إلى قوص فتى مستكملا.
قال المؤرخون: وانتقل البهاء زهير من قوص بعد أن ربي فيها وقرأ الأدب وسمع الحديث، وبرع في النظم والنثر والترسل، ووصل إلى القاهرة فاتصل بخدمة السلطان الملك الصالح أبي الفتح نجم الدين أيوب في حياة أبيه الكامل أيام كان نائبا عنه.
ويظهر أن البهاء زهيرا كان اتصل قبل ذلك بخدمة الأمير مجد الدين إسماعيل بن اللمطي الذي هنأه شاعرنا سنة 607 لتوليه أعمال القوصية بقصيدة هي أول مديحه - كما في طبعة پلمر - مطلعها:
تمليته يا لابس العز ملبسا
وهنئته يا غارس الجود مغرسا
ومنها:
به أصبحت قوص إذا هي فاخرت
أعز قبيل في الأنام وأنفسا
ومنها:
لقد شرفت منه الصعيد ولاية
وأصبح واديه به قد تقدسا
ونجد للبهاء زهير قصائد في مدح هذا الأمير يلتمس في بعضها العون منه؛ كقوله:
عسى نظرة من حسن رأيك صدفة
تسوق إلى جدبي بها الماء والكلا
فهأنذا أشكو الزمان وصرفه
وتأنف لي علياك أن أتبدلا
مقيم بأرض لا مقام بمثلها
ولولاك ما أخرت أن أتحولا
فجد لي بحسن الرأي منك لعلني
أرى الدهر مما قد جرى متنصلا
وهل كنت إلا السيف خالطه الصدى
فكنت له يا ذا المواهب صيقلا
ونجد في ديوان البهاء زهير مدحا للأمير وتهنئة بشهر الصوم سنة 609 في قصيدة تفيض بالشكر والثناء، منها:
مولى بدا من غير مسألة بما
جاز المدى كرما وعاد كما بدا
وأنال جودا لا السحاب ينيله
يوما وإن كان السحاب الأجودا
وفي قصائد أخرى مدح وثناء أيضا؛ كالقصيدة التي مطلعها:
لها خفر يوم اللقاء خفيرها
فما بالها ضنت بما لا يضيرها؟
وما نالني من أنعم الله نعمة
وإن عظمت إلا وأنت سفيرها
ومن بدأ النعمى وجاد تكرما
بأولها يرجى لديه أخيرها
ثم نجد بعد ذلك شعرا للبهاء زهير في مدح الأمير مجد الدين اللمطي ينم عن شكوى وعتب. وفي بعض القصائد تصريح بأن البهاء زهيرا كان كاتبا للأمير ثم انفصل من خدمته، ففي سنة 619 أو سنة 912 (على نسختين مختلفتين من نسخ الديوان أرجح أولاهما)، قال البهاء زهير في الأمير مجد الدين بن إسماعيل بن اللمطي قصيدته التي أولها:
لنا عندكم وعد فهلا وفيتم
وقلتم لنا قولا فهلا فعلتم
حفظنا لكم ودا أضعتم عهوده
فشتان في الحالين نحن وأنتم
ومنها:
فيا تاركي أنوي البعيد من النوى
إلى أي قوم بعدكم أتيمم؟
ألا إن إقليما نبت بي داره
وإن كثر الإثراء فيه لمعدم
وإن زمانا ألجأتني صروفه
فحاولت بعدي عنكم لمذمم
وأعلم أني غالط في فراقكم
وأنكم في ذاك مثلي وأعظم
فلا طاب لي عنكم مقام بموطن
ولو ضمني فيه المقام وزمزم
ومثلك لا يأسى على فقد كاتب
ولكنه يأسى عليك ويندم
فمن ذا الذي تدنيه منك وتصطفي
فيكتب ما توحي إليه ويكتم
ومن ذا الذي ترضيك منه فطانة
تقول فيدري أو تشير فيفهم
وما كل أزهار الرياض أريجة
وما كل أطيار الفلا تترنم
ومن قصائده التي تنم عن العتب قصيدة مطلعها:
أعلمتم أن النسيم إذا سرى
نقل الحديث إلى الرقيب كما جرى
ومنها:
مولاي مجد الدين عطفا إن لي
لمحبة في مثلها لا يمترى
يا من عرفت الناس حين عرفته
وجهلتهم لما نبا وتنكرا
خلق كماء المزن منك عهدته
ويعز عندي أن يقال تغيرا
مولاي لم أهجر جنابك عن قلى
حاشاي من هذا الحديث المفترى
وكفرت بالرحمن إن كنت امرأ
يرضى لما أوليته أن يكفرا
وقال البهاء زهير أيضا يمدح هذا الأمير وقد انفصل من خدمته:
آيات مجدك ما لها تبديل
وعلو قدرك ما إليه سبيل
أسفي على زمن لديك قطعته
وكأنني للفرقدين نزيل
وإذا انتسبت بخدمتي لك سابقا
فكأنها لي معشر وقبيل
هذا هو الأدب الذي أنشأته
فاهتز منه روضه المطلول
وربما دل كل ذلك على أن هجرة البهاء زهير من قوص إلى القاهرة كانت بعد انفصاله من خدمة اللمطي بعد سنة 619، ولعل هجرته للاتصال بخدمة الملك الصالح كانت فيما حوالي سنة 622؛ فإنا نجد له قصيدة في هذا العهد مدح بها الصالح - ستأتي الإشارة إليها - وقد يكون اتصل قبل الملك الصالح بأخيه الملك المسعود صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن الملك الكامل؛ فإن في ديوان شاعرنا قصيدة مدح بها هذا الملك لما قدم من اليمن سنة 620، كما في طبعة پلمر، وأول هذه القصيدة:
لكم أينما كنتم مكان وإمكان
وملك له تعنو الملوك وسلطان
ومنها:
هو الملك المسعود رأيا وراية
له سطوة ذلت لها الإنس والجان
غدا ناهضا بالملك يحمل عبئه
وأقرانه ملك المكاتب ولدان
وتهتز أعواد المنابر باسمه
فهل ذكرت أيامها وهي قضبان؟
ومنها:
أعلل نفسي بالمواعيد والمنى
وقد مر أزمان لذاك وأزمان
أرى أن عزي من سواك مذلة
وأن حبائي من سواك لحرمان
وليس غريبا من إليه اغترابه
له منه أهل حيث كان وأوطان
وقد قرب الله المسافة بيننا
فها أنا يحويني وإياه إيوان
وقال يمدحه بعد رجوعه من اليمن، وأرسل بها من قوص إلى مصر سنة 621:
أتتك ولم تبعد على عاشق مصر
ووافاك مشتاقا لك المدح والشعر
إلى الملك المسعود ذي البأس والندى
فأسيافه حمر وساحاته خضر
وتوجه البهاء زهير في خدمة الملك الصالح إلى البلاد الشرقية إلى أن أتى ملك الصالح مدينة دمشق ، فانتقل إليها في خدمته، وأقام كذلك إلى أن جرت الكائنة المشهورة على الملك الصالح وخرجت عنه دمشق، وخانه عسكره وهو بنابلس وتفرقوا عنه، وقبض عليه الملك الناصر داود صاحب الكرك واعتقله بقلعة الكرك. وأقام بهاء الدين زهير بنابلس وفيا لصاحبه، ولم يتصل بغيره؛ ولم يزل على ذلك حتى خرج الملك الصالح وملك الديار المصرية، فعاد إليها في خدمته. وذلك في أواخر ذي القعدة سنة 637ه.
ويقول صاحب كتاب النجوم الزاهرة: إن البهاء زهيرا دام في خدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى أن توفي الملك الصالح.
وفي صبح الأعشى: أن الملك الصالح نجم الدين أيوب حين تولى ملك مصر ولى ديوان الإنشاء الصاحب بهاء الدين زهيرا، ثم صرفه وولى بعده الصاحب فخر الدين بن لقمان الأسعردي، فبقي إلى انقراض الدولة الأيوبية.
وفي حسن المحاضرة: ثم ولي ديوان الإنشاء الصاحب بهاء الدين زهير الشاعر المشهور، ثم صرف وولي بعده الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان الأسعردي، وأقام إلى انقراض الدولة الأيوبية.
ولعل الصحيح أن بهاء الدين زهيرا بقي في خدمة الملك الصالح إلى أن مات الملك الصالح في شعبان سنة 647؛ فقد ذكر المؤرخون أنه في سنة 646 حدث للملك الصالح نجم الدين ورم في باطن ركبته تكون منه ناسور عسر برؤه، وانضاف إليه قرحة في الصدر، فلزم الفراش؛ إلا أن علو همته اقتضى مسيره من ديار مصر إلى الشام، فسار في محفة ونزل بقلعة دمشق، ثم خبره مخبر أن رواد
2
فرنس عازم على المسير إلى أرض مصر وأخذها؛ فسار السلطان من دمشق وهو مريض في محفة ونزل بأشموم طناح في المحرم سنة 647، وأعد العدة للكفاح عند دمياط. وفي أواخر صفر، وردت جيوش العدو، وبعث ملكهم إلى السلطان كتاب تهديد ووعيد، هذا نصه:
أما بعد، فإنه لم يخف عليك أني أمين الأمة العيسوية، كما أنه لا يخفى علي أنك أمين الأمة المحمدية.
وغير خاف عليك أن عندنا أهل جزائر الأندلس وما يحملونه إلينا من الأموال والهدايا، ونحن نسوقهم سوق البقر، ونقتل الرجال، ونرمل النساء ، ونستأثر بالبنات والصبيان، ونخلي منهم الديار. وأنا قد أبديت لك الكفاية، وبذلت لك النصيحة إلى الغاية والنهاية؛ فلو حلفت لي بكل الأيمان، وأدخلت علي القسس والرهبان، وحملت قدامي الشمع طاعة للصلبان؛ لكنت واصلا إليك، وقاتلك في أعز البقاع عليك؛ فإما أن تكون البلاد لي - فيا هدية حصلت في يدي! - وإما أن تكون البلاد لك والغلبة علي، فيدك اليمنى ممتدة إلي. وقد عرفتك وعرفت ما قلت لك، وحذرتك من عساكر حضرت في طاعتي تملأ السهل والجبل، وعددهم كعدد الحصى، وهم مرسلون إليك بأسياف القضاء.
فلما قرئ الكتاب على السلطان وقد اشتد به المرض بكى واسترجع، فكتب القاضي بهاء الدين زهير بن محمد الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلواته على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين. أما بعد، فإنه وصل كتابك وأنت تهدد فيه بكثرة جيوشك وعدد أبطالك، ونحن أرباب السيوف، وما قتل منا قرن إلا جددناه، ولا بغى علينا باغ إلا دمرناه؛ فلو رأت عينك أيها المغرور حد سيوفنا، وعظم حروبنا، وفتحنا منكم الحصون والسواحل، وتخريبنا ديار الأواخر منكم والأوائل؛ لكان لك أن تعض على أناملك بالندم، ولا بد أن تزل بك القدم، في يوم أوله لنا وآخره عليك؛ فهنالك تسيء الظنون
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، فإذا قرأت كتابي هذا فتكون منه على أول سورة النحل:
أتى أمر الله فلا تستعجلوه ، وتكون أيضا على آخر سورة ص:
ولتعلمن نبأه بعد حين ، ونعود إلى قوله تعالى وهو أصدق القائلين:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين . وقول الحكماء: «إن الباغي له مصرع»، وبغيك يصرعك، وإلى البلاء يسلمك. والسلام.
فالبهاء زهير كان في خدمة الملك الصالح في أواخر صفر من سنة 647، وتوفي الملك الصالح في أواسط شعبان من تلك السنة بعد أشهر قضاها في مرض مستمر، وفي جهاد لم يكن كله مظفرا.
بعد هذا الفرض الذي أدى بنا إلى ترجيح أن البهاء زهيرا ظل متصلا بالملك الصالح إلى أن مات الملك الصالح، وجدنا في كتاب تاريخ العيني
3 - الموجود في دار الكتب المصرية بالفتوغرافيا ج19 - ما يدل صريحا على أن الملك الصالح صرف البهاء زهيرا من خدمته قبل موته بقليل، فرأينا أن ننقل هذا النص عن نسخة دار الكتب المصرية:
قلت: وذكر القطب اليونيني في كتابه الذيل على مرآة الزمان، قال في ترجمة البهاء زهير كاتب الملك الصالح، قال: فلما خرج الملك الصالح بالكرك من الاعتقال، وسار إلى الديار المصرية، كان بهاء الدين زهير المذكور في صحبته، فأقام عنده في أعلى منزلة وأجل مرتبة، هو المشار إليه في كتاب الدرج والمتقدم عليهم، وأكثرهم اختصاصا بالملك الصالح واجتماعا به، وسيره رسولا في سنة خمس وأربعين وستمائة إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب، يطلب منه إيفاد الملك الصالح عماد الدين إسماعيل إليه، فلم يجب إلى ذلك، وأنكر الناصر هذه الرسالة غاية الإنكار وأعظمها واستصعبها، وقال: كيف يسعني أن أسير عمه إليه وهو خال أبي وكبير البيت الأيوبي حتى يقتله وقد استجار بي؟! وأشهد أنني لا أفعلها أبدا. ورجع البهاء زهير إلى الملك الصالح نجم الدين هذا بهذا الجواب، فعظم عليه وسكت على ما في نفسه من الحنق.
