القشور واللباب
نفسي مثقلة بأثمارها
حفنة من رمال الشاطئ
سفينة في ضباب
المراحل السبع
وعظتني نفسي
لكم لبنانكم ولي لبناني
الأرض
بالأمس. واليوم. وغدا
الكمال
الاستقلال والطرابيش
أيتها الأرض
البحر الأعظم
في سنة لم تكن قط في التاريخ
ابن سينا وقصيدته
الغزالي
جرجي زيدان
مستقبل اللغة العربية
ابن الفارض
العهد الجديد
الوحدة والانفراد
إرم ذات العماد
سكوتي إنشاد
يا من يعادينا
يا نفس
البلاد المحجوبة
حرقة الشيوخ
بالله يا قلبي
أغنية الليل
البحر
الشحرور
الجبار الرئبال
إذا غزلتم
الشهرة
بالأمس
ماذا تقول الساقية؟
القشور واللباب
نفسي مثقلة بأثمارها
حفنة من رمال الشاطئ
سفينة في ضباب
المراحل السبع
وعظتني نفسي
لكم لبنانكم ولي لبناني
الأرض
بالأمس. واليوم. وغدا
الكمال
الاستقلال والطرابيش
أيتها الأرض
البحر الأعظم
في سنة لم تكن قط في التاريخ
ابن سينا وقصيدته
الغزالي
جرجي زيدان
مستقبل اللغة العربية
ابن الفارض
العهد الجديد
الوحدة والانفراد
إرم ذات العماد
سكوتي إنشاد
يا من يعادينا
يا نفس
البلاد المحجوبة
حرقة الشيوخ
بالله يا قلبي
أغنية الليل
البحر
الشحرور
الجبار الرئبال
إذا غزلتم
الشهرة
بالأمس
ماذا تقول الساقية؟
البدائع والطرائف
البدائع والطرائف
تأليف
جبران خليل جبران
القشور واللباب
ما شربت كأسا علقمية إلا كانت ثمالتها عسلا.
وما صعدت عقبة حرجة إلا بلغت سهلا أخضر.
وما أضعت صديقا في ضباب السماء إلا وجدته في جلاء الفجر.
وكم مرة سترت ألمي وحرقتي برداء التجلد متوهما أن في ذلك الأجر والصلاح، ولكنني لما خلعت الرداء رأيت الأمل قد تحول إلى بهجة والحرقة قد انقلبت بردا وسلاما.
وكم سرت ورفيقي في عالم الظهور فقلت في نفسي: ما أحمقه وما أبلده، غير أنني لم أبلغ عالم السر حتى وجدتني الجائر الظالم وألفيته الحكيم الظريف.
وكم سكرت بخمرة الذات فحسبتني وجليسي حملا وذئبا، حتى إذا ما صحوت من نشوتي رأيتني بشرا ورأيته بشرا.
أنا وأنتم أيها الناس مأخوذون بما بان من حالنا، متعامون عما خفي من حقيقتنا. فإن عثر أحدنا قلنا: هو الساقط، وإن تماهل قلنا: هو الخائر التلف، وإن تلعثم قلنا: هو الأخرس، وإن تأوه قلنا: تلك حشرجة النزع فهو مائت.
أنا وأنتم مشغوفون بقشور «أنا» وسطحيات «أنتم»؛ لذلك لا نبصر ما أسره الروح إلى «أنا» وما أخفاه الروح في «أنتم».
وماذا عسى نفعل ونحن بما يساورنا من الغرور غافلون عما فينا من الحق؟
أقول لكم، وربما كان قولي قناعا يغشي وجه حقيقتي، أقول لكم ولنفسي: إن ما نراه بأعيننا ليس بأكثر من غمامة تحجب عنا ما يجب أن نشاهده ببصائرنا. وما نسمعه بآذاننا ليس إلا طنطنة تشوش ما يجب أن نستوعبه بقلوبنا. فإن رأينا شرطيا يقود رجلا إلى السجن علينا ألا نجزم في أيهما المجرم. وإن رأينا رجلا مضرجا بدمه وآخر مخضوب اليدين فمن الحصافة ألا نحتم في أيهما القاتل وأيهما القتيل. وإن سمعنا رجلا ينشد وآخر يندب فلنصبر ريثما نتثبت أيهما الطروب.
لا، يا أخي، لا تستدل على حقيقة امرئ بما بان منه، ولا تتخذ قول امرئ أو عملا من أعماله عنوانا لطويته. فرب من تستجهله لثقل في لسانه وركاكة في لهجته، كان وجدانه منهجا للفطن وقلبه مهبطا للوحي. ورب من تحتقره لدمامة في وجهه وخساسة في عيشه، كان في الأرض هبة من هبات السماء وفي الناس نفحة من نفحات الله.
قد تزور قصرا وكوخا في يوم واحد، فتخرج من الأول متهيبا ومن الثاني مشفقا؛ ولكن، لو استطعت تمزيق ما تحوكه حواسك من الظواهر لتقلص تهيبك وهبط إلى مستوى الأسف، وانبدلت شفقتك وتصاعدت إلى مرتبة الإجلال.
وقد تلتقي بين صباحك ومسائك رجلين فيخاطبك الأول وفي صوته أهازيج العاصفة وفي حركاته هول الجيش؛ أما الثاني فيحدثك متخوفا وجلا بصوت مرتعش وكلمات متقطعة، فتعزو العزم والشجاعة إلى الأول، والوهن والجبن إلى الثاني. غير أنك لو رأيتهما وقد دعتهما الأيام إلى لقاء المصاعب، أو إلى الاستشهاد في سبيل مبدأ لعلمت أن الوقاحة المبهرجة ليست ببسالة والخجل الصامت ليس بجبانة.
وقد تنظر من نافذة منزلك فترى بين عابري الطريق راهبة تسير يمينا ومومسا تسير شمالا؛ فتقول على الفور: ما أنبل هذه وما أقبح تلك! ولكنك لو أغمضت عينيك وأصغيت هنيهة لسمعت صوتا هامسا في الأثير قائلا: هذه تنشدني بالصلاة وتلك ترجوني بالألم، وفي روح كل منهما مظلة لروحي.
وقد تطوف في الأرض باحثا عما تدعوه حضارة وارتقاء، فتدخل مدينة شاهقة القصور فخمة المعاهد رحبة الشوارع، والقوم فيها يتسارعون إلى هنا وهناك؛ فذا يخترق الأرض، وذاك يحلق في الفضاء، وذلك يمتشق البرق، وغيره يستجوب الهواء، وكلهم بملابس حسنة الهندام، بديعة الطراز، كأنهم في عيد أو مهرجان.
وبعد أيام يبلغ بك المسير إلى مدينة أخرى حقيرة المنازل ضيقة الأزقة إذا أمطرتها السماء تحولت إلى جزر من المدر في بحر من الأوحال. وإن شخصت بها الشمس انقلبت غيمة من الغبار. أما سكانها فما برحوا بين الفطرة والبساطة كوتر مسترخ بين طرفي القوس. يسيرون متباطئين ويعملون متماهلين وينظرون إليك كأن وراء عيونهم عيونا تحدق إلى شيء بعيد عنك، فترحل عن بلدهم ماقتا مشمئزا قائلا في سرك: إنما الفرق بين ما شهدته في تلك المدينة وما رأيته في هذه لهو كالفرق بين الحياة والاحتضار. فهناك القوة بمدها وهنا الضعف بجزره. هناك الجد ربيع وصيف وهنا الخمول خريف وشتاء. هناك اللجاجة شباب يرقص في بستان وهنا الوهن شيخوخة مستلقية على الرماد.
ولكن، لو استطعت النظر بنور الله إلى المدينتين لرأيتهما شجرتين متجانستين في حديقة واحدة. وقد يمتد بك التبصر في حقيقتهما فترى أن ما توهمته رقيا في إحداهما لم يكن سوى فقاقيع لماعة زائلة، وما حسبته خمولا في الأخرى كان جوهرا خفيا ثابتا.
لا ليست الحياة بسطوحها بل بخفاياها، ولا المرئيات بقشورها بل بلبابها، ولا الناس بوجوههم بل بقلوبهم.
لا، ولا الدين بما تظهره المعاهد وتبينه الطقوس والتقاليد، بل بما يختبئ في النفوس ويتجوهر بالنيات.
لا، ولا الفن بما تسمعه بأذنيك من نبرات وخفضات أغنية، أو من رنات أجراس الكلام في قصيدة، أو بما تبصره بعينيك من خطوط وألوان صورة؛ بل الفن بتلك المسافات الصامتة المرتعشة التي تجيء بين النبرات والخفضات في الأغنية، وبما يتسرب إليك بواسطة القصيدة مما بقي ساكتا هادئا مستوحشا في روح الشاعر، وبما توحيه إليك الصورة فترى وأنت محدق إليها ما هو أبعد وأجمل منها.
لا، يا أخي، ليست الأيام والليالي بظواهرها. وأنا، أنا السائر في موكب الأيام والليالي، لست بهذا الكلام الذي أطرحه عليك إلا بقدر ما يحمله إليك الكلام من طويتي الساكنة. إذن لا تحسبني جاهلا قبل أن تفحص ذاتي الخفية، ولا تتوهمني عبقريا قبل أن تجردني من ذاتي المقتبسة. لا تقل: هو بخيل قابض الكف قبل أن ترى قلبي، أو هو الكريم الجواد قبل أن تعرف الواعز إلى كرمي وجودي. لا تدعني محبا حتى يتجلى لك حبي بكل ما فيه من النور والنار، ولا تعدني خليا حتى تلمس جراحي الدامية.
نفسي مثقلة بأثمارها
نفسي مثقلة بأثمارها؛ فهل من جائع يجني ويأكل ويشبع؟
أليس بين الناس من صائم رؤوف يفطر على نتاجي ويريحني من أعباء خصبي وغزارتي؟
نفسي رازخة تحت عبء من التبر واللجين فهل بين الناس من يملأ جيوبه ويخفف عني حملي؟
نفسي طافحة من خمرة الدهور؛ فهل من ظامئ يسكب ويشرب ويرتوي؟
هو ذا رجل واقف على قارعة الطريق يبسط نحو العابرين يدا مفعمة بالجواهر ويناديهم قائلا: ألا فارحموني وخذوا مني. أشفقوا علي وخذوا ما معي. أما الناس فيسيرون ولا يلتفتون.
ألا ليته كان شحاذا متسولا يمد يدا مرتعشة نحو العابرين ويرجعها فارغة مرتعشة. ليته كان مقعدا أعمى يمر به الناس ولا يحفلون.
هو ذا مثر جواد نصب خيامه بين مجاهل البيداء ولحف الجبل، يوقد نار القرى كل ليلة ويبعث عبيده ليرصدوا السبل لعلهم يقودون إليه ضيفا يقربه ويكرمه، ولكن السبل بخيلة لا تجود على هباته بمرتزق، ولا تبعث إلى هباته بطالب.
ألا ليته كان صعلوكا منبوذا!
ليته كان عيارا متشردا يطوف البلاد وفي يده عكاز وفي كوعه دلو، فإذا ما جاء المساء جمعته ملتويات الأزقة بزملائه العيارين المتشردين فيجلس بقربهم ويقاسمهم خبز الصدقة!
هو ذا ابنة الملك الأكبر قد استيقظت من رقادها وهبت من مضجعها، وقامت فتردت بأرجوانها وبرفيرها، وتزينت بلؤلؤها وياقوتها، ونثرت المسك على شعرها، وغمست بذوب العنبر أصابعها، ثم خرجت إلى حديقتها ومشت وقطرات الندى تبلل أطراف ثوبها.
