177

جالس من شئت من العلماء، وحادث من أردت من الطلاب، فلن تجد غير اليأس القاتل، والهم الشامل، ولن ترى لهم من أمل في غير الحياة الثانية، وهم الذين خلقوا ليكونوا زينة الآخرة والأولى.

هل تتفضل المشيخة الجليلة فترينا قائمة الأعمال التي أصلحت بها نظام الأزهر في العهد الأخير؟ وهل يتفضل القائمون بالأمر فيفصحوا لنا عن نياتهم في الإصلاح المنشود؟ وهل هم جماعة منهم بدرس نظام الجامعات، حتى يعرفوا ما هم عليه، وما يحتاجون إليه؟ وهل راقبوا الله في النفوس التي قضى عليها أن تكون تحت إدارتهم؟ وهل فكروا في نتائج التهاون الذي يرتعون في أرجائه الفسيحة؟ ثم هل آن لهم أن يعرفوا أن الأزهر إنما أنشئ ليكون مصدرا للسعادة، لا منبعا للشقاء؟

أيروقكم أن نحسبكم مشغولين بما أسبغ الله عليكم من النعمة، كما يتحدث بذلك من يتأمل في حاضر الأزهر وماضيه، فهل أنتم ناظرون فيما مني به هذا المعهد من التأخر والانحطاط؟ وهل تبيض وجوهكم أمام الله وأمام الناس وأمام التاريخ بما تعتزمون المضي فيه من إلحاق الأزهر بالجامعات التي سامته بما سلف حتى سمت عليه؟ وهل نجد في المستقبل الباسم، ما ننسى به هذا الحاضر العابس؟

لقد طفح الكيل وأغرقت الأماني في بحور اليأس، وأصبح الأزهريون وكأنهم من أمة غير هذه الأمة، وقطر غير هذا القطر، وإلا فلماذا يحرمون وحدهم مما يتمتع به غيرهم من الأمل الضاحك والعيش الوادع؟

هذه كلمات نكتبها ونحن آسفون، وكنا نود لو أن شيوخنا أغنونا عن التفكير في غير العلم، ولكنهم أرادوا أن لا نقرأ صحيفة في كتاب إلا ونحن محزونون، وأن لا نخط سطرا في صحيفة إلا ونحن متألمون.

فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى

عليهم وهل إلا عليك المعول

5

رغب المسيو فرناند فور الأستاذ بجامعة باريس ورئيس الجامعة التي استقدمت لامتحان الحقوق الفرنسوية بمصر أن يزور الأزهر الشريف، فسألني حضرة أستاذي المسيو باباني المحامي أن أرافقه في هذه الزيارة، فقبلت ذلك، واقترحت تأخير الزيارة أسبوعا حتى يعود الطلبة إلى الدروس، وكانوا - إذ ذاك - في مسامحة المولد النبوي، وحددنا للزيارة يوم 27 نوفمبر سنة 1920، في اليوم الثاني من عودة الدراسة، وكنت أظن أن الدروس إن لم تكن تكاملت في اليوم الأول فلا بد أن تتكامل في اليوم الثاني، ولكن خاب هذا الأمل وتبين أن الأزهر لا يزال مطلق العنان، وأن الطلبة إلى الكسل مخلدون!

دخلنا الأزهر بعد الظهر، ثم مشينا معا بعد أن تبودلت التحيات بين القادمين والمستقبلين، وكنت عزمت أن أتأمل نظرات هؤلاء الزائرين لهذا البيت العتيق؛ عساني أعرف ما نحن عليه، وما نحن في حاجة إليه، ولكني لم أمش بضع خطوات حتى خيل إلي أن هذا المعهد بقية من بقايا العصور الذواهب، وأنه يجب علي أن أفهم هؤلاء الناس أن الجامع الذي يجوسون خلاله ليس معهدا للعلم، ولا مسجدا للصلاة، ولكنه طرفة عادية «أنتيكة» يؤمها المتشوقون لآثار الزمان الغابر.

Unknown page