وقبل موت الملك الصالح نجم الدين أيوب بمديدة يسيرة وهو نازل على المنصورة، تغير على بهاء الدين زهير، وأبعده لأمر لم يطلع عليه أحد. قال: حكى لي البهاء زهير أن سبب تغيره عليه: أنه كتب عن الملك الصالح كتابا إلى الملك الناصر داود صاحب الكرك، وأدخل الكتاب إلى الملك الصالح ليعلم عليه على العادة؛ فلما وقف عليه الملك الصالح كتب بخطه بين الأسطر: «أنت تعرف قلة عقل ابن عمي، وأنه يحب من يصله ويعطيه من يده، فاكتب له غير هذا الكتاب ما يعجبه»، وسير الكتاب إلى البهاء زهير ليغيره والبهاء زهير مشغول، فأعطاه لفخر الدين إبراهيم بن لقمان، فأمره بختمه فختمه وجهزه إلى الناصر على يد نجاب ولم يتأمله، فسافر به النجاب لوقته، واستبطأ الملك الصالح عود الكتاب إليه ليعلم عليه، ثم سأل عنه بهاء الدين زهيرا بعد ذلك وقال له: ما وقفت على ما كتبته بخطي بين الأسطر؟ قال البهاء: ومن يجسر أن يقف على ما كتبه السلطان بخطه إلى ابن عمه؟! وأخبره أنه سير الكتاب مع النجاب؛ فقامت قيامة السلطان، وسيروا في طلب النجاب فلم يدركوه، ووصل الكتاب إلى الملك الناصر بالكرك، فعظم عليه وتألم له.
ثم كتب جوابه إلى الملك الصالح وهو يعتب عليه فيه العتب المؤلم ويقول له فيه: «والله ما بي ما يصدر منك في حقي، وإنما بي اطلاع كتابك على مثل هذا.» فعز ذلك على الملك الصالح وغضب على بهاء الدين زهير، وبهاء الدين لكثرة مروءته ينسب ذلك إلى نفسه، ولم ينسبه لكاتب الكتاب وهو فخر الدين بن لقمان - رحمه الله تعالى.
قال: وكان الملك الصالح كثير التخيل والغضب والمؤاخذة على الذنب الصغير، والمعاقبة على الوهم، لا يقيل عثرة، ولا يقبل معذرة.
ويلاحظ أن ديوان البهاء زهير خلو من رثاء الملك الصالح وخلو من مدائحه إلا قليلا.
كان بهاء الدين زهير كاتب ديوان الإنشاء في عهد الملك الصالح أو كاتب السر، وديوان الإنشاء في عهد الدولة الأيوبية كان عظيما معتنى به، وكان لا يتولاه إلا أجل كتاب البلاغة، ومتولي رتبة كتابة السر أعظم أهل الدولة.
ومن وظيفة كاتب السر قراءة الكتب الواردة على السلطان، وكتابة أجوبتها، والجلوس لقراءة القصص بدار العدل، والتوقيع عليها، وتصريف المراسيم صدورا وورودا.
وكانت تجمع كتابة السر إلى الوزارة تارة، كما فعل ذلك صلاح الدين الأيوبي مع القاضي الفاضل، وتفصل عنها أخرى كما استمر عليه العمل بعد القاضي الفاضل.
ويقول بعض المؤلفين: إن بهاء الدين زهيرا كان وزيرا للملك الصالح نجم الدين أيوب ويلقبونه بالصاحب بهاء الدين زهير. والصاحب لقب للوزير إذا كان من أرباب الأقلام، على أن بهاء الدين زهيرا وإن لم يكن وزيرا فقد كانت رتبته، وهي رياسة ديوان الإنشاء، تقاسم الوزارة جاهها ومجدها في عهد الأيوبيين، وربما كانت أوفى منها مجدا وجاها. ومع هذه المكانة العالية؛ فإن البهاء زهيرا مات فقيرا، وفي آخر عمره - كما في تاريخ أبي الفداء وتاريخ ابن الوردي - انكشف حاله حتى باع موجوده وكتبه وأقام في بيته بالقاهرة حتى أدركه أجله. وأجمع المترجمون له على أنه كان ذا مروءة ولطف ومكارم أخلاق، وقد كان متمكنا من صاحبه الملك الصالح، ولا يتوسط عنده إلا بالخير، ونفع خلقا كثيرا، وبلغ من الرفعة ما لم يبلغه غيره.
والقارئ لشعر البهاء زهير يحس بما في نفس الشاعر من رقة وحسن ذوق، وبعد عن الشر والأذى، ومما يدل على لطف روحه أنه قلما يهجو بغير الوصف بالثقل، فيقول:
وثقيل كأنما
ملك الموت قربه
ليس في الناس كلهم
من تراه يحبه
لو ذكرت اسمه على الما
ء لما ساغ شربه
ويقول:
وجليس ليس فيه
قط مثل الناس حس
لي منه أينما كن
ت على رغمي حبس
ما له نفس فتنها
ه، وهل للصخر نفس
إن يوما فيه ألقا
ه ليوم هو نحس
ويقول:
رب ثقيل لبغض طلعته
أخشاه حتى كأنه أجلي
وكلما قلت لا أشاهده
ألقاه حتى كأنه عملي
ويقول:
يا ثقيلا لي من
رؤيته هم طويل
وبغيضا هو في الحل
ق شجي ليس يزول
كل فضل في الورى
أضعافه فيك فضول
كيف لي منك خلاص
أين لي منك سبيل؟
حار أمري فيك حتى
لست أدري ما أقول
أنت والله ثقيل
أنت والله ثقيل
ويقول:
والله لولا خيفة التثقيل
زرتك في الضحى وفي الأصيل
لكن أرى التخفيف عن خليلي
ولست في العشرة بالثقيل
ويقول:
وثقيل ما برحنا
نتمنى البعد عنه
غاب عنا ففرحنا
جاءنا أثقل منه
والقارئ لديوانه يشعر بإباء وعزة لم تلنهما إلا صولة الفقر في عهد الشباب الأول لشاعرنا، حينما كان يلتمس من الأمير اللمطي وغيره عونا، في لهجة تكاد تكون تذللا لم يعرفه بعد ذلك شعر البهاء زهير.
وإذ قد وصلنا إلى شعر البهاء زهير فقد وصلنا إلى الجانب المهم من بحثنا؛ فإن البهاء زهيرا الشاعر المصري هو مدار حديثنا، لا البهاء زهيرا من حيث هو صاحب ديوان الإنشاء في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب .
ولقد كان الشعر العربي قد جمد في صوره وأساليبه وموضوعاته في القرون الأخيرة من العصر العباسي بتحكم الأعاجم في شئون الدولة، وقلة تشجيعهم للشعراء، وبتوالي الفتن على الممالك الإسلامية، ثم انتعش الشعر في وادي النيل مدة الفاطميين (358-576) الذين كان لهم باللغة العربية عناية عظيمة، وفي عهد الأيوبيين (576-650) الذين راجت في عهدهم القصير فنون العلم والأدب، وازدهرت المدنية.
وفي هذا العهد نشأ البهاء زهير ووسع شعره كل ما أنتجت مدنية ذلك العهد من ثمرات.
قال هيار في كتابه «الأدب العربي»:
إن شعر بهاء الدين زهير المهلبي، كاتب السر في الدولة المصرية، يجعلنا ندرك ما بلغه لسان العرب من المرونة والاستعداد للتعبير عن ألوف من دقائق العواطف التي صقلتها مدنية خلفاء صلاح الدين الزاهية.
وفي ترجمة ابن خلكان للبهاء زهير ما يدل على أن شعر بهاء الدين زهير كان مجموعا في حياته، متداولا بأيدي الناس، قال ابن خلكان في تلك الترجمة:
وشعره كله لطيف، وهو كما يقال: السهل الممتنع، وأجازني رواية ديوانه، وهو كثير الوجود بأيدي الناس ... إلخ.
وفي النسخ الخطية الموجودة بدار الكتب المصرية من هذا الديوان ما يدل على أن بعض تلامذته جمع شعره وزاد فيه على ما في ديوانه؛ ففي آخر صحيفة من نسخة خطية (رقمها 2051 أدب) ما نصه:
قال جامع هذا الديوان - وهو تلميذ الشيخ: هذا آخر ما وجدت من شعر أبي الفضل زهير بن محمد بن علي المهلبي - رحمه الله - وأثابه الجنة بمنه وكرمه.
وفي هذه النسخة مقدمة جاء فيها:
كل ما كتب في هذا الديوان وقلت: قال رحمه الله؛ فإني كتبته بعد موته رحمه الله بدمشق المحروسة - حماها الله تعالى - في جمادى الأولى من شهور سنة سبع وستين وستمائة ولم أسمعه منه. ا.ه.
وتوجد نسخة خطية أخرى أولها: «أما بعد حمد الله على مزيد آلائه، وشكره على ما تفضل به من جزيل جزائه.» وبعد كلام: «أحببت أن أجمع ما وجدت من كلامه مستعينا بالله.» كتبت هذه النسخة سنة 1002 وليس فيها ما يدل على اسم جامعها إلا أن بآخرها: «من نعم الله على العبد الفقير محمد بن محمد اليماني.» وورد في طبعة پلمر، التي سيأتي ذكرها، ببعض الهوامش: أن الذي جمع ديوان بهاء الدين زهير بعد وفاته هو شرف الدين، وأن ذلك مذكور في نسخة حسنة موجودة بمكتبة أكسفورد عليها اعتمد الطابع في التصحيح. وشرف الدين هذا هو أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي الوفاء بن خطاب، المعروف بابن الحلاوي الموصلي الأصل، الدمشقي المولد والدار.
وقد ذكر ابن خلكان أن شرف الدين المذكور لقي البهاء زهيرا في بلاد الشام ومدحه. وفي الديوان قصيدة أرسلها البهاء زهير إلى شرف الدين تعزية له في أخيه سنة 641.
وقد طبع ديوان البهاء زهير منذ عهد قديم بمصر، وأعيد طبعه مرارا، وطبع في بيروت وغيرها، وأول طبعاته طبعة حجرية بمصر سنة 1277ه، وتليها طبعة حجرية أخرى سنة 1278ه بمصر.
وطبع هذا الديوان بكمبردج سنة 1876 في مجلدين: الأول منهما فيه الديوان مع تعليقات وهوامش، وفي أوله مقدمة تشتمل على ما للشعر من منزلة سامية عند العرب، وعلى ترجمة صاحب الديوان، والثاني ترجمة للديوان بالإنجليزية منظومة شعرا وعليها شروح، طبعه أدور هنري پالمر مدرس اللغة العربية بمدرسة كمبردج الذي قتله بعض العرب ببادية طور سينا سنة 1882 أثناء الحوادث العرابية.
ويقول صاحب «اكتفاء القنوع بما هو مطبوع»: «إن ديوان البهاء زهير طبع أيضا في باريس سنة 1883 مع القراءات المتنوعة للمتن الأصلي العربي.» •••
كانت للشعر نهضة، كما قلنا، في عهد الفاطميين فالأيوبيين، والبهاء زهير من أئمة النهضة الشعرية في عصر بني أيوب.
وعبقرية البهاء زهير في هذه النهضة تتجلى من نواح ثلاث: (1)
ناحية الأسلوب. (2)
ناحية الأوزان. (3)
ناحية الموضوعات التي يتناولها الشعر.
الناحية الأولى ناحية الأسلوب
كان عصر البهاء زهير من جهة اللغة شبيها بعصرنا هذا، ففيه لهجة يستخدمها الناس في معايشهم ومعاملاتهم، ويعبرون بها عن أفكارهم وعواطفهم في حياتهم اليومية؛ ولهم لهجة أخرى لا يلجئون إليها إلا إذا عالجوا النظم أو حاولوا الإنشاء. كانت لغة الحياة في شتى مظاهرها لغة ملحونة، ولكنها تساير الحياة في حركتها وانتقالها، وتصل بسهولة إلى أفهام العامة والخاصة. وكانت لغة الشعر والكتابة لغة مستقيمة الإعراب تتسامى عن التبدل للعامة، وتحاول أن تتصل بأساليب الشعر القديم والنثر القديم، باعتبار تلك الأساليب قوالب ينبغي أن يصب فيها شعر ما يتلو من العصور ونثره، ووجد من الشعراء والكتاب من كان همه أن يزيد لغة القريض والإنشاء تعاليا على لغة العامة باختيار العبارات الجزلة، القليلة الاستعمال، البعيدة عن الابتذال، وبالتأنق في تزيين الأساليب الشعرية والنثرية بالمحسنات البديعية التي قد يكون لبعضها تقدير من الجهة الصناعية؛ لكنها بعيدة عن جمال البيان والوضوح.