في سكون الليل سارت ابنة الملك الأكبر في جنتها تبحث عن حبيبها. ولكن، لم يكن في مملكة أبيها من يحبها.
ألا ليتها كانت ابنة زراع ترعى أغنام أبيها في الأودية وتعود مساء إلى كوخ أبيها وعلى قدميها غبار المنعكفات وبين طيات ثوبها رائحة الكروم. حتى إذا ما جن الليل ونام سكان الحي اختلست خطواتها إلى حيث يترقبها حبيبها.
ليتها كانت راهبة في الدير تحرق قلبها بخورا فينشر الهواء عطر قلبها. وتوقد روحها شمعا فيحمل الأثير نور روحها. وتركع مصلية فتحمل أشباح الخفاء صلواتها إلى خزائن الزمن حيث تصان صلوات المتعبدين بجانب حرقة المحبين وهواجس المستوحدين!
ليتها كانت عجوزا مسنة تجلس مستدفئة في أشعة الشمس بمن تقاسموا صباها، فذاك خير من أن تكون ابنة الملك الأكبر وليس في مملكة أبيها من يأكل قلبها خبزا ويشرب دمها خمرا!
نفسي مثقلة بأثمارها، فهل في الأرض جائع يجني ويأكل ويشبع؟
نفسي طافحة بخمرها؛ فهل من ظامئ يسكب ويشرب ويرتوي؟
ألا ليتني كنت شجرة لا تزهر، ولا تثمر، فألم الخصب أمر من ألم العقم، وأوجاع ميسور لا يؤخذ منه أشد هولا من قنوط فقير لا يرزق.
ليتني كنت بئرا جافة والناس ترمي بي الحجارة، فذلك أهون من أن أكون ينبوع ماء حي والظامئون يجتازونني ولا يستقون.
ليتني كنت قصبة مرضوضة تدوسها الأقدام، فذاك خير من أن أكون قيثارة فضية الأوتار في منزل ربه مبتور الأصابع وأهله طرشان!
حفنة من رمال الشاطئ
كآبة الحب تترنم، وكآبة المعرفة تتكلم، وكآبة الرغائب تهمس، وكآبة الفقر تندب، ولكن، هناك كآبة أعمق من الحب، وأنبل من المعرفة، وأقوى من الرغائب، وأمر من الفقر. غير أنها خرساء لا صوت لها، أما عيناها فمشعشعتان كالنجوم.
عندما تشكو مصابا لجارك تهبه جزءا من قلبك، فإن كان كبير النفس شكرك. وإن كان صغيرها احتقرك.
ليس التقدم بتحسين ما كان، بل بالسير نحو ما سيكون.
المسكنة نقاب يخفي ملامح الكبرياء. والدعوى قناع يغشي وجه البلاء.
عندما يجوع المتوحش يقطف ثمرة من شجرة ويأكلها، وعندما يجوع المتمدن يشتري ثمرة ممن اشتراها ممن اشتراها ممن اشتراها ممن قطفها من الشجرة.
الفن خطوة من المعروف الظاهر نحو المجهول الخفي.
بعض الناس يستحثونني على الأمانة إليهم ليتمتعوا بلذة السماح عني.
ما أدركت طوية امرئ إلا حسبني مديونا له.
تتنفس الأرض فنولد، ثم تستريح أنفاسها فنموت.
عين الإنسان مجهر تبين له الدنيا أكبر مما هي حقيقة.
أنا بريء من قوم يحسبون القحة شجاعة واللين جبانة؛ وأنا بريء ممن يتوهم الثرثرة معرفة والصمت جهالة والتصنع فنا.
قد يكون في استصعابنا الأمر أسهل السبل إليه.
يقولون لي: إذا رأيت عبدا نائما فلا تنبهه لعله يحلم بحريته. وأقول لهم: إذا رأيت عبدا نائما نبهته وحدثته عن الحرية.
المعاكسة أدنى مراتب الذكاء.
الجميل يأسرنا، أما الأجمل فيعتقنا حتى ومن ذاته.
الحماسة بركان لا تنبت على قمته أعشاب التردد.
يظل النهر جادا نحو البحر، انكسر دولاب المطحنة أم لم ينكسر.
صنع الأديب من الفكر والعاطفة ثم وهب الكلام. أما الباحث فقد صنع من الكلام ثم أعطي قليلا من الفكر والعاطفة.
تأكل مسرعا وتمشي متباطئا، فهلا أكلت برجلك ومشيت على كفيك!
ما تعاظم فرحك أو حزنك إلا صغرت الدنيا في عينيك.
العلم يستنبت بذورك ولا يلقي بك بذرا.
ما أبغضت إلا كان البغض سلاحا أدافع به عن نفسي، ولكن، لو لم أكن ضعيفا لما اتخذت هذا النوع من السلاح.
لو علم جد جد يسوع ما كان مختبئا في شخصه لوقف خاشعا متهيبا أمام نفسه.
الحب سعادة ترتعش.
يحسبونني حاد النظر ثاقبه؛ لأنني أراهم من خلال شبكة الغربال.
لم أشعر بألم الوحشة حتى مدح الناس عيوبي الثرثارة وطعنوا في حسناتي الخرساء.
بين الناس قتلة لم يسفكوا دما قط، ولصوص لم يسرقوا شيئا البتة، وكذبة لم يقولوا إلا الصحيح.
الحقيقة التي تحتاج إلى برهان هي نصف حقيقة.
ألا فأبعدوني عن الحكمة التي لا تبكي ، وعن الفلسفة التي لا تضحك، وعن العظمة التي لا تحني رأسها أمام الأطفال.
أيها الكون العاقل، المحجوب بظواهر الكائنات، الموجود بالكائنات وفي الكائنات وللكائنات؛ أنت تسمعني لأنك حاضر في ذاتي؛ وإنك تراني لأنك بصيرة كل شيء حي. ألق في روحي بذرة من بذور حكمتك لتنبت نصبة في غابتك وتعطي ثمرا من أثمارك. آمين.
سفينة في ضباب
هذا حديث رجل جمعنا في منزله المنفرد القائم على كتف وادي قاديشا في ليلة مغمورة بالثلوج مرتعشة بالأهوية.
قال محدثنا وهو ينبش رماد الموقد بطرف قضيب كان بيده: تريدون، يا رفاقي، أن أعلن لكم سر كآبتي.
تريدون أن أحدثكم عن المأساة التي تعيد الذكرى تمثيلها في صدري كل يوم وكل ليلة.
لقد مللتم سكوتي وتكتمي. وضجرتم من تنهدي وتململي. وقال بعضكم لبعض: إذا كان لا يدخلنا هذا الرجل إلى هيكل أوجاعه فكيف نستطيع الدخول إلى بيت مودته؟
أنتم مصيبون يا رفاقي. فمن لا يساهمنا الألم لن يشركنا في شيء آخر.
فاسمعوا إذن حكايتي. اسمعوا ولا تكونوا مشفقين، فالشفقة تجوز على الضعفاء وأنا لم أزل قويا بكآبتي.
منذ فجر شبابي وأنا أرى في أحلام يقظتي وأحلام نومي طيف امرأة غريبة الشكل والمزايا. كنت أراها في ليالي الوحدة واقفة قرب مضجعي. وكنت أسمع صوتها في السكينة. وكنت في بعض الأحيان أغمض عيني وأشعر بملامس أصابعها على جبهتي فأفتح عيني وأهب مذعورا مصغيا بكل ما بي من المسامع إلى همس اللا شيء.
وكنت أقول لذاتي: هل تطوح بي خيالي حتى ضعت في الضباب؟ هل صنعت من أبخرة أحلامي امرأة جميلة الوجه عذبة الصوت لينة الملامس لتأخذ مكان امرأة من الهيولي؟ هل خولطت بعقلي فاتخذت من ظلال عقلي رفيقة أحبها وأستأنس بها وأركن إليها وأبتعد عن الناس لأقترب منها، وأغلق عيني ومسامعي عن كل ما في الحياة من الصور والأصوات لأرى صورتها وأسمع صوتها؟ أمجنون أنا يا ترى؟ أمجنون لم يكتف بالانصراف إلى العزلة، بل ابتدع له من أشباح العزلة رفيقة وقرينة؟
قلت: «قرينة» وأنتم تستغربون هذه اللفظة . ولكن، هناك بعض الاختبارات التي نستغربها بل وننكرها؛ لأنها تظهر لنا بمظاهر المستحيل. ولكن استغرابنا ونكراننا لا يمحوان حقيقتها في نفوسنا.
لقد كانت تلك المرأة الخيالية قرينة لي، تساهمني وتبادلني كل ما في الحياة من الميول والمنازع والأفراح والرغائب، فلم أستيقظ صباحا إلا رأيتها متكئة على مساند سريري وهي تنظر إلي بعينين يملأهما طهر الطفولة وعطف الأمومة. ولم أحاول عملا إلا ساعدتني على تحقيقه. ولم أجلس إلى مائدة إلا جلست قبالتي تحدثني وتبادلني الآراء والأفكار. وما جاء مساء إلا اقتربت مني قائلة: قم بنا نسر بين التلول والمنحدرات، كفانا الإقامة في هذا المنزل. فأترك إذ ذاك عملي وأسير قابضا على أصابعها، حتى إذا ما بلغنا البرية المتشحة بنقاب المساء المغمورة بسحر السكون نجلس جنبا إلى جنب على صخرة عالية محدقين إلى الشفق البعيد. فكانت تارة تومئ إلى الغيوم المذهبة بأشعة الغروب، وطورا تسترعي سمعي إلى تغريد الطائر يبعث صوته تسبيحة شكر وطمأنينة قبيل أن يلتجئ إلى الأغصان للمبيت.
وكم مرة دخلت علي وأنا أشتغل في غرفتي قلقا مضطربا فلا تلمحها عيني حتى يتحول قلقي إلى الهدوء، واضطرابي إلى الائتلاف والاستئناس.
وكم لقيت الناس في روحي جيش يزحف متمردا على ما أكرهه في نفوسهم، ولكنني ما تبينت وجهها بين وجوههم إلا انقلبت الزوبعة في باطني إلى أنغام علوية.
وكم جلست منفردا وفي قلبي سيف من ألم الحياة ومتاعبها وحول عنقي سلاسل من مشاكل الوجود ومعضلاته، ثم ألتفت فأراها واقفة أمامي محدقة إلي بعينين تفيضان نورا وبهاء فتنقشع غيومي ويتهلل قلبي وتبدو الحياة لبصيرتي جنة أفراح ومسرات.
وأنتم تسألون، يا رفاقي، ما إذا كنت مقتنعا بهذه الحالة الشاذة الغريبة. تسألون ما إذا كان المرء وهو في عنفوان شبابه، يستطيع الاكتفاء بما تدعونه وهما وخيالا وحلما بل وعلة نفسية؟
أقول لكم: إن الأعوام التي صرفتها في تلك الحالة لهي زبدة ما عرفته في الحياة من الجمال والسعادة واللذة والطمأنينة. أقول لكم: إنني كنت ورفيقتي الأثيرية فكرة مطلقة مجردة تطوف في نور الشمس، وتطفو على وجه البحار، وتسعى في الليالي المقمرة، وتتهلل بأغان ما سمعتها أذن، وتقف أمام مشاهد ما رأتها عين. إن الحياة، كل الحياة، هي في ما نختبره بأرواحنا؛ والوجود، كل الوجود، هو في ما نعرفه ونتحققه فنبتهج به أو نتوجع لأجله. وأنا قد اختبرت أمرا بروحي، اختبرته كل يوم وكل ليلة حتى بلغت الثلاثين من عمري.
