فقالت: لأنني أعرف طباعك وأنك خلقت لتلاحظي كل من وكل ما ترينه، فكأن دقائق حياتك معدودة عليك، وإذا لم تصرفيها بالأشغال فإنك تصرفينها بالأفكار.
أجابت بديعة بافتخار: صدقت يا عزيزتي؛ لأن الوقت ثمين والعمر قصير، ولكن أي بأس من الانتقاد العادل يا ترى، إذا لم يكن نميمة بل نصيحة وإرشادا أو ذكرى للغافلين الوناة؟!
قالت لوسيا: هذا ما حزرته، فإنك انتقدت أكثر من كان في المجلس، ولكن بماذا انتقدتني أنا وجميلة؟
قالت بديعة: صدقت في ما قلت؛ لأنني انتقدت البعض لإتيانهم ما أعرفه مغايرا للتهذيب والآداب، وانتقدتك وانتقدت جميلة ونفسي أيضا.
إذ ذاك قالت جميلة بهدوء: بما انتقدتنا وانتقدت نفسك.
قالت بديعة بجد: انتقدتك أنت يا لوسيا؛ لأن جلوسك على الكرسي لم يعجبني قط؛ إذ إنك كنت تتحركين وتضطربين دائما. وهذا ما تعاب عليه الفتاة الجميلة مثلك. وقد كنت تحركين يديك دائما وتلعبين بخواتمك وأساورك.
وأما أنت يا جميلة، فقد أتيت أمرا كان يجب اجتنابه، وهو أنك أظهرت حزنا وانكسارا فائقين مما جعل الناس يتساءلون عن السبب، وقد كان يجب عليك فعل أمرين: إما أن تتغلبي على حزنك فتخفيه، وإما أن لا تحضري المجلس أبدا حتى لا تجعلي لمن فيه سبيلا للتأويل. أما أنا فقد عملت ما هو أردأ من هذا، فقد قاطعت أحد الرجال بحديثه، ولم أتدارك الأمر إلا بعد أن فرط مني.
فاغتاظت لوسيا من كلامها، وقالت متهكمة: لو كنت معلمة أولاد لما وجدت تلميذا تعلمينه لصرامة قوانينك.
أجابتها بديعة بلطف. الشيء بالشيء يذكر، فإنني لو كنت معلمة أولاد لكنت أجتهد بأول الأمر أن يحبوني ويثقوا بي ويصدقوا كلامي. ثم أجعل همي الأول تعليمهم آداب السلوك وحسن التصرف ومعرفة المداخلة بين الناس بأدب وفهم وجرأة، وبعد هذا أعلمهم العلوم التي هي في درجة ثانية عن الآداب والتهذيب. فاعلمي يا عزيزتي بأنه لو كل معلمة ومعلم عرفا ما هي وظيفتهما في المجتمع الإنساني، وعرفا بأنهما وضعا بذلك المقام ليسدا أبواب السجون ومعاهد القمار ومداخل الحانات، وقاما بوظيفتهما حق قيام، لكان الناس يعيشون بنعيم وهناء على الأرض. ولكن بأسف أقول لك: إن أكثر المعلمين والمعلمات - وأعني في بلادنا السورية - لا يحسبون بأنه يطلب منهم إلا انتظار آخر الشهر لقبض أجرتهم وتدريس الأولاد ما درسوه هم على أساتذتهم، مع أن المعلمين والأساتذة خلقوا لأسمى الوظائف، وهي تربية الشعب وهو صغير وإعداده ليكون كبيرا، فتأملي بعظم هذه الكلمات وانظري إن كنت تفقهين معناها الحقيقي. وقد لحظت غيظك من انتقادي إياك، فعلى هذا أقول بأن «من قاسك لنفسه ما ظلمك»، وأي ذنب على مخلصة مثلي تمرن النفس على أمور مسلم بها من العموم أنها عماد المعيشة الحقيقية، ثم تبرزها نصيحة مجانية لأخوات تحبهن، فإن قبلنه وإن لم يقبلنه تكون هي قد قامت بواجباتها نحوهن؟
وعند هذا الكلام نهضت جميلة من فراشها وأقبلت نحو بديعة فقبلتها، وقالت: أما أنا فإنني أشكرك يا عزيزتي؛ لأنك بملاحظتك أنقذتني من عار كبير، ومن ملاحظات الكثيرين من الناس، وسأجتنب من الآن وصاعدا كل ما أعرفه أو يعرفه غيري بي ماسا للآداب والصيت.
Unknown page