أما البهاء زهير فجاء بمذهب جديد، فجعل لغة الحياة الجارية في بساطتها ومرونتها لغة للشعر بعد تطبيقها على قواعد الإعراب، وتقويم ما فيها من اللحن جهد المستطاع؛ وجرى على ذلك فيما كانت تجيش به نفسه، وتفيض به عواطفه من فنون الشعر.
وشعر البهاء زهير كما هو مرآة صادقة لعصره بما فيه من فيض الطبع والبعد عن التكلف، هو أيضا مرآة لعصره من حيث اللغة والتعبير، والروح المصري يتجلى في هذا الشاعر القوصي الصعيدي بأكثر مما يتجلى في أي شاعر مصري عرفناه في القديم والحديث.
وللبهاء زهير في بعض قصائده تشوق إلى الصعيد:
أحن إليكم كل يوم وليلة
وأهذي بكم في يقظتي ومنامي
فلا تنكروا طيب النسيم إذا سرى
إليكم فذاك الطيب فيه سلامي
فهل عائد منكم رسولي بفرحة
كفرحة حبلى بشرت بغلام؟
ويرتاح قلبي للصعيد وأهله
وعيش مضى لي عندكم ومقام
وأهوى ورود النيل من أجل أنه
يمر على قوم لدي كرام
ويطول بنا القول لو أردنا أن نستقصي في شعر البهاء زهير نفحات مصريته في التعبير والذوق، ودلائل ديمقراطيته في اللغة وإن كان أرستقراطي المنازع والأخلاق.
على أننا نذكر لذلك نماذج نحيل على ديوانه لاستيفائها، ولا يفوتنا أن نشير إلى أن من نفحات المصرية في أسلوب البهاء زهير كثرة الحلف في شعره، فقلما تخلو قصيدة له من يمين، حتى ليقول:
ووالله ما فارقتكم من ملالة
ووالله ما أحتاج أني أحلف •••
لعلكم قد صدكم عن زيارتي
مخافة أمواه لدمعي وأنواء
فلو صدق الحب الذي تدعونه
وأخلصتم فيه مشيتم على الماء
وإن يك أنفاسي خشيتم لهيبها
وهالتكم نيران وجد بأحشائي
فكونوا رفاعيين في الحب مرة
وخوضوا لظى نار لشوقي حراء
حرمت رضاكم إن رضيت بغيركم
أو اعتضت عنكم في الجنان بحوراء •••
قلبي لديك فكيف أن
ت على البعاد وكيف قلبي؟ •••
فيا صاحبي ما لي أراك مفكرا
وحتام، قل لي، لا تزال كئيبا •••
قال لي العاذل تسلو
قلت للعاذل تتعب
أنا بالعاذل ألهو
أنا بالعاذل ألعب
ليس في العشاق إلا
من يغني لي وأشرب •••
أحدثه إذا غفل الرقيب
وأسأله الجواب فلا يجيب
وأطمع حين أعطفه عساه
يلين لأنه غصن رطيب
ويخفق حين يبصره فؤادي
ولا عجب إذا رقص الطروب
فيا مولاي قل لي أي ذنب
جنيت لعلني منه أتوب؟
حبيب أنت قل لي أم عدو
ففعلك ليس يفعله حبيب؟! •••
أنا فيما أنا فيه
وعذولي يتعتب
أنا لا أصغي لما قا
ل فيرضى أو فيغضب
يا حبيبي ونديمي
والليالي تتقلب
هات فيما نحن فيه
ودع العاذل يتعب •••
أرى قوما بليت بهم
نصيبي منهم نصبي
فمنهم من ينافقني
فيكذب لي ويحلف بي
ويلزمني بتصديق ال
لذي قد قال من كذب
وذو عجب إذا حدث
ت عنه جئت بالعجب
وما يدري بحمد الله
ما شعبان من رجب
وما أبصرت أحمق من
ه في عجم ولا عرب
وأحمق قد شقيت به
بلا عقل ولا أدب
فلا ينفك يتبعني
وإن أمعنت في الهرب
كأني قد قتلت له
قتيلا فهو في طلبي
لأمر ما صحبتهم
فلا تسأل عن السبب
يحسن عقلنا أنا
نصيد الباز بالخرب
4
وكنا قد ظننا الصف
ر
5
عند النقد كالذهب
فلم نظفر بحاجتنا
وأشفينا على العطب
رجعنا مثلما رحنا
ولم نربح سوى التعب •••
وزائرة زارت وقد هجم الدجا
وكنت لميعاد لها مترقبا
فما راعني إلا رخيم كلامها
تقول حبيبي قلت أهلا ومرحبا
فقبلت أقداما لغيري ما مشت
ووجها مصونا عن سواي محجبا
ولم تر عيني ليلة مثل ليلتي
فيا سهري فيها لقد كنت طيبا
سأشكر كل الشكر إحسان محسن
تحيل حتى زارني وتسببا
حبيب لأجلي قد تعنى وزارني
وما قيمتي حتى مشى وتعذبا؟! •••
كم ذا التصاغر والتصابي
غالطت نفسك في الحساب!
لم يبق فيك بقية
إلا التعلل بالخضاب
لا أقتضيك مودة
رفع الخراج عن الخراب
ما العيش إلا في الشبا
ب وفي معاشرة الشباب
ولقد رأيتك في النقاب
وذاك عنوان الكتاب
وسألت عما تحته
قالوا عظام في جراب
وسمعت عنك قضية
سارت بها أيدي الركاب
هذا وكم من وقفة
لك في الأزقة للعتاب!
واليوم قالوا حرة
ست الحرائر في الحجاب
وأردت أنطق بالجوا
ب فلم يكن وقت الجواب
يا هذه ذهب الصبا
فإلى متى هذا التصابي؟
ما هذه شيم الحرا
ئر لا ولا شيم القحاب •••
لا تطرح خامل الرجال فقد
تحتاج يوما إلى كفايته
فاليك في النرد وهو محتقر
خير من الشيش عند حاجته
6 •••
يعاهدني لا خانني ثم ينكث
وأحلف لا كلمته ثم أحنث
وذلك دأبي لا يزال ودأبه
فيا أيها الناس اسمعوا وتحدثوا
أقول له صلني، يقول: نعم غدا
ويكسر جفنا هازئا بي ويعبث
وما ضر بعض الناس لو كان زارني
وكنا خلونا ساعة نتحدث
أمولاي إني في هواك معذب
وحتام أبقى في العذاب وأمكث؟
فخذ مرة روحي ترحني ولم أكن
أموت مرارا في النهار وأبعث •••
صديق لي سأذكره بخير
وأعرف كنه باطنه الخبيثا
وحاشا السامعين يقال عنه
وبالله اكتموا هذا الحديثا •••
مولاي من سكر الدلال عبث
ت والسكران عابث
ونكثت عهدا في الهوى
ما خلت أنك فيه ناكث
لك لا أشك قضية
أنا سائل عنها وباحث
عتب الحبيب فلم أجد
سببا لذاك العتب حادث
واليوم لي يومان لم
أره وهذا اليوم ثالث
ما كنت أحسب أنه
ممن تغيره الحوادث
ويلذ لي العتب الذي
صدق الوداد عليه باعث •••
وعائد هو سقم
لكل جسم صحيح
لا بالإشارة يدري
ولا الكلام الصريح
وليس يخرج حتى
تكاد تخرج روحي •••
وغادة بوصلها مسامحه
تحفظ ودي مثل حفظ الفاتحه
وفت بوعد ثم قامت رائحه
فيا صحابي في الخطوب الفادحه
هبكم رحمتم لي نفسا طافحه
هبكم أعنتم بدموع سافحه
ما تفعل الثكلى بنوح النائحه •••
أتتك وإن كانت كثيرا تأخرت
فإنك تعفو عن كثير وتصفح •••
أيها الغافل الذي ليس تجدي
كثرة اللوم فيه والتوبيخ
إنها غفلة لك الويل منها
ما رواها الرواة في التاريخ
وكما قيل هب بأنك أعمى
كيف تخفى روائح البطيخ؟ •••
وحيثما كنت كنت مولى
وحيثما كنت كنت عبدك •••
ويا ليت عندي كل يوم رسولكم
فأسكنه عيني وأفرشه خدي
وإني لأرعاكم على كل حالة
وحقكم أنتم أعز الورى عندي
عليكم سلام الله والبعد بيننا
وبالرغم مني أن أسلم من بعد •••
بحق الله متع
ني من وجهك بالبعد
فما أشوقني منك
إلى الهجران والصد
فما تصلح للهزل
ولا نصلح للجد
وماذا فيك من ثقل
وماذا فيك من برد؟
فلا صبحت بالخير
ولا مسيت بالسعد •••
وليلة ما مثلها قط عهد
مثل حشا العاشق باتت تتقد
طلبت فيها مؤنسا فلم أجد
بت أقاسيها وحيدا منفرد
طالت فأما صبحها فقد فقد
فتحبل المرأة فيها وتلد •••
ووعدتني يوم الخمي
س فلا الخميس ولا الأحد
وإذا اقتضيتك لم تزد
عن قول إي والله غد
فأعد أياما تمر
ر وقد ضجرت من العدد
وتقول أوصيت الخطي
ب فهل نفوه من البلد؟
وإذا اتكت على الخطي
ب فما اتكلت على أحد •••
توق الأذى من كل نذل وساقط
فكم قد تأذى بالأراذل سيد!
ألم تر أن الليث تؤذيه بقة
ويأخذ من حد المهند مبرد؟ •••
هذه أول حاجاتي إليكا
وبها أعرف مقداري لديكا •••
سيدي قلبي عندك
سيدي أوحشت عبدك
سيدي قل لي وحدث
ني: متى تنجز وعدك؟
أترى تذكر عهدي
مثلما أذكر عهدك؟
أم ترى تحفظ ودي
مثلما أحفظ ودك؟
قم بنا إن شئت عندي
أو أكن إن شئت عندك
أنا في داري وحدي
فتفضل أنت وحدك •••
أين مولاي يراني
ودموعي فوق خدي؟ •••
وجليس حديثه
للمسرات طارد
مثل ليل الشتاء فه
و ثقيل وبارد •••
فلا ترخصوا ودا عليكم عرضته
فيا رب معروض وليس بكاسد
وحقكم عندي له ألف طالب
وألف زبون يشتريه بزائد
إذا كان هذا في الأقارب فعلكم
فما ذا الذي أبقيتم للأباعد؟ •••
وددت بأني ما رأيت وجوهكم
وأن طريقا جئتكم منه مسدود •••
حدثوا عن طول ليل بته
هل رأيتم، هل سمعتم، هل عهد؟
لا رعاه الله ما أطوله
تحبل المرأة فيه وتلد •••
لنا صديق سيئ فعله
ليس له في الناس من حامد
لو كان في الدنيا له قيمة
بعناه بالناقص والزائد •••
يا غادرين ألم يكن
بيني وبينكم عهود؟
ظهرت وبانت لي قضي
تكم فما هذا الجحود؟
وحلفتم ما خنتم
وعلى خيانتكم شهود
يا من تبدل في الهوى
يهنيك صاحبك الجديد
إن كان أعجبك الصدو
د كذاك أعجبني الصدود
واعلم بأني لا أري
د إذا رأيتك لا تريد
وأنا القريب فإن تغي
ير صاحبي فأنا البعيد
يوم أخلص فيه قلب
ي منك ذاك اليوم عيد
وعساك تطلب أن أع
ود إلى هواك فما أعود
ولقد علمت بأنني
لي في الهوى خلق شديد •••
مولاي كن لي وحدي
فإنني لك وحدك
وكن بقلبك عندي
فإن قلبي عندك
لي فيك قصد جميل
لا خيب الله قصدك
حاشاك تؤثر بعدي
ولست أوثر بعدك
إن تنس عهدي فإني
والله لم أنس عهدك
أضعت ود محب
ما زال يحفظ ودك
ما لي عليك اعتراض
أدب كما شئت عبدك
مولاي إن غبت عني
وا سوء حالي بعدك •••
طلبت الجميع ففات الجميع
فمن سوء رأيك لا ذا ولا ذا •••
بالله قل لي خبرك
فلي ثلاث لم أرك
يا أسبق الناس إلى
مودتي ما أخرك
وناظري إلى الطري
ق لم يزل منتظرك
بين جفوني والكرى
مذ غبت عني معترك
كيف تغيرت ومن
هذا الذي قد غيرك
وكيف يا معذبي
قطعت عني خبرك
ومن غرامي كلما
لامك قلبي عذرك
والله ما خنت الهوى
لك الضمان والدرك
وحق عينيك لقد
نصبت عينيك شرك
وحاسد قال فما
أبقى لنا ولا ترك
ما زال يسعى جهده
يا ظبي حتى نفرك •••
قد سرني هذا الذي
بي من ضنى إن كان سرك
إن كان ذلك عن رضا
ك وقد علمت به فأمرك
أو كان قصدك في الهوى
قتلي يطيل الله عمرك
مولاي ما أحلاك في
قتل المحب وما أمرك
ته كيف شئت من الجما
ل فلست أجهل فيه قدرك •••
أصبحت لا شغل ولا مزرعه
مذبذبا في صفقة خاسره
وجملة الأمر وتفصيله
أصبحت لا دنيا ولا آخره •••
ويأنف الغدر قلبي وهو محترق
النار والله في هذا ولا العار
وليلة الهجر إن طالت وإن قصرت
فمؤنسي أمل فيها وتذكار
وله في رثاء:
يا واحدا ما كان لي غيره
بعدك وا قلة أنصاري
يا منتهى سؤلي ويا مشتكى
حزني ويا حافظ أسراري
الدار من بعدك قد أصبحت
في وحشة يا مؤنس الدار
إن كنت قد أصبحت في جنة
إني من بعدك في نار
وقال يعاتب امرأة:
يا هذه لا تغلطي
والله ما لي فيك خاطر
خدعوك بالقول المحا
ل فصح أنك أم عامر
أظننت لي قلبا على
هذي الحماقة منك صابر
وسمعت عنك قضية
قد سطرت فيها دفاتر
نقلت إلي جميعها
حتى كأني كنت حاضر
فمتى أردت شرحتها
لك بالدلائل والأمائر
إن كنت أنت نسيتها
فلكم لها في الناس ذاكر!