ليتني لم أبلغ الثلاثين. ليتني مت ألف مرة ومرة قبل أن أبلغ تلك السنة التي سلبتني لباب حياتي، واستنزفت دماء قلبي وأوقفتني أمام الأيام والليالي شجرة يابسة عارية مستوحدة، فلا ترقص أغصانها لأغاني الهواء ولا تحوك الأطيار أعشاشها بين أوراقها وأزهارها.
وسكت محدثنا دقيقة وقد ألوى رأسه وأغمض عينيه وأرخى زنديه إلى جنب مقعده فبان كأنه اليأس مجسما. أما نحن فبقينا صامتين مترقبين استماع تتمة حديثه. ثم فتح أجفانه وبصوت متقطع خارج من أعماق كيان مكلوم قال: تذكرون، يا رفاقي، أنه منذ عشرين سنة بعثني حاكم هذا الجبل بمهمة علمية إلى مدينة البندقية، وأصحبني برسالة إلى محافظ تلك المدينة الذي كان قد عرفه في القسطنطينية.
تركت لبنان وأبحرت على سفينة إيطالية، وقد كان ذلك في شهر نيسان وروح الربيع ترتعش بين ثنايا الهواء، وتنثني مع أمواج البحر، وتتمثل بصور جميلة متقلبة في الغيوم البيضاء المتلبدة فوق الآفاق. كيف أصف لكم تلك الأيام وتلك الليالي التي صرفتها على ظهر السفينة؟ إن قوة الكلام المتعارف بين البشر لا تتجاوز ما تحويه مدارك البشر وما يشعرون به. وفي الروح ما هو أبعد من الإدراك وأدق من الشعور فكيف أرسمها لكم بالكلام؟
لقد كانت تلك السنون التي صرفتها مع رفيقتي الأثيرية ممنطقة بالأنس والألفة، مغمورة بالسكينة والرضى، فلم يدر في خلدي أن الألم رابض لي وراء حجب سعادتي، وأن المرارة ثمالة راكدة في أعماق كأسي. لا، لم أخش قط ذبول زهرة نبتت فوق الغيوم، واضمحلال أنشودة ترنمت بها عرائس الفجر.
ولما تركت هذه التلول والأودية كانت رفيقتي جالسة بقربي في المركبة التي حملتني إلى الساحل. وفي الثلاثة الأيام التي قضيتها في بيروت قبيل سفري، كانت قرينتي تذهب حيثما أذهب وتقف عندما أقف، فلم أجتمع بصديق إلا رأيتها تبتسم له، ولم أزر معهدا إلا شعرت بيدها قابضة على يدي، ولم أجلس مساء في شرفة النزل مصغيا إلى أصوات المدينة إلا شاركتني في التأمل وساهمتني الفكر.
ولكن، لما فصلني الزورق عن ميناء بيروت، في الدقيقة التي وطئت فيها ظهر السفينة، شعرت بتغير في فضاء روحي، شعرت بيد خفية قوية تتمسك بساعدي وسمعت صوتا عميقا يهمس في أذني قائلا: ارجع، ارجع من حيث أتيت. انزل إلى الزورق وعد إلى شواطئ بلادك قبل أن تبحر السفينة.
وأبحرت السفينة وأنا على ظهرها أشبه شيء بعصفور بين مخالب باشق يسبح محلقا في الخلاء. ولما جاء المساء وقد انحجبت قمم لبنان وراء ضباب البحر، رأيتني واقفا وحدي على مقدمة السفينة وفتاة أحلامي - المرأة التي أحبها قلبي، المرأة التي رافقت شبابي - لم تكن معي. الصبية العذبة التي كنت أرى وجهها كلما حدقت إلى الفضاء، وأسمع صوتها كلما أصغيت إلى السكينة، وألمس يدها كلما مددت يدي إلى الأمام، لم تكن على ظهر تلك السفينة. لأول مرة، ولأول مرة وجدتني واقفا وحدي أمام الليل والبحر والفضاء.
وبقيت على هذه الحالة أنتقل من مكان إلى مكان مناديا رفيقتي في قلبي، ناظرا إلى الأمواج المتقلبة لعلي أرى وجهها في بياض الزبد.
وعندما انتصف الليل وقد التجأ ركاب السفينة إلى مراقدهم وبقيت أنا وحدي هائما ضائعا مضطربا، التفت بغتة فرأيتها واقفة في الضباب على بعد بضع خطوات فانتفضت مرتعشا ومددت يدي إليها هاتفا: لم تركتني؟ ... لم تركتني في وحدتي؟ إلى أين ذهبت؟ أين كنت يا رفيقتي؟ اقتربي، اقتربي مني ولا تتركيني بعد الآن.
فلم تدن مني، بل ظلت جامدة في مكانها ثم بدت على وجهها سيماء توجع ولهفة ما رأيت أهول منهما في حياتي، وبصوت خافت ضئيل قالت: جئت من أعماق اللجة لأراك لمحة واحدة. وها أنا راجعة إلى أعماق اللجة. ادخل مخدعك وارقد واحلم.
قالت هذه الكلمات وامتزجت بالضباب واضمحلت. فطفقت أناديها بلجاجة الطفل الجائع وأبسط ذراعي إلى كل ناحية فلا أقبض إلا على الهواء المثقل بندى الليل.
دخلت مخدعي وفي روحي عناصر تتقلب وتتصارع وتهبط وتتصاعد، فكنت في جوف تلك السفينة سفينة أخرى في بحر من اليأس والالتباس. وللغرابة أنني لم ألق رأسي على وسائد مضجعي حتى أحسست بثقل في أجفاني وبتخدر في جسدي فنمت نوما عميقا حتى الصباح. ولقد رأيت في نومي حلما. رأيت رفيقتي مصلوبة على شجرة تفاح مزهرة وقطرات الدماء تسيل من كفيها وقدميها على غصني الشجرة وعمدها ثم تنسكب على الأعشاب وتمتزج بأزهار الشجرة المنثورة.
وظلت السفينة تسعى الأيام والليالي بين اللجتين وأنا على ظهرها لا أدري ما إذا كنت بشرا مسافرا إلى بلد بعيد بمهمة بشرية أم شبحا تائها في فضاء خال إلا من الضباب، فلم أشعر بقرب رفيقتي ولم ألمح وجهها في اليقظة أو في المنام، وباطلا كنت أنادي مصليا مبتهلا للقوى الخفية لتسمعني من مقاطع صوتها، أو لتريني ظلا من ظلالها أو تجعلني أشعر بملامس أصابعها على جبهتي.
ومر أربعة عشر يوما وأنا في هذه الحالة. وعند ظهيرة اليوم الخامس عشر ظهرت عن بعد شواطئ إيطاليا، وفي مساء ذلك النهار دخلت السفينة ميناء البندقية وجاء قوم بزوارق مطلية بألوان ورسوم بهجة لينقلوا الركاب وأمتعتهم إلى المدينة.
أنتم تعلمون، يا رفاقي، أن البندقية قائمة على عشرات من الجزر الصغيرة المتقاربة، فشوارعها ترع ومنازلها وقصورها مبنية في الماء، والزوارق هناك تقوم مقام المركبات.
فلما نزلت من السفينة إلى الزورق سألني النوتي قائلا: إلى أين يريد سيدي أن يذهب؟
فلما ذكرت اسم محافظ المدينة نظر إلي باهتمام واحترام وأخذ يضرب الماء بمقذافه.
سار بي الزورق وكان قد جاء الليل وألقى رداءه على المدينة، فظهرت الأنوار في نوافذ القصور والمعابد والمعاهد فانعكست أشعتها في الماء متلألئة مرتعشة، فبانت البندقية كحلم شاعر يفتنه الغريب من المشاهد والوهمي من الأماكن. ولم يبلغ بي الزورق إلى منعطف أول ترعة حتى سمعت رنين أجراس لا عداد لها تملأ الفضاء بأنات محزنة متقطعة مخيفة. ومع أنني كنت في غيبوبة نفسية تفصلني عن كل المظاهر الخارجية، فقد كانت تلك الطنات النحاسية تخترق لوح صدري كالمسامير.
ووقف الزورق بجانب سلم حجري تتصاعد درجاته من الماء إلى الرصيف، فالتفت البحري إلي وأشار بيده نحو قصر قائم في وسط حديقة وقال: هذا هو المكان. فصعدت من الزورق وسرت مبطئا نحو المنزل والبحري يتبعني حاملا حقيبتي على كتفه، حتى إذا ما بلغت باب المنزل ناولته أجرته وصرفته، ثم طرقت الباب ففتح لي، وإذا أنا أمام رهط من الخدم مطأطئي الرؤوس وهم يبكون وينوحون ويتأوهون بأصوات منخفضة، فاستغربت هذا المشهد واحترت بأمري.
وبعد هنيهة تقدم مني خادم كهل ونظر إلي من وراء أجفان مقروحة وسألني متنهدا: ماذا يريد سيدي؟ فقلت: أليس هذا منزل محافظ المدينة؟ فحنى رأسه إيجابا.
فأخرجت، إذ ذاك الرسالة التي أصحبني بها حاكم لبنان وناولته إياها، فنظر في عنوانها صامتا ثم راح متماهلا نحو باب في مؤخر ذلك الدهليز.
جرى كل ذلك وأنا بدون فكر ولا إرادة. ثم دنوت من خادمة صبية وسألتها عن سبب حزنهم ونواحهم فأجابت متوجعة: عجبا، ألم تسمع أن ابنة المحافظ قد ماتت اليوم؟
ولم تزد على هذه الكلمات، بل غمرت وجهها بكفها واستسلمت إلى البكاء.
تأملوا، يا رفاقي، حالة رجل قطع البحار وهو كفكرة سديمية ملتبسة أضاعها جبار من جبابرة الفضاء بين الأمواج المزبدة والضباب الرمادي. صوروا لنفوسكم حالة فتى سار أسبوعين بين عويل اليأس وصراخ اللجة، ولما بلغ نهاية الطريق وجد نفسه واقفا في باب منزل تتمشى في جنباته أشباح التفجع وتملأ قرانيه أنات اللوعة. صوروا لنفوسكم، يا رفاقي، رجلا غريبا يطلب الضيافة في قصر تخيم عليه أجنحة الموت.
وعاد الخادم الذي حمل الرسالة إلى سيده وانحنى قائلا: تفضل يا سيدي فالمحافظ ينتظرك.
قال هذا ومشى أمامي فاتبعته حتى إذا ما بلغنا بابا في نهاية الممشى أومأ إلي أن أدخل، فدخلت قاعة واسعة عالية السقف منارة بالشموع وقد جلس فيها بعض الوجهاء والكهان وكلهم في سكوت عميق. فلم أكد أخطو بضع خطوات حتى قام من صدر القاعة شيخ ذو لحية بيضاء وقد حنت ظهره الأشجان وثلمت وجهه الأوجاع وتقدم نحوي وأخذ بيدي قائلا: يعز علي أن تأتي من بلاد بعيدة وتجدنا مصابين بأحب من لدينا. ولكني أرجو أن لا يكون مصابنا حائلا دون إتمام الغرض الذي جئتنا من أجله، فكن مطمئن البال يا ولدي.
فشكرت له عطفه مظهرا أسفي لمصابه ببعض الألفاظ المشوشة.
