وكأن هذا الكلام أفقد بديعة رشادها، فقامت عن المائدة بدون انتباه، ولكنها عادت فانتبهت واعتذرت عن عملها إلى ميخائيل.
وفي هذه المرة لم يلحظ ميخائيل تغيرها أيضا ولا استغربه؛ فإنه كان قد قطع من السنين ما أنساه تلك الأيام التي ربما كانت شواعره فيها كشواعر بديعة الآن.
وكم تشوقت بديعة للذهاب لمشاهدة فؤاد قبل سفرها كي تظهر له براءتها من كل ما اتهمها به ظلما، وتريه محبتها وأمانتها ومقدرتها على الصفح وتناسي الإساءة شأن المرأة الفاضلة، ومع كل هذا فقد كانت تفتكر فيما إذا كانت هذه العيادة لا تمس بآدابها، ولكن موقفها لم يسمح لها بزيادة التفكر؛ لأنها بعد أن عرفت بأن فؤادا مريض وأنها قريبة منه ويجب أن تراه ولو دقيقة واحدة قبل سفرها، استعدت لعيادته فلبست ثيابها وأوصت السيدة صاحبة النزل بأن تقول لميخائيل عن ذهابها وأنها ترجع عما قريب. وذهبت إلى مستشفى «سانت جيمس» كما كانت سمعت من المتحدثين. ولما قرعت جرس الباب أتت امرأة عليها ثياب بيضاء ومشمرة عن ساعدين أبيضين وعلى قبعة بيضاء أيضا، فعرفت بديعة من ملابسها أنها إحدى الممرضات في ذلك المعهد الخيري العظيم، وللحال شعرت بكهربائية الحب لتلك الفتاة تجري في بدنها كجريان الدم، ولم تعلم بديعة أكان ذلك الحب الذي شعرت به نحو تلك الممرضة مسببا عن افتكارها بأن فؤادا تحت عناية إحدى الممرضات، فهي تحب جميعهن؟ أم أن المرأة الفاضلة تشعر بحب وامتنان نحو إخوتها في الجنس خادمات الإنسانية التعيسة؟ ولما كانت بديعة تمشي وراءها إلى حيث هو فؤاد تدافعت عليها الأفكار، فقالت في نفسها: لو أتى بعض أولئك الرجال الذين يقولون بأن المرأة خلقت للشر فقط، ونظروا معي إلى هذه المرضة؛ لعرفوا ضلالهم. إذ يرون هذه الفتاة الحلوة مشمرة عن ساعد الجد والعزيمة لتمريض المساكين الفقراء وطرد جيوش الهموم والوحدة، ومثلها جيوش الأمراض والآلام عنهم، وهي جالسة عند رءوسهم تغسل بيدها اللطيفة عن جباههم أحيانا غبار الموت، وأخرى جراثيم المرض القتالة بمعرفة وحكمة، لقالوا: إن هذه القبعة البيضاء هي رمز عن إكليل الفخر والمجد، نعم إكليل الفخر والمجد الحقيقيين وإن اعترض على قولي البعض؛ لأن الفخر والمجد لم يخلقا إلا لمساعدة الإنسانية التعيسة، فمسح دمعة واحدة من عين باكية، وتخفيف ألم عن فقير مريض، وتسلية منفرد مستوحش، والنظر بلطف وحنو إلى متألم منازع؛ أعظم ما في العالم من الأمجاد.
نعم إن الفتاة التي تقوم بكل هذه الخدمات نحو المصابين من بني جنسها - مقابل أجرة زهيدة لا توازي سهرها على مريض ليلة واحدة أو الخوف من موته بين يديها - لهي صاحبة المجد الحقيقي وإن لم يفتكر بهذا ويعظمها العالم كما يعظم أحد الأبطال الذي يكون قد أتى أمورا خشنة، وربما كثيرة بحياته، وهرق دماء كثيرين من إخوانه في الجنس، بينما هذه الفتاة تساعدهم بقدر إمكانها في المرض وتحاول إنقاذهم من الموت؛ فهي تنال مجدها الخالد من الله، وتدعى بطلة الرحمة وتنال ثناءها من الإنسانية المتألمة التي تصرخ طالبة من الله مكافأتها، فهنيئا لك أيتها الممرضة التي تخففين آلام البؤساء، وتمسحين دموع التعساء، وتساعدين المرضى الضعفاء، وتخدمين عيال الله الفقراء. طوبى لك؛ لأنك تقومين بوصية سيدك، وتستحقين مثوبته؛ لأنه قال: مهما تفعلوه مع إخوتي الصغار، فإنكم معي تفعلوه، وطوبى لنا نحن النساء؛ لأنه إذا لم يوجد منا غير المربيات والممرضات والراهبات، لكفانا ذلك فخرا.
وعند هذا الحد نادتها الممرضة قائلة: هو ذا المريض! فنظرت بديعة إلى ذلك «المريض» الذي كان ملقى على سرير بين كثيرين من المرضى غيره، وهيئة المرضى في المستشفيات العمومية تجرح القلب، وأي قلب لا ينجرح من مرأى مرضى كثيرين يتقلبون على فرش الأوجاع، وإذا لم يخف الواحد منهم من مرضه نفسه، يخاف وينزعج من مرض رفيقه الذي يكون يتوجع أمامه.
فطوباك يا بديعة على مقدرتك وشجاعتك وصبر قلبك المحب على مرأى حبيبه ملقى على ذلك الفراش في مكان غير لائق به، وهل إذا قلنا إنها بكت نكون وفيناها حقها؟ كلا! لأنها شعرت بما هو أعظم من البكاء عند ذلك المشهد، شعرت بأن قلبها يتقطع ونفسها تتوجع.
فقدمت لها الممرضة كرسيا، ووقفت تنظر إليها وإلى الشاب، وتفتكر فيما عسى أن يكون الواحد للآخر منهما.
وكانت بديعة تنظر إلى فؤاد من خلال دموعها وهو مغمض العينين خائر القوى يلهث بخور وضعف، فأمرت يدها اليمنى على وجهه الجميل لأول مرة في حياتها، وأبعدت بها شعره الجعدي الطويل عنه، وكأن هذه اليد كانت اليد الأولى التي مرت على جبهته بهذه الصورة في وقت مرضه هذا، أو أنه شعر بأنها يد بديعة؛ لأنه حينما شعر بها فتح عينيه بدهشة، ونظر حوله وعاد فأطبقهما كأنه لم ير أحدا.
إذ ذاك التفتت الممرضة إلى بديعة وقالت لها: إنه لم يعرفك لأنه لم يع على أحد منذ ثلاثة أيام، وقد أتى شاب لعيادته نهار البارح فلم يعرفه، والشاب ابن خالته ورفيقه كما قال لي.
فقالت بديعة بحزن وحسرة: كم له بهذا المستشفى؟ أجابت الممرضة: عشرون يوما.
Unknown page