وسألت عنك فلم أجد
لك في جميع الناس شاكر
وزعمت أنك حرة
ما هذه شيم الحرائر
فإذا كذبت فلا يكن
كذبا لكل الناس ظاهر •••
فإن مت في ذا الحب لست بأول
فقبلي مات العاشقون كثير •••
أنا ما لي على الجفا
لا ولا البعد مصطبر
أنكرت مقلتي الكرى
حين عرفتها السهر
فعسى منك نظرة
ربما أقنع النظر
أيها المعرض الذي
لا رسول ولا خبر
وجرى منه ما جرى
ليته جاء واعتذر
كل ذنب كرامة
لمحياك مغتفر •••
قصروا عمر ذا الجفا
طول الله عمركم
شرفوني بزورة
شرف الله قدركم
لو وصلتم محبكم
ما الذي كان ضركم؟
مت في الحب صبوة
أعظم الله أجركم •••
إني أدل لأنني
ضيف ومملوك وجار •••
ويا قمر الأفق عد راجعا
فقد بات في الروض عندي قمر
ويا ليلتي هكذا هكذا
وبالله بالله قف يا سحر
خلونا وما بيننا ثالث
فأصبح عند النسيم الخبر •••
أثرت الهوى ثم تبكي أسى
فمنك الرياح ومنك المطر •••
لي حبيب لا يسمى
وحديث لا يفسر
آه لو أمكنني القو
ل لعلي كنت أعذر
لست أرضى لحبيبي
أنه للناس يذكر
وهو معروف ولكن
هو معروف منكر
هو ظبي فإذا ما
سمته الوصل تنمر
فترى دمعي يجري
ولساني يتعثر
سيدي لا تطع ال
واشي وإن قال فأكثر
فحديثي غير ما قد
ظنه الواشي وقدر
إن ذنب الغدر في الح
ب لذنب لا يكفر
طالت الشكوى ومل الس
مع مما يتكرر
وانقضى عمري وحالي
هو حالي ما تغير •••
أرحني منك حتى لا
أرى منظرك الوعرا
فقد صرت أرى بعد
ك عني الراحة الكبرى
فما تنفع في الدنيا
ولا تشفع في الأخرى •••
ليس يشفي ما بقلبي
منكم غير حضوري
إن خطب البعد عنكم
ليس بالخطب اليسير •••
وليس اعتمادي إلا عليك
فلا تخلني من جميل النظر •••
يا روضة الحسن صلي
فما عليك ضير
فهل رأيت روضة
ليس بها زهير؟ •••
وصاحب جعلته أميري
أسكنته في داخل الضمير
أودعته الخفي من أموري
فكان مثل النار في البخور
صحبته ولم يكن نظيري
قدمته وهو يرى تأخيري •••
ويوم سروري يوم أراك
لأني بوجهك أستبشر •••
وتراني باكيا مكتئبا
وتراه ضاحكا مستبشرا
بعض ما ألقاه منه أنه
لا يزال الدهر بي مستهترا
وافتضاحي فيه ما أطيبه
كان ما كان ويدري من درى •••
أوحشتني والله يا مالكي
قطعت يومي كله لم أرك •••
وأحمق ذي لحية
كثيرة منتشره
طلبت فيها وجهه
بشدة فلم أره
تبا لها من لحية
كبيرة محتقره
مضحكة ما كان قط
ط مثلها لمسخره
فلو مضى السوق بها
وزفها بالمزمره
لحصلت له مغل
ل ضيعة موفره •••
لكم عذركم، أنتم سمعتم فقلتم
ومحتمل ما قد سمعتم وجائز •••
قالوا: فلان قد غدا تائبا
واليوم قد صلى مع الناس
قلت: متى ذاك وأنى له
وكيف ينسى لذة الكاس ؟
أمس بهذي العين أبصرته
سكران بين الورد والآس
ورحت عن توبته سائلا
وجدتها توبة إفلاس •••
يا مانعا حلو الرضا
وباذلا مر السخط
حاشاك أن ترضى بأن
أموت في الحب غلط •••
يا كثير الجميل مثلك مولى
يشتريني جميله ويبيع •••
ملأتم فؤادي في الهوى فهو مترع
ولا كان قلب في الهوى غير مترع
ولا عاذلي ينفك عني إصبعا
وقد وقعت في رزة الحب إصبعي •••
أرى قصده أن يقطع الوصل بيننا
وقد سل سيف اللحظ واللحظ قاطع
فإن تتفضل يا رسولي فقل له
محبك في ضيق وحلمك واسع
فوالله ما ابتلت لقلبي غلة
ولا نشفت مني عليه المدامع
فلا تنكروا مني خضوعا علمتم
فما أنا في شيء سوى الحب خاضع •••
فوق خديه لنا
وردة فوق الصفه •••
ولثمت إكراما له
وجه الرسول وكفه •••
دخلت مصر غنيا
وليس حالي بخافي
عشرون حمل حرير
ومثل ذاك نصاف
وجملة من لآل
وجوهر شفاف
ولي مماليك ترك
من الملاح النظاف
فرحت أبسط كفي
وبالجزيل أكافي
وصرت أجمع شملي
بسالف وسلاف
ولا أزال أواخي
ولا أزال أصافي
فصار لي حرفاء
كانوا تمام حرافي
وكل يوم خوان
من الجدا والخراف
فبعت كل ثمين
معي من الأصناف
واستهلك البيع حتى
طراحتي ولحافي
صرفت ذاك جميعا
بمصر قبل انصرافي
وصرت فيها فقيرا
من ثروتي وعفافي
وذا خروجي منها
جوعان عريان حافي •••
تسائل عن وجدي بها وصبابتي
فقلت: أما يكفيك موتي فيك؟
وكانت تسميني أخاها تعللا
فقلت: لقد أفسدت عقل أخيك •••
أرسلته في حاجة
كالماء هينة المساغ
فحرمت حسن قضائها
إذ لم يكن حسن البلاغ
كالخمر يرسل للفؤا
د بها وتصعد للدماغ •••
كم ألاقي منك ما لا
أشتهي لاقيت حينك!
وعيون الناس تستح
ي وما أوقح عينك!
لعن الله طريقا
جمعت بيني وبينك •••
يا هاجري يحق لك
وجدت غيري شغلك
ويا لسان الدمع في
شرح الهوى ما أطولك!
يا أيها السائل عن
ي لا تسل عمن هلك
بت بليل باته
كل عدو لي ولك •••
أصبح عندي سمكه
وكسرة مدرمكه
أردت أن أحضرها
على سبيل البركه
تجعلها لما يجي
ء بعدها محركه •••
إذا كنت مشغولا وذا يوم جمعة
ففي أيما يوم تكون بلا شغل؟! •••
فعلت ما يلزمني
فليت غيري لو فعل •••
وكنت زمانا لا أقول فعلتم
ولكنني من بعدها سأقول
لعمري لقد علمتموني عليكم
وإني إذا علمت في قبول
سيندم بعدي من يريد قطيعتي
ويذكر قولي والزمان طويل •••
وما عيش الغريب بلا عيل
كعيش القاطنين ذوي العيل •••
فإذا جئت وغاب الن
اس طرا لا يهمه •••
ولولا احتقاري في الهوى لعواذلي
صرفت لهم بالي ومني ومنهم •••
كلما قلت استرحنا
جاءنا الشيخ الإمام
فاعترانا كلنا من
ه انقباض واحتشام
فهو في المجلس فدم
ولنا فهو فدام
وعلى الجملة فالشي
خ ثقيل والسلام •••
هم علموه فصار يهجرني
رب خذ الحق من معلمه •••
سلم علي إذا مرر
ت فلا أقل من السلام
الغدر في كل الطبا
ع فلا أخصك بالملام
ما أكثر العذال في
ولهي عليك وفي غرامي!