وقادني الشيخ إلى كرسي بجانب مقعده فجلست صامتا مع الجلاس الصامتين أنظر خلسة إلى وجوههم الكئيبة، وأسمع تأوههم فتتولد في صدري كتلات من الضيم واللهفة. وبعد ساعة انصرف القوم الواحد تلو الآخر، ولم يبق سواي مع الوالد الحزين في تلك القاعة الخرساء، فوقفت إذ ذاك وتقدمت إليه قائلا: اسمح لي يا سيدي بالانصراف. فقال ممانعا: لا، يا صديقي، لا تذهب؛ كن ضيفنا إن كان بإمكانك احتمال النظر إلى كآبتنا واستماع أنة لوعتنا. فأخجلني كلامه وحنيت رأسي امتثالا. ثم عاد وقال: أنتم اللبنانيين أبر الناس بالضيف؛ فهلا بقيت عندنا لنريك ولو قليلا مما يلقاه الغريب في بلادكم!
وبعد هنيهة قرع الشيخ المنكوب جرسا فضيا فدخل علينا حاجب بملابس مزركشة مقصبة، فقال له الشيخ مشيرا إلي: سر بضيفنا إلى الغرفة الشرقية، وانظر بشأن مأكله ومشربه، وتول بنفسك شؤونه، وكن ساهرا على راحته.
فقادني الحاجب إلى غرفة رحبة بديعة الهندسة، فخمة الرياش تغشي جدرانها الرسوم والمنسوجات الحريرية، في وسطها سرير نفيس مغطى باللحف والمساند المطرزة.
تركني الحاجب فارتميت على مقعد أفكر بنفسي ومحيطي وبغربتي ووحدتي ومآتي أول ساعة صرفتها في بلاد قصية عن بلادي.
وعاد الحاجب يحمل طبقا عليه الطعام والشراب ووضعه أمامي فأكلت قليلا، ولكن بدون رغبة ثم صرفت الحاجب.
ومرت ساعتان وأنا أتمشى تارة في تلك الغرفة وطورا أقف في جوانب إحدى نوافذها محدقا إلى الفضاء مصغيا إلى أصوات البحارة، وخفق مقاذيفهم في الماء حتى إذا ما نهكني السهر وتضعضعت فكرتي بين مظاهر الحياة وخفاياها، ارتميت على السرير مستسلما إلى غيبوبة تتآلف فيها سكرة الهجوع وصحو اليقظة ويتقلب فيها التذكار والنسيان مثلما يتناوب الشواطئ مد البحر وجزره، فكنت كساحة حرب صامتة تتناضل فيها فيالق صامتة ويجندل الموت فرسانها فيقضون صامتين.
لا، لا أدري، يا رفاقي، كم ساعة صرفت أنا في هذه الحالة. إن في الحياة فسحات تجتازها أرواحنا، ولكننا لا نستطيع أن نقيسها بالمقاييس الزمنية التي ابتدعتها فكرة الإنسان.
لا، لا أعرف كم ساعة بقيت في هذه الحالة. كل ما عرفته إذ ذاك وكل ما أعرفه الآن هو أنني بينما كنت في تلك الحالة الملتبسة شعرت بكيان حي واقف بقرب سريري، شعرت بقوة ترتعش في فضاء الغرفة، شعرت بذات أثيرية تناديني ولكن بدون صوت، وتستفزني ولكن بدون إشارة، فنهضت على قدمي وخرجت من الغرفة إلى الدهليز مدفوعا مأمورا مجذوبا بعامل قاهر ضابط كلي. سرت ولكن بغير إرادتي. سرت كمن يسير وهو نائم، سرت في عالم مجرد عما نحسبه زمنا ومسافة، حتى إذا ما بلغت نهاية الدهليز دخلت قاعة كبرى في وسطها نعش تنيره كوكبتان من الشموع وتحيط به الأزهار. فتقدمت وركعت بجانبه ونظرت، نظرت فرأيت وجه رفيقتي، رأيت وجه رفيقة أحلامي وراء نقاب الموت، رأيت المرأة التي أحببتها حبا فوق الحب. رأيتها جثة هامدة بيضاء بأثواب بيضاء بين أزهار بيضاء تخيم عليها سكينة الدهور ورهبة الأزل.
يا إلهي، يا إله الحب والحياة والموت، أنت الذي كونت أرواحنا ثم سيرتها في هذه الأنوار وهذه الظلمات. أنت الذي فطرت قلوبنا ثم جعلتها تنبض بالأمل والألم. أنت، أنت الذي أريتني رفيقتي جسدا باردا. أنت الذي قدتني من أرض إلى أرض لتظهر لي مراد الموت بالحياة، ومشيئة الوجع بالفرح. أنت الذي أنبت في صحراء وحدتي وانفرادي زنبقة بيضاء ثم سيرتني إلى واد بعيد لتبينها لي زنبقة ذابلة ذاوية فانية!
نعم، يا رفاقي، يا رفاق وحشتي واغترابي، إن الله قد شاء فسقاني الكأس العلقمية. لتكن مشيئة الله. نحن البشر، نحن الذرات المرتعشة في خلاء لا حد له ولا مدى، نحن لا نستطيع سوى الخضوع والامتثال. فإن أحببنا فحبنا ليس منا وليس لنا . وإن سررنا فسرورنا ليس فينا بل في الحياة نفسها. وإن تألمنا فالألم ليس بكلومنا بل بأحشاء الطبيعة بأسرها.
لم أقص عليكم حكايتي شاكيا، إن من يشكو يشك في الحياة. وأنا من المؤمنين؛ أؤمن بصلاحية هذه المرارة التي تمازج كل رشفة أرتشفها من كؤوس الليالي، أؤمن بجمال هذه المسامير التي تخترق صدري، أؤمن برأفة هذه الأصابع الحديدية التي تمزق غشاء قلبي.
هذه حكايتي؛ فكيف أصل إلى نهايتها وهي بدون نهاية؟ لقد بقيت راكعا أمام نعش الصبية التي أحببتها في أحلامي محدقا إلى وجهها حتى وضع الفجر يده على بلور النوافذ، فقمت إذ ذاك وعدت إلى غرفتي متوكئا على أوجاع الإنسانية منحنيا تحت أعباء الأبدية.
وبعد ثلاثة أسابيع تركت البندقية ورجعت إلى لبنان رجوع من صرف ألف جيل في أعماق الدهر. رجعت رجوع كل لبناني من غربة إلى غربة.
سامحوني، يا رفاقي، فقد أطلت حديثي. سامحوني!
المراحل السبع
شجيت نفسي سبع مرات: المرة الأولى لما حاولت الحصول على الرفعة عن طريق الضعة، والمرة الثانية لما عرجت أمام المقعدين، والمرة الثالثة لما خيرت بين الصعب والهين فاختارت الهين، والمرة الرابعة لما أخطأت فتعزت بخطإ غيرها، والمرة الخامسة لما تجلدت عن ضعف وعزت جلدها إلى القوة، والمرة السادسة لما لمت أذيالها عن أوحال الحياة، والمرة السابعة لما وقفت مرتلة أمام الله وحسبت الترتيل فضيلة فيها.
وعظتني نفسي
وعظتني نفسي فعلمتني حب ما يمقته الناس ومصافاة من يضاغنونه وأبانت لي أن الحب ليس بميزة في المحب بل في المحبوب. وقبل أن تعظني نفسي كان الحب بي خيطا دقيقا مشدودا بين وتدين متقاربين، أما الآن فقد تحول إلى هالة أولها آخرها وآخرها أولها، تحيط بكل كائن وتتوسع ببطء لتضم كل ما سيكون.
وعظتني نفسي فعلمتني أن أرى الجمال المحجوب بالشكل واللون والبشرة، وأن أحدق متبصرا بما يعده الناس شناعة حتى يبدو لي حسنا. وقبل أن تعظني نفسي كنت أرى الجمال شعلات مرتعشة بين أعمدة من الدخان واضمحل فلم أعد أرى سوى ما يشتعل.
وعظتني نفسي فعلمتني الإصغاء إلى الأصوات التي لا تولدها الألسنة ولا تضج بها الحناجر. وقبل أن تعظني نفسي كنت كليل المسامع مريضها، لا أعي سوى الجلبة والصياح، أما الآن فقد صرت أتوجس بالسكينة فأسمع أجواقها منشدة أغاني الدهور، مرتلة تسابيح الفضاء، معلنة أسرار الغيب.
وعظتني نفسي فعلمتني أن أشرب مما لا يعصر ولا يسكب بكؤوس لا ترفع بالأيدي ولا تلمس بالشفاه. وقبل أن تعظني نفسي كان عطشي شرارة ضئيلة في رابية من رماد أخمدها بعبة من الغدير أو برشفة من جرن المعصرة. أما الآن فقد صار شوقي كأسي، وغلتي شرابي، ووحدتي نشوتي. وأنا لا ولن أرتوي. ولكن في هذه الحرقة التي لا تنطفئ، مسرة لا تزول.
وعظتني نفسي فعلمتني لمس ما لم يتجسد ولم يتبلور، وأفهمتني أن المحسوس نصف المعقول. وأن ما نقبض عليه بعض ما نرغب فيه. وقبل أن تعظني نفسي كنت أكتفي بالحار إن كنت باردا، والبارد إن كنت حارا، وبأحدهما إن كنت فاترا. أما الآن فقد انتثرت ملامسي المنكمشة وانقلبت ضبابا دقيقا يخترق كل ما ظهر من الوجود ليمتزج بما خفي منه.
وعظتني نفسي فعلمتني استنشاق ما لا تبثه الرياحين ولا تنشره المجامر. وقبل أن تعظني نفسي كنت إن اشتهيت عطرا طلبته من البساتين أو من القوارير أو المباخر. أما الآن فقد صرت أشم ما لا يحترق ولا يهرق وأملأ صدري من أنفاس زكية لم تمر بجنة من جنات هذا العالم ولم تحملها نسمة من نسمات هذا الفضاء.
وعظتني نفسي فعلمتني أن أقول: «لبيك» عندما يناديني المجهول والخطر. وقبل أن تعظني نفسي كنت لا أنهض إلا لصوت مناد عرفته. ولا أسير إلا على سبل خبرتها فاستهونتها. أما الآن فقد أصبح المعلوم مطية أركبها نحو المجهول، والسهل سلما أتسلق درجاته لأبلغ الخطر.
وعظتني نفسي فعلمتني ألا أقيس الزمن بقولي: كان بالأمس وسيكون غدا. وقبل أن تعظني نفسي كنت أتوهم الماضي عهدا لا يرد والآتي عصرا لن أصل إليه. أما الآن فقد عرفت أن في الهنيهة الحاضرة كل الزمن بكل ما في الزمن مما يرجى وينجز ويتحقق.
وعظتني نفسي فعلمتني ألا أحد المكان بقولي: هنا وهناك وهنالك. وقبل أن تعظني نفسي كنت إذا ما صرت في موضع في الأرض ظننتني بعيدا عن كل موضع آخر. أما الآن فقد علمت أن مكانا أحل فيه هو كل مكان، وأن فسحة أشغلها هي كل المسافات.
وعظتني نفسي فعلمتني أن أسهر وسكان الحي راقدون؛ وأن أنام وهم منتبهون، وقبل أن تعظني نفسي كنت لا أرى أحلامهم في هجعتي ولا يرصدون أحلامي في غفلتهم. أما الآن فلا أسبح مرفرفا في منامي إلا وهم يرقبونني ولا يطيرون في أحلامهم إلا وفرحت بانعتاقهم.
وعظتني نفسي فعلمتني أن لا أطرب لمديح ولا أجزع لمذمة. وقبل أن تعظني نفسي كنت أظل مرتابا في قيمة أعمالي وقدرها حتى تبعث إليها الأيام بمن يقرظها أو يهجوها. أما الآن فقد عرفت أن الأشجار تزهر في الربيع، وتثمر في الصيف ولا مطمع لها بالثناء، وتنثر أوراقها في الخريف وتتعرى في الشتاء ولا تخشى الملامة.
