وكانت السيدة جميلة أشد اضطرابا من الجميع؛ لأنها وقفت هناك تشاهد ذلك المشهد المحزن ولا تعرف السبب. أما بديعة فلبثت واقفة كالصنم بدون حراك ولا كلام، وإذ ذاك اقترب الخواجة منصور فضمها إلى صدره وقبلها قائلا: «إنني أسعد الجميع بلقائك؛ لأن محبتي لك لم يشبها كدر أو غدر، فالشكر لله ثم الشكر لله على نعمته.» وكأن كلام هذا الرجل المحب أعان بديعة فارتمت على كتفه وذرفت الدموع السخنة.
وشعرت السيدة مريم بهذا الجزاء من بديعة التي تبعت وحي قلبها بحب الخواجة منصور، ونسيت بأن مكتوبه هو الذي أخرجها من البيت، فنظرت إلى ولدها لتقابل نظره وتقرأ أفكاره، ولسعادتها كان لم يزل ساترا وجهه، فتنهدت من أعماق قلبها تنهد من تخلص من أمر صعب.
وبعد أن هدأ روع الجميع جلست بديعة ما بين والدتها والخواجة منصور، وقص هذا على السيدة جميلة القصة بصدق، وكانت بديعة مطرقة فلم تعر فؤادا ووالدته التفاتا.
ولما أتم منصور حديثه التفتت جميلة إلى مريم وقالت معاتبة: وهل كان كلامك لي عن تلك «الخائنة» موجها لحشاشة قلبي الطاهرة يا صديقتي؟
فقالت السيدة مريم - وكانت زهرة كبريائها قد ذابت الآن: أرجو أن تكتفي بقصاصي الماضي ولا تزيدي يا عزيزتي.
إذ ذاك تحركت في قلب بديعة عاطفة «عمل الخير» التي كانت تفوق جميع العواطف بنفسها، وللحال دنت السيدة مريم وجثت أمامها كملاك طاهر قائلة: إذا كان الصفح سماويا، فلنكن كلنا ملائكة بقلوب نقية، ولتصفح الواحدة عن الأخرى لأن الذنب مشترك بين الجميع ...
وبعد أن قبلت تلك السيدة الباكية انتقلت منها إلى فؤاد وقلبها خانق، وكان هذا لم يزل كما شاهده القارئ عند دخول بديعة وهيئته محزنة. وحزنه هذا اضطر بديعة للابتداء بملاطفته؛ لأنها رأت هذا من واجباتها. أما هو فلما سمع وقع خطاها المقتربة إليه رفع يديه عن عينيه وجرب ينظر إليها، فلم يقدر أن يقابل نظرها وأنى له ذلك. وهو عجز عن النظر إلى صورتها الوهمية بعدما تحقق براءتها، فكيف الآن وهو ينظر إلى الصورة الحقيقية.
لم يبك فؤاد لما اقتربت بديعة منه كما فعلت والدته؛ لأنه قل من يبكي من الرجال بوقت المصائب، وهذا دليل على أن سلاح الرجل شجاعته وسلاح المرأة دموعها، أو أن المرأة أشد حنوا من الرجل. على أن الشجاعة لم تظهر على وجه فؤاد مكان دموعه؛ لأنه كان مطرقا أصفر يرتجف كالورق. آثر منظره هذا في بديعة فوهبها شجاعة، فاقتربت منه واضعة يدها على رأسه المنخفض وقالت بصوت مضطرب: إن الموقف مفرح لا محزن، فما الذي يزعجك يا فؤاد بعد أن سمعت القصة من فم والدك؟ يجب أن تفرح وتصفح.
وكأن هذه الكلمة الأخيرة أحرقت قلبه، فصعدت الحرارة إلى خديه المصفرين وقال ناظرا إليها: أصفح! عمن؟!
أجابت بهدوء: اصفح عن الظروف التي سببت ما سببت لأجل سعادتنا بدون شك.
Unknown page