هبني كتمتهم هوا
ك فكيف أكتمهم سقامي؟ •••
يا أيها الباذل مجهوده
في خدمة أف لها خدمه
إلى متى في تعب ضائع؟
بدون هذا تأكل اللقمه
تشقى ومن تشقى له غافل
كأنك الراقص في الظلمه •••
برح الخفاء وقلتها
مني إليك بلا احتشام
لم تبق فيك بقية
لا للحلال ولا الحرام •••
خليت كل الناس ما خلاكم
وقلت ما لي أحد سواكم
وأنتم علي ما أجفاكم
خلقي خلقي دائما أرعاكم
وكل ما أسخطني أرضاكم
والله لا أفلح من يهواكم
وبعد ذا سبحان من أعطاكم! •••
من رآني يرق لي
ضائعا في يديكم
كان ما كان بيننا
وسلام عليكم •••
لعن الله حاجة
ألجأتني إليكم
وزمانا أحالني
في أموري عليكم
فعسى الله أن يخل
لصني من يديكم •••
تركتني يا ألف مو
لاي بألف نعمه •••
كم أناس أظهروا الزهد لنا
فتجافوا عن حلال وحرام
قللوا الأكل وأبدوا ورعا
واجتهادا في صيام وقيام
ثم لما أمكنتهم فرصة
أكلوا أكل الحزانى في الظلام •••
سمع الناس وقلنا
وافتضحنا واسترحنا
بت والبدر نديمي
ففعلنا وتركنا
بات يدعونا التصابي
فسمعنا وأطعنا
وجعلناه يقينا
بعد ما قد كان ظنا
شكر الله لمن بش
ر بالوصل وهنا
لي حبيب لي منه
كل شيء أتمنى
فهو بدر يتجلى
وهو غصن يتثنى
كان غضبان فلما
أن تلاقينا اصطلحنا
يتجنى ولعمري
حقه أن يتجنى
جمع الحسن وفيه
غير ذاك الحسن معنى
من له مثل حبيبي
قد حوى حسنا وحسنى؟
هات حدثني وقل لي
ما على العاذل منا
نحن لا نسأل عنه
ما له يسأل عنا •••
محبتي توجب إذلالي
وأنت ذو فضل وإفضال
وبيننا من سالف الود ما
يوجب أن تسأل عن حالي
فاجعل على بالك شغلي كما
شكرك لا يبرح عن بالي •••
لك يا صديقي بغلة
ليست تساوي خردله
تمشي فتحسبها العيو
ن على الطريق مشكله
وتخال مدبرة إذا
ما أقبلت مستعجله
مقدار خطوتها الطو
يلة حين تسرع أنمله
تهتز وهي مكانها
فكأنما هي زلزله
أشبهتها بل أشبهت
ك كأن بينكما صله
تحكي صفاتك في الثقا
لة والمهانة والبله •••
فليت شعري متى تخلو وتنصت لي
حتى أقول فقلبي منك ملآن
إياك يدري حديثا بيننا أحد
فهم يقولون: للحيطان آذان
من لي بنومي أشكو ذا السهاد له
فهم يقولون: إن النوم سلطان
أستخدم الريح في حمل السلام لكم
كأنما أنا في عصري سليمان •••
تجدد صبوة في كل يوم
وتسكر سكرة من كل دن
أقول الحق ما لك من صديق
فلا تعتب علي ولا تلمني
نصحتك لو صحوت قبلت نصحي
ولكن أنت في سكر التجني
ومن سمع الغناء بغير قلب
ولم يطرب فلا يلم المغني
مرادي لو خبأتك يا حبيبي
مكان النور من عيني وجفني •••
لست أصغي ولا أعي
خلني منك خلني •••
إن المليح مليح
يحب في كل لون •••
نراكم قد بدا منكم
أمور ما عهدناها
كشفتم بيننا أشيا
ء قد كنا سترناها
وكم جاءت لنا عنكم
أحاديث رددناها
وأشياء رأيناها
وقلنا ما رأيناها
وما زلتم بنا حتى
جسرنا وفعلناها
وكانت بيننا طاق
فها نحن سددناها •••
سيدي يومك هذا
ليس يخفى عنك رسمه
قم بنا قد طلع الفج
ر وقد أشرق نجمه
عندنا ورد جني
ينعش الميت شمه
ولدينا ذلك الضي
ف الذي عندك علمه
ولنا ساق رشيق
أحور الطرف أحمه
وخوان يعبق المس
ك برياه وطعمه
وأخ يرضيك منه
فضله الجم وفهمه
كامل الظرف أديب
شامخ الأنف أشمه
حسن العشرة لا يأ
تيك منه ما تذمه
ومغن زيره أطر
ب مسموع وبمه
وسرور ليس شيء
غير رؤياك يتمه
فأجب دعوة داع
أنت من دنياه سهمه
فإذا جئت وغاب النا
س طرا لا يهمه •••
من اليوم تعارفنا
ونطوي ما جرى منا
ولا كان ولا صار
ولا قلتم ولا قلنا
وإن كان ولا بد
من العتب فبالحسنى
فقد قيل لنا عنكم
كما قيل لكم عنا
كفى ما كان من هجر
وقد ذقتم وقد ذقنا
وما أحسن أن نرج
ع للوصل كما كنا •••
لا تلمني أو فلمني
فيك ظلم وتجني
لا تسابقني لعتب
ما بذا تخلص مني
لا تقل إني وإني
ليس هذا القول يغني
أنا لا أسأل عمن
لم يكن يسأل عني
إن تزرني فبهذا الش
رط أو لا لا تزرني
فاسترح بالله من
هذا التجني وأرحني •••
يا كتابا من حبيب
أنا مشتاق إليه
جاءني منه سلام
سلم الله عليه •••
يا رسولي قبل الأر
ض إذا جئت إليه
ثم عرفه بأني
كنت غضبان عليه
وفي طبعة پلمر:
إن الرضي الذي بليت به
أفعاله الكل غير مرضي
وكنت في شدة برؤيته
كمسلم في إسار ذمي
وبعد جهد خلصت من يده
خلاص عظم من كف تركي •••
مضى الشباب وولى ما انتفعت به
وليته فارط يرجى تلافيه
أوليت لي عملا فيه أسر به
أو ليتني لا جرى لي ما جرى فيه
وا حسرتاه لعمر ضاع أكثره
والويل إن كان باقيه كماضيه
من مثل قلبي أو من مثل ساكنه
الله يحفظ قلبي والذي فيه •••
مولاي يا قلبي العزي
ز ويا حياتي الغاليه
إني لأطلب حاجة
ليست عليك بخافيه
أنعم علي بقبلة
هبة وإلا عاريه
وأعيدها لك - لا عدم
ت - بعينها وكما هيه
وإذا أردت زيادة
خذها ونفسي راضيه
فعسى يجود لنا الزما
ن بخلوة في زاويه
أو ليتني ألقاك وح
دك في طريق خاليه •••
قالوا كبرت عن الصبا
وقطعت تلك الناحيه
فدع الصبا لرجاله
واخلع ثياب العاريه
ونعم كبرت وإنما
تلك الشمائل باقيه
ويفوح من عطفي أنفا
س الشباب كما هيه
ويميل بي نحو الصبا
قلب رقيق الحاشيه
فيه من الطرب القدي
م بقية في زاويه •••
لو تراني وحبيبي عند ما
فر مثل الظبي من بين يدي
ومضى يعدو وأعدو خلفه
وترانا قد طوينا الأرض طي
قال: ما ترجع عني؟ قلت: لا
قال: ما تطلب مني؟ قلت شي
فانثنى يحمر مني خجلا
وثناه التيه عني لا إلي
كدت بين الناس أن ألثمه
آه لو أفعل ما كان علي •••
يا أعز الناس عندي وعلي
وحبيبا هو مني وإلي
ما له أصبح عني معرضا
تحت ذا الإعراض من مولاي شي
يا حبيبي أين ما أعهده
يا ترى من ذا الذي زاد علي؟
فاتني إذ مر ما كلمته
كدت أن آكل من غيظ يدي
أنا من قد مت في العشق به
هنئوني، ميت العشاق حي
في هذه الأشعار وكثير غيرها مما يوجد في ديوان البهاء زهير عبارات وأساليب مصريتها أكثر من عربيتها، والشعراء يتأبون أن يستعملوها منذ القدم وحتى في هذه العصور، ويعدون ذلك تبذلا وضعفا وإخلالا بجمال الشعر وجمال البيان، ويؤثرون لغة الشعر في عصور العربية الراقية، حتى لا تكاد تفرق من جهة اللغة بين الشعر الراقي في مختلف العصور، ولست تجد شاعرا من المعدودين في أي عصر حتى الآن يرضى أن يستعمل في شعره كلمة اليك والشيش، ولا أن يقول:
لست أصغي ولا أعي
خلني منك خلني
ولا أن يقول:
سمع الناس وقلنا
وافتضحنا واسترحنا
أستعفر الله! هم لا يريدون ذلك؛ بل ولا يقدرون عليه، فإنما هو السهل الممتنع، كما يقول ابن خلكان، ولا بد من عبقرية كعبقرية البهاء زهير لتوفق هذا التوفيق في إنشاء أشعار من الطراز الأول، يطرب لها الخاصة، ولا تكون العامة أقل بها طربا، بلسان هو لسان التحاور ولسان البيوت والأسواق.
لم يكن البهاء زهير عاجزا عن مجاراة غيره من الشعراء المتزمتين في تخير الألفاظ العربية، المتأنقين في تزيينها بالمحسنات؛ فقد كان رجلا عالما درس الأدب والدين، وعرف من أخبار العرب الجاهلية والإسلامية ما ينم عليه شعره؛ إذ يشير إلى الحوادث، ويذكر أسماء كثيرين من الشعراء وغير الشعراء، واختياره لكتابة السر في عهد الأيوبيين دليل على منزلته من الرياسة العلمية والأدبية في ذلك العصر.
بل البهاء زهير قد سلك مسلك غيره من الشعراء في تعبيراتهم وتفكيراتهم في مدائحه. ومدائح البهاء زهير - في غالبها - دون سائر فنونه الشعرية طرافة وإبداعا، مع أنه شاعر القصر في عهد الأيوبيين، كما يقول هيار، ومن أمثلة هذه المدائح:
لك الله من وال ولي مقرب
فكم لك من يوم أغر محبب!
حللت من المجد الممنع في الورى
بأرفع بيت في العلاء مطنب
يقصر عن أمثاله كل قيصر
ويغلب عن أمثاله كل أغلب
جواد متى تحلل بواديه تلقه
كما قيل في آل الجواد المهلب
أحق بما قال ابن قيس لمالك
وأولى بما قال ابن أوس لمصعب
ولو شاهد العجلي جدواه ما انتمى
لعكرمة الفياض يوما وحوشب
ومن قصيدة له يمدح بها السلطان الملك الناصر يوسف بن محمد بن عادي بن يوسف بن أيوب:
ومذ كنت لم ترض النقيصة شيمتي
ومثلك يأباها لمثلي ويأنف
ولا أبتغي إلا إقامة حرمتي
ولست لشيء غيرها أتأسف
ونفسي بحمد الله نفس أبية
فها هي لا تهفو ولا تتلهف
ولكن أطفالا صغارا ونسوة
ولا أحد غيري بهم يتلطف
أغار إذا هب النسيم عليهم
وقلبي لهم من رحمة يترجف
سروري أن يبدو عليهم تنعم
وحزني أن يبدو عليهم تقشف
ذخرت لهم لطف الإله ويوسفا
ووالله لا ضاعوا ويوسف يوسف
أكلف شعري حين أشكو مشقة
كأني أدعوه لما ليس يؤلف
وقد كان معتادا لكل تغزل
تهيم به الألباب حسنا وتشغف
يلوح عليه في التغزل رونق
ويظهر في الشكوى عليه تكلف
وما زال شعري فيه للروح راحة
وللقلب مسلاة وللهم مصرف
يناغيك فيه الظبي والظبي أحور
ويلهيك فيه الغصن والغصن أهيف
شكوت وما الشكوى إليك مذلة
وإن كنت فيها دائما أتأنف
وله قصيدة في مدح الأمير النصير اللمطي، أولها:
صفحا لهذا الدهر عن هفواته
إذ كان هذا اليوم من حسناته
يوم يسطر في الكتاب مكانه
كمكان باسم الله في ختماته
ومنها:
يا معجز الأيام قرع صفاته
ومجمل الدنيا بحسن صفاته
قوم هم في البيد خير سراتها
حسبا وهم في الدهر خير سراته
شرف الزمان بكل ندب منهم
متيقظ وهب العلا غفلاته
يا منسك المعروف أحرم منطقي
زمنا وقد لباك من ميقاته
هذا زهيرك لا زهير مزينة
وافاك لا هرما على علاته
دعه وحولياته ثم استمع
لزهير عصرك حسن ليلياته
لو أنشدت في آل جفنة أضربوا
عن ذكر حسان وعن جفناته
ومن ذلك قوله في مدح الملك الكامل ناصر الدين أبي الفتح محمد بن الملك العادل وذكر انتزاعه ثغر دمياط من الإفرنج:
بك اهتز عطف الدين في حلل النصر
وردت على أعقابها ملة الكفر
وليلة غزو للعدو كأنها
بكثرة من أرديته ليلة النحر
فيا ليلة قد شرف الله قدرها
ولا غرو أن سميتها ليلة القدر
سددت سبيل البر والبحر عنهم
بسابحة دهم وسانحة غر
أساطيل ليست في أساطير من مضى
بكل غراب راح أفتك من صقر
وجيش كمثل الليل هولا وهيبة
وإن زانه ما فيه من أنجم زهر
وكل جواد لم يكن قط مثله
لآل زهير لا ولا لبني بدر
وباتت جنود الله فوق ضوامر
بأوضاحها تغني السراة عن الفجر
فلا زلت حتى أيد الله حزبه
وأشرق وجه الأرض جذلان بالنصر
كفى الله دمياط المكاره، إنها
لمن قبلة الإسلام في موضع النحر
وما طاب ماء النيل إلا لأنه
يحل محل الريق من ذلك الثغر
ومن قصيدة يمدح بها علاء الدين علي بن الأمير شجاع الدين جلدك:
فيا ظبي هلا كان منك التفاتة
ويا غصن هلا كان فيك تعطف
ويا حرم الحسن الذي هو آمن
وألبابنا من حوله تتخطف
عسى عطفة للوصل يا واو صدغه
علي فإني أعرف الواو تعطف
ومن قصائده في مدح السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، وذلك في سنة 622 كما في طبعة پلمر، ولعلها أولى قصائده في مدحه حين جاء من قوص إلى القاهرة واتصل به:
وعد الزيارة طرفه المتملق
وتلاف قلبي من جفون تنطق
إني لأهوى الحسن حيث وجدته
وأهيم بالقد الرشيق وأعشق
وبليتي كفل عليه ذؤابة
مثل الكثيب عليه صل مطرق
إن عنفوا، إن سوفوا، إن خوفوا
لا أنثني، لا أنتهي، لا أفرق
ويزيدني تلفا فأشكر فضله
كالمسك تسحقه الأكف فيعبق
ولقد سعيت إلى العلاء بهمة
تقضي لسعي أنه لا يخفق
وسريت في ليل كأن نجومه
من فرط غيرتها إلي تحدق
حتى وصلت سرادق الملك الذي
تقف الملوك ببابه تسترزق
فإليك يا نجم السماء فإنني
قد لاح نجم الدين لي يتألق
الصالح الملك الذي لزمانه
حسن يتيه به الزمان ورونق
ملأ القلوب مخافة ومحبة
فالبأس يرهب والمكارم تعشق
فعدلت حتى ما بها متظلم
وأنلت حتى ما بها مسترزق
يا من رفضت الناس حين لقيته
حتى ظننت بأنهم لم يخلقوا
قيدت في مصر إليك ركائبي
غيري يغرب تارة ويشرق
وحللت عندك إذ حللت بمعقل
يلقى إليه مارد والأبلق
وتيقن الأقوام أني بعدها
أبدا إلى رتب العلا لا أسبق
فرزقت ما لم يرزقوا، ونطقت ما
لم ينطقوا، ولحقت ما لم يلحقوا
وقال يمدح الملك الناصر صلاح الدين بن الملك العزيز محمد:
عرف الحبيب مكانه فتدللا
وقنعت منه بموعد فتعللا
وأتى الرسول فلم أجد في وجهه
بشرا كما قد كنت أعهد أولا
فقطعت يومي كله متفكرا
وسهرت ليلي كله متململا
وأخذت أحسب كل شيء لم يكن
متحركا في فكرتي متخيلا
فلعل طيفا زار منه فرده
سهري فعاد بغيظه فتقولا
وعسى نسيم بت أكتم سرنا
عنه فراح يقول عني قد سلا
ولقد خشيت بأن يكون أماله
غيري، وطبع الغصن أن يتميلا
وأظنه طلب الجديد وطالما
عتق القميص على امرئ فتبدلا
أهوى التذلل في الغرام وإنما
يأبى صلاح الدين أن أتذللا
مهدت بالغزل الرقيق لمدحه
وأردت قبل الفرض أن أتنفلا
يا من مديحي فيه صدق كله
فكأنما أتلو كتابا منزلا
يا من ولائي فيه نص بين
والنص عند القوم لن يتأولا
ولعل البهاء زهيرا كان يشعر بما يكتنف مذهبه الجديد في الشعر من تنقيص خصومه، ومن ضعف الأذواق التي أفسدها التكلف عن تذوقه؛ لذلك كان يسلك في الشعر الرسمي، شعر المديح، المذهب القديم غالبا؛ ويظهر عليه، في كثير من الأحيان، أنه يحاول غير ما في طبعه، حتى إذا هتفت بالشعر عواطفه، عاد إلى مذهبه السهل البسيط الخالي من التصنع، القريب من الفطر.