وعظتني نفسي فعلمتني وأثبتت لي أنني لست بأرفع من الصعاليك، ولا أدنى من الجبابرة، وقبل أن تعظني نفسي كنت أحسب الناس رجلين: رجلا ضعيفا أرق له أو أزدري به، ورجلا قويا أتبعه أو أتمرد عليه. أما الآن فقد علمت أنني كونت فردا مما كون البشر منه جماعة. فعناصري عناصرهم، وطويتي طويتهم، ومنازعي منازعهم، ومحجتي محجتهم، فإن أذنبوا فأنا المذنب، وإن أحسنوا عملا فاخرت بعملهم، وإن نهضوا نهضت وإياهم. وإن تقاعدوا تقاعدت معهم.
وعظتني نفسي فعلمتني أن السراج الذي أحمله ليس لي، والأغنية التي أنشدها لم تتكون في أحشائي فأنا وإن سرت بالنور لست بالنور، وأنا وإن كنت عودا مشدود الأوتار فلست بالعواد.
وعظتني نفسي يا أخي وعلمتني، ولقد وعظتك نفسك وعلمتك، فأنت وأنا متشابهان متضارعان، وما الفرق بيننا سوى أنني أتكلم عما بي وفي كلامي شيء من اللجاجة، وأنت تكتم ما بك وفي تكتمك شكل من الفضيلة.
لكم لبنانكم ولي لبناني
لكم لبنانكم ولي لبناني.
لكم لبنانكم ومعضلاته، ولي لبناني وجماله .
لكم لبنانكم بكل ما فيه من الأغراض والمنازع، ولي لبناني بما فيه من الأحلام والأماني.
لكم لبنانكم فاقنعوا به، ولي لبناني وأنا لا أقنع بغير المجرد المطلق.
لبنانكم عقدة سياسية تحاول حلها الأيام؛ أما لبناني فتلول تتعالى بهيبة وجلال نحو ازرقاق السماء.
لبنانكم مشكلة دولية تتقاذفها الليالي؛ أما لبناني فأودية هادئة سحرية تتموج في جنباتها رنات الأجراس وأغاني السواقي.
لبنانكم صراع بين رجل جاء من المغرب ورجل جاء من الجنوب؛ أما لبناني فصلاة مجنحة ترفرف صباحا عندما يقود الرعاة قطعانهم إلى المروج، وتتصاعد مساء عندما يعود الفلاحون من الحقول والكروم.
لبنانكم حكومة ذات رؤوس لا عداد لها؛ أما لبناني فجبل رهيب وديع جالس بين البحر والسهول جلوس شاعر بين الأبدية والأبدية.
لبنانكم حيلة يستخدمها الثعلب عندما يلتقي الضبع، والضبع حينما يجتمع بالذئب؛ أما لبناني فتذكارات تعيد على مسمعي أهازيج الفتيات في الليالي المقمرة وأغاني الصبايا بين البيادر والمعاصر.
لبنانكم مربعات شطرنج بين رئيس دين وقائد جيش؛ أما لبناني فمعبد أدخله بالروح عندما أمل النظر إلى وجه هذه المدنية السائرة على الدواليب.
لبنانكم رجلان: رجل يؤدي المكوس ورجل يقبضها؛ أما لبناني فرجل فرد متكئ على ساعده في ظلال الأرز وهو منصرف عن كل شيء سوى الله ونور الشمس.
لبنانكم مرافئ وبريد وتجارة؛ أما لبناني ففكرة بعيدة وعاطفة مشتعلة وكلمة علوية تهمسها الأرض في أذن الفضاء.
لبنانكم موظفون وعمال ومديرون؛ أما لبناني فتأهب الشباب وعزم الكهولة وحكمة الشيخوخة.
لبنانكم وفود ولجان؛ أما لبناني فمجالس حول المواقد في ليال تغمرها هيبة العواصف ويجللها طهر الثلوج.
لبنانكم طوائف وأحزاب؛ أما لبناني فصبية يتسلقون الصخور ويركضون مع الجداول ويقذفون الأكر في الساحات.
لبنانكم خطب ومحاضرات ومناقشات؛ أما لبناني فتغريد الشحارير، وحفيف أغصان الحور والسنديان، ورجع صدى النايات في المغاور والكهوف.
لبنانكم كذب يحتجب وراء نقاب من الذكاء المستعار، ورياء يختبئ في رداء من التقليد والتصنع؛ أما لبناني فحقيقة بسيطة عارية إذا نظرت في حوض ماء ما رأت غير وجهها الهادئ وملامحها المنبسطة.
لبنانكم شرائع وبنود على أوراق، وعقود وعهود في دفاتر؛ أما لبناني ففطرة في أسرار الحياة وهي لا تعلم أنها تعلم، وشوق يلامس في اليقظة أذيال الغيب ويظن نفسه في منام.
لبنانكم شيخ قابض على لحيته، قاطب ما بين عينيه ولا يفكر إلا بذاته؛ أما لبناني ففتى ينتصب كالبرج، ويبتسم كالصباح، ويشعر بسواه شعوره بنفسه.
لبنانكم ينفصل آنا عن سوريا ويتصل بها آونة، ثم يحتال على طرفيه ليكون بين معقود ومحلول؛ أما لبناني فلا يتصل ولا ينفصل ولا يتفوق ولا يتصاغر.
لكم لبنانكم ولي لبناني.
لكم لبنانكم وأبناؤه ولي لبناني وأبناؤه.
ومن هم يا ترى أبناء لبنانكم؟
ألا فانظروا هنيهة لأريكم حقيقتهم.
هم الذين ولدت أرواحهم في مستشفيات الغربيين.
هم الذين استيقظت عقولهم في حضن طامع يمثل دور أريحي.
هم تلك القضبان اللينة التي تميل إلى اليمين وإلى اليسار، ولكن بدون إرادة، وترتعش في الصباح وفي المساء، ولكنها لا تدري أنها ترتعش.
هم تلك السفينة التي تصارع الأمواج وهي بدون دفة ولا شراع، أما ربانها فالتردد وأما ميناؤها فكهف تسكنه الغيلان. أوليست كل عاصمة في أوروبا كهفا للغيلان؟
هم الأشداء الفصحاء البلغاء، ولكن بعضهم لدى بعض، والضعفاء الخرسان أمام الإفرنج.
هم الأحرار المصلحون المتحمسون، ولكن في صفحهم وفوق منابرهم، والمنقادون الرجعيون أمام الغربيين.
هم الذين يضجون كالضفادع قائلين: لقد تملصنا من عدونا الطاغية القديم، وعدوهم القديم الطاغية ما برح يختبئ في أجسادهم.
هم الذين يسيرون أمام الجنازة مزمرين راقصين، حتى إذا ما التقوا موكب العرس تحول تزميرهم إلى نواح ورقصهم إلى قرع الصدور وشق الأثواب.
هم الذين لا يعرفون المجاعة إلا إذا كانت في جيوبهم، فإذا ما التقوا من كانت مجاعته في روحه ضحكوا منه وتحولوا عنه قائلين: ما هذا سوى خيال يسير في عالم الأخيلة.
هم أولئك العبيد الذين تبدل الأيام قيودهم المصدأة بقيود لامعة فيظنون أنهم أصبحوا أحرارا مطلقين.
هؤلاء هم أبناء لبنانكم، فهل بينهم من يمثل العزم في صخور لبنان أم النبل في ارتفاعه أم العذوبة في مائه أم العطر في هوائه؟ هل بينهم من يتجرأ أن يقول: إذا ما مت تركت وطني أفضل قليلا مما وجدته عندما ولدت؟ هل بينهم من يتجرأ أن يقول: لقد كانت حياتي قطرة من الدم في عروق لبنان أو دمعة بين أجفانه أو ابتسامة على ثغره؟
هؤلاء هم أبناء لبنانكم، فما أكبرهم في عيونكم وما أصغرهم في عيني!
ولكن قفوا قليلا وانظروا لأريكم أبناء لبناني:
هم الفلاحون الذين يحولون الوعر إلى حدائق وبساتين.
هم الرعاة الذين يقودون قطعانهم من واد إلى واد فتنمو وتتكاثر وتعطيكم لحومها غذاء وصوفها رداء.
هم الكرامون الذين يعصرون العنب خمرا ويعقدون الخمر دبسا.
هم الآباء الذين يربون أنصاب التوت، والأمهات اللواتي يغزلن الحرير.
هم الرجال الذين يحصدون الزرع، والزوجات اللواتي يجمعن الأغمار.
هم البناؤون والفخارون والحائكون وصانعو الأجراس والنواقيس.
هم الشعراء الذين يسكبون أرواحهم في كؤوس جديدة، وهم شعراء الفطرة الذين ينشدون العتابا والمعنى والزجل.
هم الذين يغادرون لبنان وليس لهم سوى حماسة في قلوبهم وعزم في سواعدهم، ويعودون إليه وخيرات الأرض في أكفهم، وأكاليل الغار على رؤوسهم.
هم الذين يتغلبون على محيطهم أينما حلوا ويجتذبون القلوب إليهم أينما وجدوا.
وهم الذين يولدون في الأكواخ ويموتون في قصور العلم.
هؤلاء هم أبناء لبنان. هؤلاء هم السرج التي لا تطفئها الرياح، والملح الذي لا تفسده الدهور.
هؤلاء هم السائرون بأقدام ثابتة نحو الحقيقة والجمال والكمال.
وماذا عسى أن يبقى من لبنانكم وأبناء لبنانكم بعد مئة سنة؟ أخبروني، ماذا تتركون للغد سوى الدعوى والتلفيق والبلادة؟ هل تحسبون أن الزمن يحفظ في ذاكرته مظاهر الخداع والمداهنة والتدليس؟
أتظنون أن الأثير يخزن في جيوبه أشباح الموت وأنفاس القبور؟
أتتوهمون أن الحياة تستر جسدها العاري بالخرق البالية؟
أقول لكم والحق شاهد علي: إن نصبة الزيتون التي يغرسها القروي في سفح لبنان لأبقى من جميع أعمالكم ومآتيكم، والمحراث الخشبي الذي تجره العجول في منعطفات لبنان لأشرف وأنبل من كل أمانيكم ومطامحكم.
أقول لكم وضمير الوجود صاغ إلي: إن أغنية جامعة البقول بين هضبات لبنان لأطول عمرا من كل ما يقوله أوجه وأصخم ثرثار بينكم.
أقول لكم: إنكم لستم على شيء. ولو كنتم تعلمون أنكم لستم على شيء لتحول اشمئزازي منكم إلى شكل من العطف والحنان، ولكنكم لا تعلمون.
لكم لبنانكم ولي لبناني.
لكم لبنانكم وأبناء لبنانكم فاقتنعوا به وبهم، إن استطعتم الاقتناع بالفقاقيع الفارغة؛ أما أنا فمقتنع بلبناني وأبنائه، وفي اقتناعي عذوبة وسكينة وطمأنينة.
الأرض
تنبثق الأرض من الأرض كرها وقسرا.
ثم تسير الأرض فوق الأرض تيها وكبرا.
وتقيم الأرض من الأرض القصور والبروج والهياكل.
وتنشئ الأرض في الأرض الأساطير والتعاليم والشرائع.
ثم تمل الأرض أعمال الأرض فتحوك من هالات الأرض الأشباح والأوهام والأحلام.
ثم يراود نعاس الأرض أجفان الأرض فتنام نوما هادئا عميقا أبديا.
