وطويت اللواء تسليم راغم
بيد أني ألاحظ - بكل أدب وإجلال - أن الآنسة منيرة تعجلت بالحكم على كتابة ابن المقفع «إذ تعتقد أن كتابته ثقيلة معقدة»، مع أن أسلوبه بريء من الثقل والتعقيد، وإنني أتمنى لو عني طلاب الأدب جميعا بقراءة كتب ابن المقفع؛ إذ كان تعبيره أدق تعبير بعد القرآن المجيد، وإني لأشبهه بالصيدلي البارع الذي يحكم الجمع بين أجزاء الدواء بحيث لو حذف جزء لأصبح الدواء ضارا أو غير مفيد، وقد يتعذر أن تجد في كتب ابن المقفع جملة تنقصها كلمة، أو يمكن الاستغناء فيها عن كلمة، وحبذا لو رجعت إليه الآنسة منيرة مرة ثانية لتعرف صدق ما أقول.
وإني لناقل هنا نماذج من أسلوبه الدقيق متعة للقارئين، قال ابن المقفع يصف المغرمين بالنساء: «ومن العجب أن الرجل الذي لا بأس بلبه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصور لها في قلبه الحسن والجمال، حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح وأدم الدمامة، فلا يعظه ذلك ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفا بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة لظن أن لها شأنا غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق والشقاء والسفه.»
وقال في اختيار الصديق: «اجعل غاية تشبثك في مؤاخاة من تؤاخي ومواصلة من تواصل؛ توطين نفسك على أنه لا سبيل لك إلى قطيعة أخيك وإن ظهر لك منه ما تكره؛ فإنه ليس كالمملوك الذي تعتقه متى شئت، أو كالمرأة التي تطلقها إذا شئت، ولكنه عرضك ومروءتك، فإنما مروءة الرجل إخوانه وأخدانه. فإن عثر الناس على أنك قطعت رجلا من إخوانك وإن كنت معذورا، نزل ذلك عند أكثرهم بمنزلة الخيانة للإخاء والملال فيه، وإن أنت - مع ذلك - تصبرت على مقارته على غير الرضى عاد ذلك إلى العيب والنقيصة، فالاتئاد الاتئاد والتثبت التثبت.»
وقال عن فضيحة الأدعياء: «لا تكثر من ادعاء العلم في كل ما يعرض بينك وبين أصحابك؛ فإنك من ذلك بين فضيحتين، إما أن ينازعوك فيما ادعيت فيهجم منك على الجهل والصلف، وإما ألا ينازعوك ويخلوا في يديك ما ادعيت من الأمور فينكشف منك التصنع والمعجزة!
وإن أردت أن تلبس ثوب الوقار والجمال، وتتحلى بحلية المودة عند العامة، وتسلك الجدد الذي لا غبار فيه ولا عثار؛ فكن عالما كجاهل وناطقا كعيي، فأما العلم فيزينك، وأما قلة ادعائه فتنفي عنك الحسد، وأما المنطق - إذا احتجت إليه - فيبلغك حاجتك، وأما الصمت فيكسبك المحبة والوقار.»
هذه طريقة ابن المقفع في كتابه، وقد ترى فيها الآنسة منيرة ألفاظا غير مألوفه، ولكن ابن المقفع عن ذلك غير مسئول، فعلينا نحن أن نتألف اللغة حتى لا تصبح فيها كلمة غريبة. وإذا كانت الآنسة منيرة تأنف أن تتلقى من مثلي نصيحة بعد ما أفنيت شبابي في دراسة الآداب العربية والفرنسية؛ فلأوجه نصحي إلى من منحهم الله نعمة التواضع، وحبب إليهم الاستماع لما يقول الأدباء.
وإني لأحذر تلامذتي المتواضعين من الاغترار بالأساليب المزخرفة؛ فإن الفرح بالنقوش والزخارف في الفصاحة والبلاغة يدل على أن القارئ قليل الخبرة بمواطن الحسن في طرائق البيان، ومثل الأساليب الكتابية مثل الأشياء المعروضة للناظرين يفتن الطفل بأجملها لونا وأصغرها قيمة، ويعجب الرجل بأمتنها سبكا وأبرعها جودة. والكاتب المبدع هو الذي يجمع بين جمال اللفظ وجمال المعنى؛ كالصانع الموفق يجمع بين متانة المادة وجمال الصورة.
ويرحم الله شبابنا المسرفين الذين يجرون في الكتابة على غير هدى وفيهم - مع الأسف - طلبة المدارس العالية، ولكن هكذا قدر أن يكون لكل شيء في مصر ميزان إلا الشعر والنثر، وأن كل امرئ في مصر مسئول إلا الكتاب والشعراء، ولقد لقيني بالأمس صديقي الشيخ محمد الجعار فسألته: ماذا أبدعت من الشعر؟ فأنشدني هذا البيت في فتاة ذكر أنها في ميعة الشباب.
فرجت كربة نفسي
Unknown page