ولمذهب البهاء زهير خصوم نجد صدى أحكامهم في قول صاحب كتاب «مرآة الجنان وعبرة اليقظان» لليافعي اليمني المتوفى سنة 768:
قال ابن خلكان: وكل شعره لطيف، وذكر شيئا منه في تاريخه، ولكن للاختصار والتخفيف لم أكتب شيئا منه، ولا أعجبني ولا قوى عزمي الضعيف.
لكن لمذهب البهاء زهير مريدون كثيرون يرون شعره لطيفا من السهل الممتنع، كما نقلنا عن ابن خلكان.
ويرى پلمر، في مقدمته لديوان شاعرنا، أن عصر البهاء زهير كان أكثر العصور صلة بين الثقافة العربية وثقافة الغرب، بسبب الحروب الصليبية وما تبعها من استقرار مملكة غربية في فلسطين زمنا، ويقول: إن شعر البهاء زهير يشابه الشعر الأوروبي، وأكثر أفكاره تحاذي أفكار الشعراء الإنجليز في القرن السابع عشر.
الناحية الثانية من نواحي عبقرية البهاء زهير في النهضة الشعرية ناحية الأوزان
أسلفنا أنه كانت في عهد البهاء زهير انتشرت أوزان التوشيح الآتية من الأندلس؛ وذلك لا بد أن يكون نبه الشعراء إلى فن من الألحان الشعرية جديد، فاهتدت الفطر الموسيقية إلى اختيار البحور اللطيفة والأوزان الموفورة الحظ من الموسيقى ومن التأثير. وهذا شأن البهاء زهير؛ فإننا نجده في غير شعر المديح قلما يركن إلى غير الأوزان الخفيفة. يقول:
هو حظي قد عرفته
لم يحل عما عهدته
فإذا قصر من أه
واه في الود عذرته
غير أني لي في الح
ب طريق قد سلكته
لو أراد البعد عني
نور عيني ما تبعته
إن قلبي وهو قلبي
لو تجنى ما صحبته
كل شيء من حبيبي
ما خلا الغدر احتملته
أنا في الحب غيور
ذاك خلقي لا عدمته •••
وقال دو بيت:
قد راح عذولي ومثل ما راح أتى
بالله متى نقضتم العهد متى
ما ذا ظني بكم وما ذا أملي
قد أدرك في سؤله من شمتا •••
هب النسيم عليلا
وهو النسيم الصحيح
وطاب وقتك فانهض
فالآن طاب الصبوح
وخذ عن الكأس نورا
به يضيء الفسيح
من قهوة طاب منها
طعم ولون وريح
في دنها وهي راح
وفي الحشا وهي روح •••
يا معرضا متجنيا
حاشاك يا عيني وروحي
لم تدر ما فعل البكا
ء عليك بالجفن القريح
وجرحت قلبي بالجفا
ء فآه للقلب الجريح
قبحت في بما فعل
ت ولست من أهل القبيح
إن كنت مني مستري
حا لست منك بمستريح
فمتى أفوز بنظرة
من وجهك الحسن المليح؟
لك من ضميري ما علم
ت به من الود الصريح
وكذاك أنت فسل ضمي
رك فهو يشهد بالصحيح •••
يا فاعل الفعلة التي اشتهرت
لم تجر في خاطري ولا خلدي
فعلتها بعد عفة وتقى
فيا لها سبة إلى الأبد!
هذا وأنت الذي يشار له
لا عتب من بعدها على أحد •••
حبيبي تائه جدا
أطال العتب والصدا
حماني الشهد من فيه
وخلى عندي السهدا
وهيفاء كما تهوى
تريك القد والخدا
وتشجيك بألحان
تذيب الجلمد الصلدا
ولفظ يوجب الغسل
على السامع والحدا
جزى الرحمن شعبانا
تقصى الشكر والحمدا
وإن عشنا لشوال
أعدنا ذلك العهدا •••
قد أتانا الطبق المل
آن بالورد النضيد
غير أني لا أحب ال
ورد إلا في الخدود
وأتاني منك شعر
كل بيت بقصيد
كامل الحسن فما أغ
ناه عن حسن النشيد
في رثاء:
أمسيت في قعر لحد
ورحت منك بوجد
وعشت بعدك يا من
وددت لو عشت بعدي
في هجو:
لعن الله صاعدا
وأباه فصاعدا
وبنيه فنازلا
واحدا ثم واحدا •••
جاء الرسول مبشري
منها بميعاد الزياره
أهدى إلي سلامها
وأتى بخاتمها أماره
وأشار عن بعض الحدي
ث وحبذا تلك الإشاره
إن صح ما قال الرسو
ل وهبته روحي بشاره •••
حبذا دور على الني
ل وكاسات تدور
ومسرات تموج الأر
ض منها وتمور
وقصور ما لعيش
نلته فيها قصور
كم بها قد مر لي، أس
تغفر الله، سرور!
كل عيش غير ذاك ال
عيش في العالم زور
منزل ليس على الأر
ض له عندي نظير •••
وجاهل أصبح لي عائبا
قلت: على العينين والراس
أراه قد عرض لي عرضه
أشهدكم يا معشر الناس •••
دعوني وذاك الرشا
فوجدي به قد فشا
حلالا حلالا له
يعذبني كيف شا
سرت خمرة الريق في
معاطفه فانتشى
فيا مشق ذاك القوا
م! ويا طي ذاك الحشا!
مشى لي في خفية
فيا حبذا من مشى!
وليس عجيبا بأن
ترى الظبي مستوحشا •••
ما لي أراك أضعتني
وحفظت غيري كل حفظ؟!
متهتكا فإذا حضر
ت تظل في نسك ووعظ
فظا علي ولم تكن
يوما على غيري بفظ
هذا وحق الله من
نكد الزمان وسوء حظي •••
مائدة منوعه
وقهوة مشعشعه
وسادة تراضعوا
كأس الوداد مترعه
ولا يزيدون على
ثلاثة أو أربعه
فاليوم يوم لم يزل
يوم سكون ودعه
فيا أخي كن عندنا
بعد صلاة الجمعه •••
تائه ما أصلفه
ويح قلب ألفه!
كاد أن يتلفه
ليته لو أتلفه
أي روض زاهر
لم أصل أن أقطفه
وقضيب ناعم
لم أطق أن أعطفه •••
تعيش أنت وتبقى
أنا الذي مت عشقا
حاشاك يا نور عيني
تلقى الذي أنا ألقى
ولم أجد بين موتي
وبين هجرك فرقا
يا أنعم الناس قل لي
إلى متى فيك أشقى؟ •••
أحبابنا حاشاكم
من غضب أو حنق
أحبابنا لا عاش من
يغضبكم ولا بقي
هذا دلال منكم
دعوه حتى نلتقي
والله ما خرجت في
حبي لكم عن خلقي
وما برحت في ستو
ر فضلكم تعلقي
ويلاه ما يلقاه قل
بي منكم وما لقي
إن لم تجودوا بالرضا
فبشروا قلبي الشقي
وا خجلتي منكم إذا
عتبتم وا حرقي
أكاد أن أغرق في
دمعي أو في عرقي
ما حيلتي في كذب
من حاسد مصدق ؟ •••
ويحك يا قلب أما قلت لك
إياك أن تهلك فيمن هلك
حركت من نار الهوى ساكنا
ما كان أغناك وما أشغلك
ولي حبيب لم يدع مسلكا
يشمت بي الأعداء إلا سلك
ملكته روحي ويا ليته
لو رق أو أحسن لما ملك
بالله يا أحمر خديه من
عضك أو أدماك أو أخجلك؟
وأنت يا نرجس عينيه كم
تشرب من قلبي وما أذبلك؟
ويا لمى مرشفه إنني
أغار للمسواك إذ قبلك
ويا مهز الغصن من عطفه
تبارك الله الذي عدلك
مولاي حاشاك ترى غادرا
ما أقبح الغدر! وما أجملك!
ما لك في فعلك من مشبه
ما تم في العالم ما تم لك •••
كل شيء منك مقبول
وعلى العينين محمول
والذي يرضيك من تلفي
هين عندي ومبذول •••
وجاهل يجهل ما يقول
أقواله ليس لها تأويل
لها فصول كلها فضول
كثير ما يقوله قليل
فهي فروع ما لها أصول
كلامه تمجه العقول
أتعبني حديثه الطويل
فليته كان له محصول
وجملة الأمر ولا أطيل
هو الرصاص بارد ثقيل •••
ما له عني مالا
وتجنى فأطالا؟
أترى ذاك دلالا
من حبيبي أم ملالا؟ •••
منزل إن زرته
لم تلق إلا كرمك
وإن تسل عمن به
لم تلق إلا خدمك •••
أبا يحيى وما أعر
ف من أنت أبا يحيى
فحدثني وقل لي أي
شيء أنت في الدنيا؟
من الجن؟ من الإنس؟
من الموتى؟ من الأحيا؟
بعيد منك أن تفلح
في شيء من الأشيا
فلا أهلا ولا سهلا
ولا سقيا ولا رعيا •••
ونديم بت منه
ناعم البال رضيا
جاءني يحمل كأسا
قارن البدر الثريا
قال خذها قلت خذها
أنت واشربها هنيا
لا تزدني فوق سكري
بالهوى سكر الحميا
عندها أعرض عني
مطرق الرأس حييا
قلت لا والله إلا
هاتها كأسا رويا
لست أعصي لك أمرا
لست أعصي لك نهيا
فسقانيها عقارا
تترك الشيخ صبيا
وتريك الغي رشدا
وتريك الرشد غيا
لم يزل مني إليه ال
كأس أو منه إليا
هكذا حتى بدا الصب
ح لنا طلق المحيا
يا لها ليلة وصل
مثلها لا يتهيا!
هذه أمثلة الأوزان التي يستعملها البهاء زهير في شعره والقوافي، وفيها من اللطف وحسن النغمة شيء كثير.
وذكر بعض المترجمين للبهاء زهير أن له وزنا مخترعا لا يخرجه العروض، في قوله:
يا من لعبت به شمول
ما ألطف هذه الشمائل!