ثم تنادي الأرض قائلة للأرض: أنا الرحم، وأنا القبر وسأبقى رحما وقبرا حتى تضمحل الكواكب وتتحول الشمس إلى رماد.
بالأمس. واليوم. وغدا
قلت لصديقي: ألا فانظرها متكئة على ساعده، وبالأمس كانت على ساعدي.
فقال: وغدا على ساعدي.
قلت: تأملها جالسة إلى جانبه، وبالأمس كانت إلى جانبي.
فقال: وغدا إلى جانبي.
قلت: ألا تبصرها تشرب الخمر من كأسه، وبالأمس كانت ترشفها من كأسي؟
فقال: وغدا من كأسي.
قلت: انظر إليها ترمقه بعين ملؤها الحب، وبالأمس كانت ترمقني.
فقال: وغدا ترمقني.
قلت: اسمعها تهمس أغاني الغرام في أذنه، وبالأمس كانت تهمسها في أذني.
فقال: وغدا في أذني.
قلت: انظر فهي تعانقه، وقد كانت بالأمس تعانقني.
فقال: وغدا تعانقني.
قلت: ما أغربها امرأة!
قال: هي كالحياة يمتلكها كل البشر، وكالموت تتغلب على كل البشر، وكالأبدية تضم كل البشر.
الكمال
تسألني يا أخي متى يصير الإنسان كاملا.
فاسمع جوابي:
يسير الإنسان نحو الكمال عندما يشعر بأنه هو الفضاء ولا حد له، وهو هو البحر بدون شواطئ، وأنه النار المتأججة دائما، والنور الساطع أبدا، والرياح إذا هبت أو إذا سكنت، والسحب إذا برقت وأرعدت وأمطرت، والجداول إذا ترنمت أو ناحت، والأشجار إذا أزهرت في الربيع أو تجردت في الخريف، والجبال إذا تعالت، والأودية إذا انخفضت، والحقول إذا أخصبت أو أجدبت.
إذا شعر الإنسان بكل هذه الأمور بلغ منتصف طريق الكمال، أما إذا شاء بلوغ محجة الكمال فعليه إن شعر بكيانه، أن يشعر بأنه الطفل المتكل على أمه، والشيخ المسؤول عن عياله، والشاب الضائع بين أمانيه وغرامه، والكهل الذي يصارع ماضيه ومستقبله، والعابد في صومعته، والمجرم في سجنه، والعالم بين كتبه وأوراقه، والجاهل بين ظلمة ليله وظلمة نهاره، والراهبة بين أزهار إيمانها وأشواك وحشتها، والمومس بين أنياب ضعفها ومخالب حاجتها، والفقير بين مرارته وامتثاله، والغني بين مطامعه وإذعانه، والشاغر بين ضباب أمسائه وشعاع أسحاره.
إذا استطاع الإنسان أن يختبر ويعلم جميع هذه الأمور يصل إلى الكمال ويصير ظلا من ظلال الله.
الاستقلال والطرابيش
قرأت منذ أمد غير بعيد مقالا لأديب قام يعترض ويحتج فيه على ربان وموظفي باخرة فرنسية أقلته من سورية إلى مصر؛ ذلك لأن هؤلاء قد أجبروه، أو حاولوا إجباره على خلع طربوشه في أثناء جلوسه إلى مائدة الطعام، وكلنا يعلم أن خلع القبعات تحت كل سقف عادة مرعبة عند الغربيين.
ولقد أعجبني هذا الاحتجاج؛ لأنه أبان لي تمسك الشرقي برمز من رموز حياته الخاصة.
أعجبت بجرأة ذلك السوري كما أعجبت مرة بأمير هندي دعوته إلى حضور رواية غنائية في مدينة ميلانو في إيطاليا فقال لي: لو دعوتني إلى زيارة جحيم دانتي لذهبت معك مسرورا، ولكني لا أستطيع الجلوس في مكان يحظرون فيه علي استبقاء عمامتي وتدخين اللفائف.
أجل يعجبني أن أرى الشرقي متمسكا ببعض مزاعمه قابضا ولو على ظل من ظلال عاداته القومية.
ولكن إعجابي هذا لا ولن يمحو ما وراءه من الحقائق الخشنة المستتبة المتشبثة بذاتية الشرق ومنازع الشرق ومزاعم الشرق.
لو فكر ذلك الأديب الذي استصعب خلع طربوشه في الباخرة الإفرنجية بأن ذلك الطربوش الشريف قد صنع في معمل إفرنجي، لهان عليه خلعه في أي مكان في أية باخرة إفرنجية.
لو فكر أديبنا بأن الاستقلال الشخصي في الأمور الصغيرة كان وسيكون رهن الاستقلال الفني والاستقلال الصناعي، وهما كبيران، لخلع طربوشه ممتثلا صامتا .
لو فكر صاحبنا بأن الأمة المستعبدة بروحها وعقليتها لا تستطيع أن تكون حرة بملابسها وعاداتها.
لو فكر بذلك لما كتب مقاله معترضا.
لو فكر أديبنا بأن جده السوري كان يبحر إلى مصر على ظهر مركب سوري مرتديا ثوبا غزلته وحاكته وخاطته الأيدي السورية، لما تردى بطلنا الحر إلا بالملابس المصنوعة في بلاده، ولما ركب سوى سفينة سورية ذات ربان سوري وبحارة سوريين.
مصاب أديبنا الشجاع أنه قد اعترض على النتائج ولم يحفل بالأسباب، فتناولته الأعراض قبل أن يستميله الجوهر. وهذا شأن أكثر الشرقيين الذين يأبون أن يكونوا شرقيين إلا بتوافه الأمور وصغائرها، مع أنهم يفاخرون بما اقتبسوه من الغربيين مما ليس بتافه أو صغير.
أقول لأديبنا وأقول لجميع المتطربشين: ألا فاصنعوا طرابيشكم بيدكم، ثم تخيروا في ما تفعلونه بطرابيشكم على ظهر الباخرة أو على قمة الجبل أو في جوف الوادي.
وتعلم السماء أن هذه الكلمة لم تكتب في الطرابيش أو في شأن خلعها أو استبقائها على الرؤوس تحت السقوف أو تحت المجرة، تعلم السماء أنها كتبت في أمر أبعد من كل طربوش، فوق كل رأس، فوق كل جثة مختلجة.
أيتها الأرض
ما أجملك أيتها الأرض وما أبهاك.
ما أتم امتثالك للنور وأنبل خضوعك للشمس.
ما أظرفك متشحة بالظل وما أملح وجهك مقنعا بالدجى.
ما أعذب أغاني فجرك وما أهول تهاليل مسائك.
ما أكملك أيتها الأرض وما أسناك.
لقد سرت في سهولك، وصعدت على جبالك، وهبطت إلى أوديتك، وتسلقت صخورك، ودخلت كهوفك، فعرفت حلمك في السهل، وأنفتك على الجبل، وهدوءك في الوادي، وعزمك في الصخر، وتكتمك في الكهف، فأنت أنت المنبسطة بقوتها، المتعالية بتواضعها، المنخفضة بعلوها، اللينة بصلابتها، الواضحة بأسرارها ومكنوناتها.
لقد ركبت بحارك، وخضت أنهارك، وتتبعت جداولك، فسمعت الأبدية تتكلم بمدك وجزرك، والدهور تترنم بين هضابك وحزونك، والحياة تناجي الحياة في شعبك ومنحدراتك، فأنت أنت لسان الأبدية وشفاهها، وأوتار الدهور وأصابعها، وفكرة الحياة وبيانها.
لقد أيقظني ربيعك وسيرني إلى غاباتك حيث تتصاعد أنفاسك بخورا، وأجلسني صيفك في حقولك حيث يتجوهر إجهادك أثمارا، وأوقفني خريفك في كرومك حيث يسيل دمك خمرا، وقادني شتاؤك إلى مضجعك حيث يتناثر طهرك ثلجا، فأنت أنت العطرة بربيعها، الجوادة بصيفها، الفياضة بخريفها، النقية بشتائها.
وفي الليلة الصافية قد فتحت نوافذ نفسي وأبوابها وخرجت إليك مثقلا بمطامعي، مكبلا بقيود أنانيتي، فألفيتك شاخصة بالكواكب وهي تبتسم لك، فنزعت عني قيودي وأثقالي، وعلمت أن منزل النفس فضاؤك، ورغائبها في رغائبك، وسلامتها في سلامتك، وسعادتها في الغبار الذهبي الذي تنثره النجوم على جسدك.
في الليلة المبطنة بالغيوم، وقد مللت غفلتي وجمودي، خرجت إليك فوجدتك جبارة هائلة مسلحة بالعاصفة، تحاربين ماضيك بحاضرك، وتصرعين قديمك بجديدك، وتبعثرين ضئيلك بضليعك، فعلمت أن نظام البشر نظامك، وناموسهم ناموسك، وسنتهم سنتك، وأن من لا يهصر برياحه ما يبس من أغصانه يموت مللا، ومن لا يمزق بثوراته ما بلى من أوراقه يفنى خمولا، ومن لا يكفن بنسيان ما مات من ماضيه كان هو كفنا لمآتي الماضي.
ما أكرمك أيتها الأرض وما أطول أناتك.
ما أشد حنانك على أبنائك المنصرفين عن حقيقتهم إلى أوهامهم، الضائعين بين ما بلغوا إليه وما قصروا عنه.
نحن نضج، وأنت تضحكين.
نحن نذنب، وأنت تكفرين.
نحن نجدف، وأنت تباركين.
نحن ننجس، وأنت تقدسين.
نحن نهجع ولا نحلم، وأنت تحلمين في سهرك السرمدي.
نحن نكلم صدرك بالسيوف والرماح، وأنت تغمرين كلومنا بالزيت والبلسم.
نحن نزرع راحاتك العظام والجماجم، وأنت تستنبتينها حورا وصفصافا.
نحن نستودعك الجيف، وأنت تملئين بيادرنا بالأغمار، ومعاصرنا بالعناقيد.
نحن نصبغ وجهك بالدم، وأنت تغسلين وجوهنا بالكوثر.
نحن نتناول عناصرك لنصنع منها المدافع والقذائف، وأنت تتناولين عناصرنا وتكونين منها الورود والزنابق.
ما أوسع صبرك أيتها الأرض وما أكثر انعطافك.
ما أنت أيتها الأرض ومن أنت؟
أذرة من الغبار تصاعدت من بين قدمي الله عندما سار من مشارق الأكوان إلى مغاربها، أم شرارة قذفت من موقد اللا نهاية؟
أنواة طرحت في حقل الأثير لتشق قشرتها بعزم لبابها، وتتعالى نصبة ربانية إلى ما فوق الأثير؟
أقطرة من الدم في عروق جبار الجبابرة، أم أنت قطرة من العرق على جبينه؟
أثمرة تلوحها الشمس ببطء؟ أثمرة أنت في شجرة المعرفة الكلية التي تمد عروقها في أعماق الأزل وترفع غصونها إلى أعماق الأبد؟ أم جوهرة أنت وضعها إله الزمن في حفنة آلهة المسافة؟ أطفلة أنت في حضن الفضاء؟ أم عجوز ترقب الأيام والليالي وقد شبعت من حكمة الليالي والأيام؟
ما أنت أيتها الأرض ومن أنت؟
أنت أنا أيتها الأرض! أنت بصري وبصيرتي، أنت عاقلتي وخيالي وأحلامي، أنت جوعي وعطشي، أنت ألمي وسروري، أنت غفلتي وانتباهي.
أنت الجمال في عيني، والشوق في قلبي، والخلود في روحي.
