فاضطرب قلب الفتاة وأجفلت كثيرا من كلامه؛ لأنها لم تكن بانتظاره، وهذه المباغتة كثيرا ما تؤلم الإنسان ولا سيما متى كان متحول الفكر إلى أمر مهم. ولم تقدر بديعة على المجاوبة حالا؛ لأن قلبها كان يختلج في صدرها اختلاج الطائر المذبوح، ولأنها كانت حزينة جدا لئلا يكون أديب قد سمع كلامها وكلام الشاب واطلع على سرها. وبعد أن هدأ روعها قليلا قالت لأديب بصوت مضطرب: وهل مضى على وجودك في هذه الحديقة وقت طويل؟
فعرف الشاب ما خامر قلبها حالا وقال، وهو لا يقدر على الكذب: من نحو نصف ساعة.
فاصفر وجه بديعة، واستأنف الشاب حديثه مطمئنا لها فقال: لما ذهبت ضيوفي أتيت إلى غرفتكن لأقضي الشطر السعيد من الوقت، فرأيت جميلة وحدها، وكنت نظرت لوسيا ذهبت مع سليم إلى النزهة ... فسألت جميلة عنك فقالت لي بأنك خرجت على غير عادتك ولم تعلميها بشيء، فلبست ثيابي واندفعت بعامل خفي للحاق بك، وسألت أحد الجيران الأمريكان عنك فقال لي بأنك أخذت الترامواي الفلاني، ولما وصلت إلى هنا وجدتك مع الشاب فهممت بأن أبعد كي لا أسمع الحديث لكنني لم أقدر؛ لشعوري بما يضطرني إلى البقاء، وبعد ذهاب الشاب سمعت تأوهك فكاد ينفطر قلبي، وأتيت لمساعدتك فعسى أن لا تحسبيني متطفلا.
فقالت بديعة بصوت مضطرب، وقد أثر بها كلام ذلك الشاب الأديب: إذن قد سمعت ما دار بيننا من الكلام!
فشعر أديب بأنها توبخه لإتيانه أمرا محرما في شريعة الأدب، ولكنه لم يقدر على غير ما فعل لما وجد بديعة في خطر، لا سيما وأنه رأى على وجه بديعة عند أول وصوله علائم الاضطراب والقلق وعلى وجه الشاب دلائل المكر والشر، فخاف عليها منه. وكان أديب قد شك بخروج بديعة وحدها على غير سابق عادة، فلما وجدها مع ذلك الشاب ظن أن خروجها كان لسبب، ولكنه لم يسئ الظن بفضيلتها قط، بل أحسنه، وقال: ربما كان هذا اللقاء لفصم عرى ودادية قديمة أو ما أشبه. وما يهم أن يكون لفتاة عاقلة شريفة كبديعة سر تكتمه وذلك السر خير لا شر.
ولكنه بعد أن جلس وسمع أكثر الحديث عرف سبب انقباض بديعة، ورأى له «باب فرج» من كلامها لنسيب بأنها لا تحبه وقد تحب سواه.
وقال أديب بصدق: نعم إنني سمعت أكثره فاصفحي عن ذنبي؛ لأن القصد كان حسنا.
فاضطربت بديعة من جهة لافتضاح سرها، وسرت من أخرى؛ لأن أديبا أتى في وقت مصائبها، وهي تشعر بحاجة إلى مساعدته، وكانت قد عزمت على طلب مساعدة جميلة وإفشاء سرها لها. ولكنها فطنت أن جميلة مع إخلاصها الذي لا شك فيه ليست سوى امرأة مثلها لا تقدر على غير التعزية والتسلية بالكلام. وذلك الموقف كان موقف عمل لا كلام. فاحتارت وشعرت بأنها بحاجة إلى مساعدة شخص أقوى من جميلة، أو إلى مساعدة رجل ضد رجل آخر؛ إذ لا يفل الحديد إلا الحديد. وكما أن جميلة كانت بإخلاصها وحبها بلسما لجراحات قلبها وقت التعزية، كذلك كان لا غنى لها عن مساعد يحارب معها ويذود عنها وقت الظلم والتجارب.
ولكن من يكون ذلكم الرجل؟ إن المهمة التي تطلب منه القيام بها عظيمة، فما هي مكافأتها له؟ وللحال تمثلت له تلك المكافأة بوجه أديب الذي كان أمامها يطفح حبا وعيناه تبرقان بأشعة الأمل. فعرفت بأنها واحدة وهي طلب يدها للاقتران؛ إذ لا يعقل بأن الشاب الذي يجرد سيفه للمحاماة عن فتاة ويوقف كل قواه لصيانتها يكون يحامي ويصون من لا تكون له، ومع شدة احتياج بديعة إلى هذا الشخص، ومع معرفتها بأنه لا يكون غير أديب؛ لأنها لم تر غيره أهلا لهذا الأمر، اضطربت وفضلت أن تموت موتا ولا تطلب مساعدة إنسان لا تقدر أن تكافئه المكافأة التي يريد، وهذه المكافأة مستحيلة بالوقت الحاضر؛ لأنها كانت تثق بشرف أديب وتعجب بآدابه وتحترم إخلاصه كثيرا وترتاح إليه كما ترتاح إلى جميلة، ولكنها كانت تميز بين الاعتبار والحب، فعرفت أن صداقتها له صداقة أخوية شريفة ولكنها ليست حبا على الإطلاق.
ثم تصورت أمرا فقالت لنفسها : إنني أكون جبانة لئيمة إذا اقترنت بأديب وأنا لا أحبه؛ احتماء به من نسيب، فإن هذه متاجرة بالقلوب وخيانة عظيمة.
Unknown page