نشوان يهزه دلال
كالغصن مع النسيم مائل
لا يمكنه الكلام لكن
قد حمل طرفه رسائل
ما أطيب وقتنا وأهنا
والعاذل غائب وغافل
عشق ومسرة وسكر
والعقل ببعض ذاك ذاهل
والبدر يلوح في قناع
والغصن يميل في غلائل
والورد على الخدود غض
والنرجس في العيون ذابل
والعيش كما نحب صاف
والأنس بما نحب كامل
ويحاول العروضيون أن يجدوا لهذا الوزن مخرجا في علمهم، كما فعل الدماميني في شرح الخزرجية. وليس الذي يهمنا أن يكون البهاء زهير ابتدع أوزانا لا يسيغها علم العروض؛ لكن البهاء زهيرا من غير شك اختار لشعره ألطف الأوزان وأدناها محبة إلى الذوق السليم، واستخرج من ذلك ما لم يكن مستعملا في عهده، ولا قبل عهده ولا بعده إلا قليلا.
الناحية الثالثة ناحية الموضوعات الشعرية
ما وصل إلينا من شعر البهاء زهير يجمع كل ما تعرض له شعراء العربية من فنون الشعر: كالمديح، والهجاء، والغزل، والنسيب، والوصف، والخمريات، والرثاء، والفخر.
ومديح البهاء زهير أقل شعره تشبعا بروحه في الغالب؛ وله فيما عدا ذلك نمط خاص يخرج الموضوعات المطروقة إلى نوع من الطرافة، وذكر پلمر مثالا لذلك قوله في المشيب:
فقد انجلى ليل الشبا
ب وقد بدا صبح المشيب
ورأيت في أنواره
ما كان يخفى من عيوبي
وقوله في الموت عشقا:
أنت روحي وقد تملكت روحي
وحياتي وقد سلبت حياتي
مت شوقا فأحيني بوصال
أخبر الناس كيف طعم الممات
وقوله:
فخذ مرة روحي ترحني ولم أكن
أموت مرارا في النهار وأبعث •••
ألا إن عندي عاشق السمر غالط
وإن الملاح البيض أبهى وأبهج
وإني لأهوى كل بيضاء غادة
يضيء لها وجه وثغر مفلج
وحسبي أني أتبع الحق في الهوى
ولا شك أن الحق أبيض أبلج •••
يا كثير الصدود والإعراض
أنا راض بما به أنت راض
هات بالله يا حبيبي قل لي
أين ذاك الرضا؟ وأين التغاضي؟
إن لي حاجة إليك وإني
في حياء عن ذكرها وانقباض
حاجة مذ أردتها أنا في التع
ريض عنها وأنت في الإعراض
أملي فيك دونه سيف لحظ
ذاك مستقبل وهذاك ماضي
أشتهي أن أفوز منك بوعد
ودع العمر ينقضي في التقاضي •••
يا مانعا حلو الرضا
وباذلا مر السخط
حاشاك أن ترضى بأن
أموت في الحب غلط
وغير ما ذكره پلمر كثير مضى بعضه فيما مر؛ ومنه قول شاعرنا في كتمان اسم الحبيب:
فعرض إذا حدثت بالبان والحمى
وإياك أن تنسى وتذكر زينبا
ستكفيك من ذاك المسمى إشارة
ودعه مصونا بالجمال محجبا
أشر لي بوصف واحد من صفاته
تكن مثل من سمى وكنى ولقبا •••
عجبت لطيف زار بالليل مضجعي
وعاد ولم يشف الفؤاد المعذبا
وما صد عن أمر مريب وإنما
رآني قتيلا في الدجى فتهيبا •••
وقوله في المشيب أيضا:
وليس مشيبا ما ترون بعارضي
فلا تمنعوني أن أهيم وأطربا
فما هو إلا نور ثغر لثمته
تعلق في أطراف شعري فألهبا
وأعجبني التجنيس بيني وبينه
فلما تبدى أشنبا رحت أشيبا
وهيفاء بيضاء الترائب أبصرت
مشيبا فأبدت روعة وتعجبا
جنت لي هذا الشيب ثم تجنبت
فوا حربا ممن جنى وتجنبا •••
جاءت تودعني والدمع يغلبها
يوم الرحيل وحادي البين منصلت
وأقبلت وهي في خوف وفي دهش
مثل الغزال من الأشراك ينفلت
فلم تطق خيفة الواشي تودعني
ويح الوشاة لقد نالوا وقد شمتوا
وقفت أبكى وراحت وهي باكية
تسير عني قليلا ثم تلتفت
وقوله في الوشاة:
إني لأشكر للوشاة يدا
عندي يقل لمثلها الشكر
قالوا فأغرونا بقولهم
حتى تأكد بيننا الأمر
وقوله في الغيرة:
وأنزه اسمك أن تمر حروفه
من غيرتي بمسامع الجلاس
فأقول بعض الناس عنك كناية
خوف الوشاة وأنت كل الناس
وأغار إن هب النسيم لأنه
مغرى بهز قوامك المياس
ويروعني ساقي المدام إذا بدا
فأظن خدك مشرقا في الكاس •••
صدق الواشون فيما زعموا
أنا مغرى بهواها مغرم
فليقل ما شاء عني لائمي
أنا أهواها ولا أحتشم
غلب الوجد فلا أكتمه
إنما أكتم ما ينكتم
أين من يرحمني أشكو له؟
إنما الشكوى إلى من يرحم
أيها السائل عن وجدي بها
إنه أعظم مما تزعم
ظن خيرا بيننا أو غيره
فحبيبي فيه تحلو التهم
ورقة البهاء زهير في غزله أظهر من أن تحتاج إلى بيان، وقد استشهد لها پلمر بقول البهاء يخاطب رسول حبيبه:
ودعني أفز من مقلتيك بنظرة
فعهدهما ممن أحب قريب •••
ومن مختاراته في هذا الباب قوله:
وغانية لما رأتني أعولت
وقالت عجيب يا زهير عجيب
رأت شعرات لحن بيضا بمفرقي
وغصني من ماء الشباب رطيب
لقد أنكرت مني مشيبا على صبا
وقالت مشيب؟ قلت ذاك مشيب
أروح ولي في نشوة الحب هزة
ولست أبالي أن يقال طروب
محب خليع عاشق متهتك
يلذ لقلبي كل ذا ويطيب
خلعت عذاري بل لبست خلاعتي
وصرحت حتى لا يقال مريب
وفى لي من أهوى وصرح بالرضا
يموت بغيظ عاذل ورقيب
فلا عيش إلا أن تدار مدامة
ولا أنس إلا أن يزور حبيب
وإني ليدعوني الهوى فأجيبه
وإني ليثنيني التقى فأنيب
فيا من يحب العفو إني مذنب
ولا عفو إلا أن تكون ذنوب •••
أهوى الدقيق من المحا
سن والرقيق من النسيب •••
ومن دلائل تساميه في فهم الجمال عن الصورة المبذولة إلى المعنى الدقيق تغزله في امرأة طويلة، وفي امرأة قصيرة، وفي بيضاء، وفي سمراء، وتغزله في عمياء؛ إذ يقول:
قالوا تعشقتها عميا فقلت لهم
ما شانها ذاك في عيني ولا قدحا
بل زاد وجدي فيها أنها أبدا
لا تبصر الشيب في خدي إذا وضحا
إن يجرح السيف مسلولا فلا عجب
وإنما عجبي من مغمد جرحا
كأنما هي بستان خلوت به
ونام ناظره سكران قد طفحا
تفتح الورد فيه من كمائمه
والنرجس الغض فيه بعد ما انفتحا
وله أيضا:
يا صارفي القلب إلا عن محبتهم
وسالبي الطرف إلا عنهم نظره
وبتم الليل في أمن وفي دعة
وليس عندكم علم بمن سهره
فكم غرست وفائي في محبتكم
فما جنيت لغرسي فيكم ثمره!
ولم أنل منكم شيئا سوى تهم
تقال مشروحة فينا ومختصره
قوية العزم في إتلاف عاشقها
ضعيفة الخصر والألحاظ والبشره
ومن ذلك قوله:
فلا تبعثوا لي في النسيم تحية
فيرتاب من طيب النسيم جليسي
وكنتم وعدتم في الخميس بزورة
فكم من خميس قد مضى وخميس!
وإني لأرضى كل ما ترتضونه
فإن يرضكم بوسي رضيت ببوسي
على أن لي نفسا علي عزيزة
وفي الناس عشاق بغير نفوس
ويظهر في غزل البهاء زهير صدق اللهجة وكمال الفهم لجمال المرأة والتأثر به:
فلا تقرعوا بالعتب قلبي فإنه
وحقكم مثل الزجاج صديع
سأبكي وإن تنفد دموعي عليكم
بكيت بشعر رق فهو دموع
أحب البديع الحسن معنى وصورة
وشعري في ذاك البديع بديع
وله في العشق وتقديره نظر دقيق، فهو يقول:
ملأتم فؤادي بالهوى فهو مترع
ولا كان قلب في الهوى غير مترع
ويقول أيضا:
لحى الله قلبا بات خلوا من الهوى
وعينا على ذكر الهوى ليس تذرف
وإني لأهوى كل من قيل عاشق
ويزداد في عيني جلالا ويشرف
وما العشق في الإنسان إلا فضيلة
تدمث من أخلاقه وتلطف
يعظم من يهوى ويطلب قربه
فتكثر آداب له وتظرف •••
أعشق الحسن والملاحة والظر
ف وأهوى مكارم الأخلاق •••
إني لأهوى الحسن حيث وجدته
وأهيم بالغصن الرشيق وأعشق •••
فكل ضلال في هواك هداية
وكل شفاء في هواك نعيم •••
لام في الحب أناس
وهو أخلاق الكرام
ما أرى الناس سوى العش
اق من كل الأنام
ويقول:
جزى الله عني الحب خيرا فإنه
به ازداد مجدي في الأنام وعليائي
وصير لي ذكرا جميلا لأنني
أحسن أفعالي لتحسن أسمائي
وقد يكون في هذا النظم بعض الضعف، ولكنه يعبر عن معنى من أشرف المعاني وألطفها.
وغزل البهاء زهير فن في الأدب العربي خرج عن صور الغزل التي رسمتها التقاليد؛ فليس بكاء على الأطلال والدمن، ولا وصفا لسفر الحبيب على ناقته تجوب الصحراء، ولكنه حكاية لما يجري بين الأحباب في الحياة وما يتبادلونه من حوار وعتاب، ونعت لمجالس ممتعة بين عاشقين، ووصف للحب نفسه وما يحدث في نفس المحب من نزوع إلى الكمال.
وقصائد البهاء زهير تكون عبارة عن موضوع متصل المعاني لا تجد فيه ما تجد في غالب الشعر العربي من تنقل واستطراد يكاد يفقد الصلة بين أجزاء الشعر الواحد، ويلاحظ أن البهاء زهيرا لا يتحرج من استعمال العبادة في الحب، وهو نادر في الشعر العربي، وذلك كقوله:
ومن العجائب فعله بمحبه
يصليه نارا وهو من عباده
وقوله:
سأشكر حبا زان فيك عبادتي
وإن كان فيه ذلة وخضوع
أصلي وعندي للصبابة رقة
فكل صلاتي في هواك خشوع
وقوله:
لي حبيب عبدته
ويح من يعبد الوثن
ومن الفنون الجديدة في شعر البهاء زهير تسجيله لمشاهد وصور تنم عن حبه لوطنه، وتذوقه لما فيه من نعيم طبعي وغير طبعي، ونذكر من أمثلته:
لله بستاني وما
قضيت فيه من المآرب
لهفي على زمني به
والعيش مخضر الجوانب
ولكم بكرت له وقد
بكرت له أيدي السحائب
فيروقني والجو من
ه ساكن والقطر ساكب
والطل في أغصانه
يحكي عقودا في ترائب
وتفتحت أزهاره
فتأرجت من كل جانب
وبدا على دوحاته
ثمر كأذناب الثعالب
وكأنما آصاله
ذهب على الأوراق ذائب
فهناك كم ذهبية
لي في الولوع بها مذاهب •••
علا حس النواعير
وأصوات الشحارير
وقد طاب لنا وقت
صفا من غير تكدير
فقم يا ألف مولاي
أدرها غير مأمور
وخذها كالدنانير
على رغم الدنانير
أدرها من سنا الصبح
تزد نورا على نور
عقارا أصبحت مث
ل هباء غير منثور
بدت أحسن من نار
رأتها عين مقرور
نزلنا شاطئ النيل
على بسط الأزاهير
وقد أضحى له بالمو
ج وجه ذو أسارير
وفي الشط حباب مث
ل أنصاف القوارير
تسابقنا إلى اللهو
ووافينا بتبكير
وفينا رب محراب
وفينا رب ماخور
ومن قوم مساتير
ومن قوم مساخير
ومن جد ومن هزل
ومن حق ومن زور
فطورا في المقاصير
وطورا في الدساكير
ورهبان كما تدري
من القبط النحارير
وفيهم كل ذي حسن
من الإحسان موفور
وتال للمزامير
بصوت كالمزامير
وفي تلك البرانيس
بدور في دياجير
وجوه كالتصاوير
تصلي للتصاوير
ومن تحت الزنانير
خصور كالزنابير
أتيناهم فما بقوا
ولا ضنوا بمذخور
لقد مر لنا يوم
من الغر المشاهير
على ما خلته من غي
ر ميعاد وتقدير
فقل ما شئت من قول
وقدر كل تقدير
ويستطيع الناظر في شعر البهاء أن يستخرج أحوال عصره في كثير من الشئون؛ فهو يشير إلى عادات وشئون دينية وغير دينية، وموضوعات شعره متصلة بعواطفه وبحياة زمنه أشد الاتصال؛ بخلاف غيره من الشعراء الذين يكون شعرهم صورة لحياة غير حياتهم، وعواطف غير عواطفهم.