أنت أنا أيتها الأرض، فلو لم أكن لما كنت.
البحر الأعظم
بالأمس - وما أبعد الأمس وما أقربه! - ذهبت ونفسي إلى البحر الأعظم لنغسل بمائه ما علق بنا من غبار الأرض وأوحالها.
ولما بلغنا الشاطئ طفقنا نبحث مكان خال يحجبنا عن العيون.
وبينما نحن سائران التفتنا فإذا برجل جالس على صخرة غبراء وفي يده كيس يأخذ منه الملح قبضة بعد قبضة ويطرحها في البحر.
فقالت لي نفسي: هو ذا المتشائم الذي لا يرى من الحياة سوى ظلها، وليس المتشائم بخليق أن يرى جسدينا العاريين، فلنغادر هذا المكان إذ لا سبيل إلى الاستحمام ها هنا.
فتركنا ذلك المكان وتابعنا المسير حتى وصلنا إلى خور في الشاطئ، فإذا برجل واقف على صخرة بيضاء وفي يده صندوقة مرصعة بالجواهر وهو يتناول منها قطعا من السكر ويرمي بها في البحر.
فقالت لي نفسي: «هو ذا المتفائل الذي يستبشر بما لا بشر فيه، وحذار من المتفائلين أن يروا جسدينا العاريين».
فعدنا نواصل السير حتى عثرنا على رجل واقف بقرب الشاطئ يلتقط الأسماك الميتة ويعيدها بحنو إلى البحر.
فقالت لي نفسي: «وهذا هو الشفوق الذي يحاول إرجاع الحياة لمن في القبور، فلنبتعد عنه».
ثم انتهينا إلى حيث رأينا رجلا يرسم خياله على الرمال فتجيء الأمواج وتمحو ما رسمه وهو يتابع عمله المرة بعد الأخرى.
فقالت لي نفسي: «هو ذا المتصوف الذي يقيم في أوهامه صنما ليعبده، فلندعه وشأنه ».
ومشينا إلى أن أبصرنا في خليج هادئ رجلا يكشط الزبد عن سطح الماء ويضعه في إناء من العقيق.
فقالت لي نفسي: «هو ذا الخيالي الذي يحوك من خيوط العنكبوت رداء ليلبسه، وهو ليس بجدير أن يرى جسدينا عاريين».
فتابعنا السير وإذا بنا نسمع صوتا هاتفا: «هو ذا البحر العميق، هو ذا البحر الهائل العظيم».
فبحثنا عن مصدر الصوت فرأينا رجلا واقفا مديرا ظهره إلى البحر وقد وضع صدفة على أذنه وهو يصغي إلى دمدمتها.
فقالت لي نفسي: «سر بنا فهذا هو الدهري الذي يدير ظهره إلى كليات لا يستطيع الإحاطة بها، ويشغل ذاته بجزئيات تستميل كليته».
فسرنا إلى أن رأينا في معشبة رجلا بين الصخور وقد دفن رأسه في الرمال.
فقلت لنفسي: «هلمي يا نفس نستحم ها هنا، فهذا الرجل لا يستطيع أن يبصرنا».
فهزت نفسي رأسها قائلة: «لا وألف لا، إن من تراه هو شر الناس أجمعهم؛ هو التقي النقي الذي يحجب نفسه عن مأساة الحياة، فتحجب الحياة مسراتها عن نفسه».
حينئذ ظهر على وجه نفسي حزن عميق، وبصوت تقطعه المرارة قالت: «لنذهبن من هذه الشواطئ. فليس هنا مكان خفي محجوب نستطيع أن نستحم به. وأنا لا أرضى أن أسرح غدائري الذهبية في هذه الريح، أو أن أكشف صدري البض أمام هذا الفضاء، أو أن أتجرد وأقف عارية أمام هذا النور».
فغادرت ونفسي ذلك البحر العظيم، وسرنا ننشد البحر الأعظم.
في سنة لم تكن قط في التاريخ
... في تلك الدقيقة ظهرت من وراء أشجار الصفصاف صبية تجر أذيالها على الأعشاب ووقفت بجانب الفتى النائم ووضعت يدها الحريرية على رأسه فنظر إليها نظرة نائم أيقظه شعاع الشمس، فرأى ابنة الأمير واقفة حذاءه فجثا على ركبتيه مثلما فعل موسى عندما رأى العليقة مشتعلة، ولما أراد الكلام أرتج عليه فنابت عيناه الطافحتان بالدمع عن لسانه.
ثم عانقته الصبية وقبلت شفتيه، وقبلت عينيه راشفة المدامع السخينة وقالت بصوت ألطف من نغمة الناي: قد رأيتك، يا حبيبي، في أحلامي ونظرت وجهك في وحدتي وانقطاعي ، فأنت رفيق نفسي الذي فقدته، ونصفي الجميل الذي انفصلت عنه عندما حكم علي بالمجيء إلى هذا العالم، قد جئت سرا يا حبيبي لألتقيك، وها أنت الآن بين ذراعي فلا تجزع. قد تركت مجد والدي لأتبعك إلى أقاصي الأرض وأشرب معك كأس الحياة والموت.
قم، يا حبيبي، فنذهب إلى البرية البعيدة عن الإنسان.
ومشى الحبيبان بين الأشجار تخفيهما ستائر الليل، ولا يخفيهما بطش الأمير ولا أشباح الظلمة.
ابن سينا وقصيدته
ليس بين ما نظمه الأقدمون قصيدة أدنى إلى معتقدي وأقرب إلى ميولي النفسية من قصيدة ابن سينا في النفس.
في هذه القصيدة النبيلة قد وضع «الشيخ الرئيس» أبعد ما يراود فكرة الإنسان، وأعمق ما يلازم خياله من الأماني التي تولدها المعرفة، والسؤالات التي يثمرها الرجاء، والنظريات التي لا تصدر إلا عن التفكر المستمر والتأملات الطويلة.
وليس من الغرائب صدور هذه القصيدة عن وجدان ابن سينا وهو نابغة زمانه، ولكن، من الغرائب أن تكون مظهرا لرجل صرف عمره مستقصيا أسرار الأجسام ومزايا الهيولي، فكأني به قد بلغ خفايا الروح عن طريق المادة، وأدرك مكنونات المعقولات بواسطة المرئيات، فجاءت قصيدته هذه برهانا نيرا على أن العلم هو حياة العقل يتدرج بصاحبه من الاختبارات العملية إلى النظريات العقلية، إلى الشعور الروحي، إلى الله.
قد يجد المطالع في ما نظمه كبار شعراء الغربيين مقاطع متفرقة تذكره بهذه القصيدة السامية. ففي روايات شكسبير الخالدة أبيات لا تختلف بمعانيها عن قول ابن سينا:
وصلت على كره إليك وربما
كرهت فراقك وهي ذات تفجع
وفي أقوال تشلي ما يماثل:
سجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت
ما ليس يدرك بالعيون الهجع
وفي تأملات غوتي ما يضارع:
وتعود عالمة بكل خفية
في العالمين، فخرقها لم يرقع
وفي ما قاله براونن ما يضاهي:
فكأنها برق تألق بالحمى
ثم انطوى فكأنه لم يلمع
ولكن «الشيخ الرئيس» قد تقدم جميع هؤلاء بقرون عديدة. فوضع في قصيدة واحدة ما هبط بصور متقطعة على أفكار مختلفة في أزمنة مختلفة. وهذا ما يجعله نابغة لعصره وللعصور التي جاءت بعده، ويجعل قصيدته في النفس أبعد وأشرف ما نظم في أشرف وأبعد موضوع.
الغزالي
بين الغزالي والقديس أوغوسطينوس رابطة نفسية، فهما منظران متشابهان لمبدأ واحد، رغم ما بين زمانيهما ومحيطيهما من الاختلافات المذهبية والاجتماعية. أما ذلك المبدأ فهو ميل وضعي في داخل النفس يتدرج بصاحبه من المرئيات وظواهرها إلى المعقولات فالفلسفة فالإلهيات.
اعتزل الغزالي الدنيا وما كان له فيها من الرخاء والمقام الرفيع، وانفرد وحده متصوفا، متوغلا في البحث عن تلك الخيوط الدقيقة التي تصل أواخر العلم بأوائل الدين، متعمقا في التفتيش عن ذلك الإناء الخفي الذي تمتزج فيه مدارك الناس واختباراتهم بعواطف الناس وأحلامهم.
وهكذا فعل أوغسطينوس قبله بخمسة أجيال. فمن يقرأ له كتاب «الاعتراف» يرى أنه قد اتخذ الأرض ومآتيها سلما يصعد عليه نحو ضمير الوجود الأعلى.
غير أنني وجدت الغزالي أقرب إلى جواهر الأمور وأسرارها من القديس أوغسطينوس. وقد يكون سبب ذلك في الفرق الكائن بين ما ورثه الأول من النظريات العلمية العربية واليونانية التي تقدمت زمانه، وما ورثه الثاني من علم اللاهوت الذي كان يشغل آباء الكنيسة في القرنين الثاني والثالث للمسيح، وأعني بالوراثة ذلك الأمر الذي ينتقل مع الأيام من فكر إلى فكر مثلما تلازم بعض المزايا الجسدية مظاهر الشعوب من عصر إلى عصر.
ووجدت في الغزالي ما يجعله حلقة ذهبية موصلة بين الذين تقدموه من متصوفي الهند والذين جاؤوا بعده من الإلهيين. ففي ما بلغت إليه أفكار البوذيين قديما شيء من ميول الغزالي، وفي ما كتبه سبينوزا ووليم بلايك حديثا شيء من عواطفه.
وللغزالي عند مستشرقي الغرب وعلمائه منزلة رفيعة، وهم يضعونه مع ابن سينا وابن رشد في المقام الأول بين فلاسفة الشرق. أما الروحيون بينهم فيحسبونه أنبل وأسمى فكرة ظهرت في الإسلام. ومن الغرائب أنني شاهدت على جدران كنيسة في فلورنسا (إيطاليا) من بناء الجيل الخامس عشر صورة الغزالي بين صور غيره من الفلاسفة والقديسين واللاهوتيين الذين تعتبرهم أئمة الكنيسة في الأجيال الوسطى دعائم وأعمدة في هيكل الروح المطلق.
ولكن الأغرب من ذلك هو أن الغربيين يعرفون عن الغزالي أكثر مما يعرفه الشرقيون، فهم يترجمونه ويبحثون في تعاليمه ويدققون النظر في منازعه الفلسفية ومراميه الصوفية. أما نحن، نحن الذين لم نزل نتكلم اللغة العربية ونكتبها، فقلما ذكرنا الغزالي أو تحدثنا عنه، نحن لم نزل مشغولين بالأصداف كأن الأصداف هي كل ما يخرج من بحر الحياة إلى شواطئ الأيام والليالي.
جرجي زيدان
لقد مات زيدان، وممات زيدان عظيم كحياته، جليل كأعماله.
لقد رقدت تلك الفكرة الكبيرة وحول مضجعها تحوم الآن سكينة توحي الهيبة والوقار وترتفع عن الحزن والبكاء.
قد تملصت تلك الروح الطيبة ورحلت إلى عالم نشعر به ولا ندركه، وفي رحيلها عظة للباقين في قبضة الأيام والليالي.
قد تحرر ذلك الوجدان النبيل من متاعب العمل ومشاقه وسار ملتفا برداء مجده إلى حيث يتسامى العمل عن المشاق والمتاعب. قد ذهب زيدان إلى حيث لا تراه العين ولا تسمعه الأذن.