وهذه نماذج مما يتضمنه شعر البهاء زهير من شئون عصره:
أنا في الحب صاحب المعجزات
جئت للعاشقين بالآيات
كان أهل الغرام قبلي أمي
ين حتى تلقنوا كلماتي
فأنا اليوم صاحب الوقت حقا
والمحبون شيعتي ودعاتي
ضربت فيهم طبولي وسارت
خافقات عليهم راياتي •••
تكهنت في الأمر الذي قد لقيته
ولي خطرات كلهن فتوح •••
والله مذ فارقتكم
لم تصف لي مواردي
فهل زماني بعدها
بقربكم مساعدي؟
فكم نذور أصبحت
علي للمساجد! •••
أيا معشر الأصحاب ما لي أراكم
على مذهب والله غير حميد؟
فهل أنتم من قوم لوط بقية
فما منكم من فعله برشيد؟!
فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم
فما قوم لوط منكم ببعيد •••
وجاهل يدعي في العلم فلسفة
قد راح يكفر بالرحمن تقليدا
وقال: أعرف معقولا فقلت له:
عنيت نفسك معقولا ومعقودا
من أين أنت وهذا الشيء تذكره؟
أراك تقرع بابا عنك مسدودا
فقال: إن كلامي لست تفهمه
فقلت: لست سليمان بن داودا •••
إذا ما أفضنا في أفانين ذكره
يقول جهول القوم: قد عبر الخضر •••
وصاحب أصبح لي لائما
لما رأى حالة إفلاسي
قلت له: إني امرؤ لم أزل
أفني على الأكياس أكياسي
ما هذه أول ما مر بي
كم مثلها مر على راسي!
دعني وما أرضى لنفسي وما
عليك في ذلك من باس
لو نظر الناس لأحوالهم
لاشتغل الناس عن الناس •••
قل الثقات فلا تركن إلى أحد
فأسعد الناس من لا يعرف الناسا
لم ألق لي صاحبا في الله أصحبه
وقد رأيت وقد جربت أجناسا •••
قصدتكم أرجو انتصارا على العدا
حسبتكم ناسا فما كنتم ناسا
فلم تمنعوا جارا ولم تنفعوا أخا
ولم تدفعوا ضيما ولم ترفعوا راسا •••
لما التحى وتبدلت
تلك السعود له نحوسا
أبديت لما راح يح
لق خده معنى نفيسا
وأذعت عنه أنه
لم يقصد القصد الخسيسا
لكن غدا وعذاره
خضر فساق إليه موسى •••
ما أصعب الحاجة للناس
فالغنم منهم راحة الياس
لم يبق في الناس مواس لمن
يظهر شكواه ولا آسي
وبعد ذا ما لك عنهم غنى
لا بد للناس من الناس •••
أأحبابنا حاشاكم من عيادة
فذلك أمر في القلوب مضيض
وما عاقني عنكم سوى السبت عائق
ففي السبت قالوا ما يعاد مريض
وللناس عادات وقد ألفوا بها
لها سنن يرعونها وفروض
فمن لم يعاشرهم على العرف بينهم
فذاك ثقيل بينهم وبغيض •••
وقائلة لما أردت وداعها:
حبيبي، أحقا أنت بالبين فاجعي؟
فيا رب لا يصدق حديث سمعته
لقد راع قلبي ما جرى في مسامعي
وقامت وراء الستر تبكي حزينة
وقد نقبته بيننا بالأصابع
بكت فأرتني لؤلؤا متناثرا
هوى فالتقته في فضول المقانع
ولما رأت أن الفراق حقيقة
وأني عليه مكره غير طائع
تبدت فلا والله ما الشمس مثلها
إذا أشرفت أنوارها في المطالع
تسلم باليمنى علي إشارة
وتمسح باليسرى مجاري المدامع
وما برحت تبكي وأبكي صبابة
إلى أن تركنا الأرض ذات نقائع
ستصبح تلك الأرض من عبراتنا
كثيرة خصب رائق النبت رائع •••
أيها النفس الشريفه
إنما دنياك جيفه
وعقول الناس في رغ
بتهم فيها سخيفه
آه ما أسعد من كا
رته فيها خفيفه
أيها المسرف أكثر
ت أبازير الوظيفه
أيها المغرور لا تف
رح بتوسيع القطيفه
أيها المسكين هب أن
نك في الدنيا خليفه
هل يرد الموت سلطا
نك والدنيا الكثيفه •••
كلامي الذي يصبو له كل سامع
ويهواه حتى في الخدور العواتق
كلامي غني عن لحون تزينه
له معبد من نفسه ومخارق
لكل امرئ منه نصيب يخصه
يلائم ما في طبعه ويوافق
يغني به الندمان وهو فكاهة
وينشده الصوفي وهو رقائق
به يقتضي الحاجات من هو طالب
ويستعطف الأحباب من هو عاشق •••
تعلمت خط الرمل لما هجرتم
لعلي أرى شكلا يدل على الوصل
ورغبني فيه بياض وحمرة
عهدتهما في وجنة سلبت عقلي
وقالوا: طريق قلت: يا رب للرضا
وقالوا: اجتماع قلت: يا رب للشمل
فأصبحت فيكم مثل مجنون عامر
فلا تنكروا أني أخط على الرمل
وإذا كان البهاء زهير شاعر مهنة في مدائحه غالبا، فهو في سائر قريضه شاعر الطبع؛ وله نفثات تجلي نفسه على ما هي عليه، وترسم سجاياها؛ كقوله:
يا سائلي عما تجدد بي
الحال لم تنقص ولم تزد
وكما علمت فإنني رجل
أفنى ولا أشكو إلى أحد •••
ومن خلقي أني ألوف وأنه
يطول التفاتي للذين أفارق
يحرك وجدي في الأراكة طائر
ويبعث شجوي في الدجنة بارق
وأقسم ما فارقت في الأرض منزلا
ويذكر إلا والدموع سوابق
وعندي من الآداب في البعد مؤنس
أفارق أوطاني وليس يفارق
ولي صبوة العشاق في الشعر وحده
وأما سواها فهي مني طالق •••
مذ كنت لم تك الخيا
نة في المحبة من خلاقي
ولقد بكيت وما بكيت
من الرياء ولا النفاق
برقيقة الألفاظ تح
كي الدمع إلا في المذاق
لم تدر هل نطقت بها ال
أفواه أم جرت المآقي
لطفت معانيها ورق
ت والحلاوة في الرقاق
مصرية قد زانها
لطفا مجاورة العراق •••
كذلك تلقاني إذا ما ذكرتني
يسر حفاظي صاحبي وقريني
إذا قلت قولا كنت للقول فاعلا
وكان حيائي كافلي وضميني
تبشر عني بالوفاء بشاشتي
وينطق نور الصدق فوق جبيني •••
إلى كم مقامي في بلاد معاشر
تساوى بها آسادها وذئابها
وقلدتها الدر الثمين وإنه
لعمرك شيء أنكرته رقابها
وما ضاقت الدنيا على ذي مروءة
ولا هو مسدود عليه رحابها •••
وإني إذا ارتاب الوشاة لأدمعي
لدي حجج لم يبدها عاشق قبلي
وأستعمل الكحل الذي فيه حدة
وأوهم أن الدمع من شدة الكحل
فيا صاحبي أما علي فلا تخف
فما يطمع الواشون في عاشق مثلي
ودعني والعذال مني ومنهم
سيدرون من منا يمل من العذل
وكتب إلى الوزير فخر الدين أبي الفتح عبد الله بن قاضي داريا يشكو إليه بعض غلمانه:
سواك الذي ودي لديه مضيع
وغيرك من يسعى إليه مخيب
ووالله ما آتيك إلى محبة
وإني في أهل الفضيلة أرغب
فما لي ألقى دون بابك جفوة
لغيرك تعزى لا إليك وتنسب
أرد برد الباب إن جئت زائرا
فيا ليت شعري أين أهل ومرحب
ولست بأوقات الزيارة جاهلا
ولا أنا ممن قربه يتجنب
وقد ذكروا في خادم المرء أنه
بما كان من أخلاقه يتهذب
فهلا سرت منك اللطافة فيهم
وأعدتهم آدابها فتأدبوا
ويصعب عندي حالة ما ألفتها
على أن بعدي عن جنابك أصعب
وأمسك نفسي عن لقائك كارها
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب
وآنف إما عزة منك نلتها
وإما لإدلال به أتعتب •••
أغار على حرف يكون من اسمها
إذا ما رأته العين في خط كاتب •••
فلكم في من مكارم خلق
ولكم في من حميد صفات!
لست أرضى سوى الوفاء لذي الود
ولو كان في وفائي وفاتي
وألوف فلو أفارق بؤسا
لتوالت لفقده حسراتي
طاهر اللفظ والشمائل والأخ
لاق عف الضمير واللحظات
ومع الصمت والوقار فإني
دمث الخلق طيب الخلوات •••
ومن خلقي المشهور مذ كنت أنني
لغير حبيب قط لن أتذللا
وقد عشت دهرا ما شكوت لحادث
بلى! كنت أشكو الأغيد المتدللا
وما هنت إلا للصبابة والهوى
وما خفت إلا سطوة الهجر والقلى
أروح وأخلاقي تذوب صبابة
وأغدو وأعطافي تسيل تغزلا
أحب من الظبي الغرير تلفتا
وأهوى من الغصن النضير تفتلا
فما فاتني حظي من اللهو والصبا
وما فاتني حظي من المجد والعلا •••
أيها الحامل هما
إن هذا لا يدوم
مثلما تفنى المسرا
ت كذا تفنى الهموم •••
حبذا نفحة ريح
فرجت عني غمه
ضربت ثوب فتاة
أكثرت تيها وحشمه
فرأيت البطن والس
رة والخصر وثمه •••
أنا بالفراق مروع أبدا
ذا طالعي فيه وذا نجمي •••
أحب من الأشياء ما كان فائقا
وما الدون إلا من يميل إلى الدون
فأهجر شرب الماء غير مصفق
زلال وأكل اللحم غير ثمين
وإن قيل لي هذا رخيص تركته
ولا أرتضي إلا بكل ثمين •••
خلني من تصنع
للورى أو تزين
فلعمري يريبني
فرط هذا التسنن
وقال وقد سمع إنسانا يقدح في رجل صالح من مشايخ الصوفية:
أيقدح فيمن شرف الله قدره
وما زال مخصوصا به طيب الثنا؟
لعمرك ما أحسنت فيما فعلته
وليس قبيح القول في الناس هينا
فيا قائلا قولا يسوء سماعه
بحقك نزهنا عن الفحش والخنا
نطقت فلم تحسن ولم تبق ساكنا
لقد فاتك الأمر الذي كان أحسنا
دع القوم إن القوم عنك بمعزل
وإنك عن هذا الحديث لفي غنى
رجال لهم سر مع الله خالص
ولا أنت من ذاك القبيل ولا أنا
تكلفت أمرا لم تكن من رجاله
لك الويل من هذا التكلف والعنا
تميل إلى الدنيا وتبدي تزهدا
ولا أنت معدود هناك ولا هنا
وفي كتاب «النجوم الزاهرة» في ترجمة البهاء زهير: «وبرع في النظم والنثر والترسل، وله الشعر الرائق الفائق، وكان رئيسا فاضلا، حسن الأخلاق ... ومن شعره:
ولما جفاني من أحب وخانني
حفظت له الود الذي كان ضيعا
ولو شئت قابلت الصدود بمثله
ولكنني أبقيت للصلح موضعا
وقد كان ما قد كان بيني وبينه
أكيدا ولكني رعيت وما رعى
سعى بيننا الواشي ففرق بيننا
لك الذنب يا من خانني لا لمن سعى
وكتب عند موته بالديار المصرية، على يد ولده صلاح الدين، إلى محمد بن الحكيم عماد الدين الديريني، وهو آخر ما قاله:
ما قلت أنت ولا سمعت أنا
هذا حديث لا يليق بنا
إن الكرام إذا صحبتهم
ستروا القبيح وأظهروا الحسنا
Unknown page