ولكن، إذا كان زيدان قد انتقل إلى إحدى السيارات السابحة في بحر اللانهاية، فهو الآن مشغول بنفع سكانها، منهمك بجمع معارفها، مأخوذ بجمال تاريخها، منصب على درس لغاتها.
هذا هو زيدان: فكرة متحمسة لا ترتاح إلا إلى العمل، وروح ظامئة لا تنام إلا على منكبي اليقظة، وقلب كبير مفعم بالرقة والغيرة. فإذا كانت تلك الفكرة لا تزال كائنة بكيان العقل العام فهي تشتغل الآن مع العقل العام. وإذا كانت تلك الروح موجودة بوجود النواميس فهي تعمل الآن مع النواميس. وإذا كان ذلك القلب باقيا ببقاء الله فهو الآن ملتهب بشعلة الله.
هذه هي حياة زيدان: ينبوع تدفق من صدر الوجود وصار نهرا صافيا يروي ما على جانبي الوادي من النبات والأنصاب.
وها قد بلغ النهر شاطئ البحر فأي متطفل، يا ترى، يجسر أن يندبه أو يرثيه؟ أوليس الندب والنواح خليقين بالذين يقفون أمام عرش الحياة، ثم ينصرفون قبل أن يسكبوا في راحتيها قطرة من عرق جبينهم أو دم قلوبهم؟ أولم يصرف زيدان ثلاثين سنة مذيبا قلبه مستقطرا جبينه؟ وهل بيننا من لم يستق من تلك المجاري البلورية العذبة؟
إذا فمن شاء أن يكرم زيدان فليرفع نحو روحه ترنيمة الشكر وعرفان الجميل بدلا من ندبات الحزن والأسى.
من شاء أن يكرم ذكر زيدان فليطلب قسمته من خزائن المعارف والمدارك التي جمعها زيدان وتركها إرثا للعالم العربي.
لا تعطوا الرجل الكبير بل خذوا منه، وهكذا تكرمونه.
لا تعطوا زيدان ندبا ورثاء، بل خذوا من مواهبه وعطاياه، وهكذا تخلدون ذكره.
مستقبل اللغة العربية
أولا: ما هو مستقبل اللغة العربية؟
إنما اللغة مظهر من مظاهر الابتكار في مجموع الأمة، أو ذاتها العامة، فإذا هجعت قوة الابتكار توقفت اللغة عن مسيرها، وفي الوقوف التقهقر، وفي التقهقر الموت والاندثار.
إذا فمستقبل اللغة العربية يتوقف على مستقبل الفكر المبدع الكائن - أو غير الكائن - في مجموع الأمم التي تتكلم اللغة العربية. فإن كان ذلك الفكر موجودا كان مستقبل اللغة عظيما كماضيها، وإن كان غير موجود فمستقبلها سيكون كحاضر شقيقتها السريانية والعبرانية.
وما هذه القوة التي ندعوها بقوة الابتكار؟
هي في الأمة عزم دافع إلى الأمام. هي في قلبها جوع وعطش وشوق إلى غير المعروف، وفي روحها سلسلة أحلام تسعى إلى تحقيقها ليلا ونهارا، ولكنها لا تحقق حلقة من أحد طرفيها إلا أضافت الحياة حلقة جديدة في الطرف الآخر. هي في الأفراد النبوغ وفي الجماعة الحماسة، وما النبوغ في الأفراد سوى المقدرة على وضع ميول الجماعة الخفية في أشكال ظاهرة محسوسة. ففي الجاهلية كان الشاعر يتأهب لأن العرب كانوا في حالة التأهب، وكان ينمو ويتمدد أيام المخضرمين لأن العرب كانوا في حالة النمو والتمدد، وكان يتشعب أيام المولدين لأن الأمة الإسلامية كانت في حالة التشعب. وظل الشاعر يتدرج ويتصاعد ويتلون فيظهر آنا كفيلسوف، وآونة كطبيب، وأخرى كفلكي، حتى راود النعاس قوة الابتكار في اللغة العربية فنامت وبنومها تحول الشعراء إلى ناظمين، والفلاسفة إلى كلاميين، والأطباء إلى دجالين، والفلكيون إلى منجمين.
إذا صح ما تقدم كان مستقبل اللغة العربية رهن قوة الابتكار في مجموع الأمم التي تتكلمها، فإن كان لتلك الأمم ذات خاصة أو وحدة معنوية وكانت قوة الابتكار في تلك الذات قد استيقظت بعد نومها الطويل كان مستقبل اللغة العربية عظيما كماضيها، وإلا فلا.
ثانيا: وما عسى أن يكون تأثير التمدين الأوروبي، والروح الغربية فيها؟
إنما التأثير شكل من الطعام تتناوله اللغة من خارجها فتمضغه وتبتلعه وتحول الصالح منه إلى كيانها الحي كما تحول الشجرة النور والهواء وعناصر التراب إلى أفنان فأوراق فأزهار فأثمار. ولكن إذا كانت اللغة بدون أضراس تقضم ولا معدة تهضم، فالطعام يذهب سدى بل ينقلب سما قاتلا. وكم من شجرة تحتال على الحياة وهي في الظل فإذا ما نقلت إلى نور الشمس ذبلت وماتت. وقد جاء: من له يعطى ويزاد ومن ليس له يؤخذ منه.
وأما الروح الغربية فهي دور من أدوار الإنسان وفصل من فصول حياته. وحياة الإنسان موكب هائل يسير دائما إلى الأمام، ومن ذلك الغبار الذهبي المتصاعد من جوانب طريقه تتكون اللغات والحكومات والمذاهب، فالأمم التي تسير في مقدمة هذا الموكب هي المبتكرة، والمبتكر مؤثر؛ والأمم التي تمشي في مؤخرته هي المقلدة، والمقلد يتأثر. فلما كان الشرقيون سابقين والغربيون لاحقين كان لمدنيتنا التأثير العظيم في لغاتهم. وها قد أصبحوا هم السابقين وأمسينا نحن اللاحقين، فصارت مدنيتهم، بحكم الطبع، ذات تأثير عظيم في لغتنا وأفكارنا وأخلاقنا.
بيد أن الغربيين كانوا في الماضي يتناولون ما نطبخه فيمضغونه ويبتلعونه محولين الصالح منه إلى كيانهم الغربي، أما الشرقيون في الوقت الحاضر فيتناولون ما يطبخه الغربيون ويبتلعونه، ولكنه لا يتحول إلى كيانهم، بل يحولهم إلى شبه غربيين، وهي حالة أخشاها وأتبرم منها؛ لأنها تبين لي الشرق تارة كعجوز فقد أضراسه وطورا كطفل بدون أضراس!
إن روح الغرب صديق وعدو لنا؛ صديق إذا تمكنا منه وعدو إذا وهبنا له قلوبنا، صديق إذا أخذنا منه ما يوافقنا وعدو إذا وضعنا نفوسنا في الحالة التي توافقه.
ثالثا: وما يكون تأثير التطور السياسي الحاضر في الأقطار العربية؟
قد أجمع الكتاب والمفكرون في الغرب والشرق على أن الأقطار العربية في حالة التشويش السياسي والإداري والنفسي، ولقد اتفق أكثرهم على أن التشويش مجلبة الخراب والاضمحلال.
أما أنا فأسأل: هل هو تشويش أم ملل؟
إن كان مللا فالملل نهاية كل أمة وخاتمة كل شعب، الملل هو الاحتضار في صورة النعاس، والموت في شكل النوم.
وإن كان بالحقيقة تشويشا فالتشويش في شرعي ينفع دائما لأنه يبين ما كان خافيا في روح الأمة ويبدل نشوتها بالصحو وغيبوبتها باليقظة، ونظير عاصفة تهز بعزمها الأشجار لا لتقلعها، بل لتكسر أغصانها اليابسة وتبعثر أوراقها الصفراء. وإذا ما ظهر التشويش في أمة لم تزل على شيء من الفطرة، فهو أوضح دليل على وجود قوة الابتكار في أفرادها، والاستعداد في مجموعها. إنما السديم أول كلمة من كتاب الحياة وليس بآخر كلمة منها، وما السديم سوى حياة مشوشة.
إذا فتأثير التطور السياسي سيحول ما في الأقطار العربية من التشويش إلى نظام، وما في داخلها من الغموض والإشكال إلى ترتيب وألفة، ولكنه لا ولن يبدل مللها بالوجد وضجرها بالحماسة. إن الخزاف يستطيع أن يصنع من الطين جرة للخمر أو للخل، ولكنه لا يقدر أن يصنع شيئا من الرمل والحصى.
رابعا: هل يعم انتشار اللغة العربية في المدارس العالية وغير العالية وتعلم بها جميع العلوم؟
لا يعم انتشار اللغة في المدارس العالية وغير العالية حتى تصبح تلك المدارس ذات صبغة وطنية مجردة. ولن تعلم بها جميع العلوم حتى تنتقل المدارس من أيدي الجمعيات الخيرية واللجان الطائفية والبعثات الدينية إلى أيدي الحكومات المحلية.
ففي سوريا مثلا كان التعليم يأتينا من الغرب بشكل الصدقة، وقد كنا ولم نزل نلتهم خبز الصدقة؛ لأننا جياع متضورون، ولقد أحيانا ذلك الخبز، ولما أحيانا أماتنا؛ أحيانا لأنه أيقظ جميع مداركنا ونبه عقولنا قليلا؛ وأماتنا لأنه فرق كلمتنا وأضعف وحدتنا وقطع روابطنا وأبعد ما بين طوائفنا حتى أصبحت بلادنا مجموعة مستعمرات صغيرة مختلفة الأذواق متضاربة المشارب، كل مستعمرة منها تشد في حبل إحدى الأمم الغربية وترفع لواءها وتترنم بمحاسنها وأمجادها.
فالشاب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أميركية قد تحول بالطبع إلى معتمد أميركي ، والشاب الذي تجرع رشفة من العلم في مدرسة يسوعية صار سفيرا فرنسيا، والشاب الذي لبس قميصا من نسيج مدرسة روسية أصبح ممثلا لروسيا ... إلى آخر ما هناك من المدارس وما تخرجه في كل عام من الممثلين والمعتمدين والسفراء. وأعظم دليل على ما تقدم اختلاف الآراء وتباين المنازع في الوقت الحاضر في مستقبل سوريا السياسي.
فالذين درسوا بعض العلوم باللغة الانكليزية يريدون أميركا أو انكلترا وصية على بلادهم؛ والذين درسوها باللغة الفرنسية يطلبون فرنسا أن تتولى أمرهم؛ والذين لم يدرسوا بهذه اللغة أو بتلك لا يريدون هذه الدولة ولا تلك، بل يتبعون سياسة أدنى إلى معارفهم وأقرب إلى مداركهم.
وقد يكون ميلنا السياسي إلى الأمة التي نتعلم على نفقتها دليلا على عاطفة عرفان الجميل في نفوس الشرقيين، ولكن، ما هذه العاطفة التي تبني حجرا من جهة واحدة وتهدم جدارا من الجهة الأخرى؟ ما هذه العاطفة التي تستنبت زهرة وتقتلع غابة؟ ما هذه العاطفة التي تحيينا يوما وتميتنا دهرا؟
إن المحسنين الحقيقيين وأصحاب الأريحية في الغرب لم يضعوا الشوك والحسك في الخبز الذي بعثوا به إلينا، فهم بالطبع قد حاولوا نفعنا لا الضرر بنا. ولكن، كيف تولد ذلك الشوك ومن أين أتى ذلك الحسك؟ هذا بحث آخر أتركه إلى فرصة أخرى.
نعم، سوف يعم انتشار اللغة العربية في المدارس العالية وغير العالية، وتعلم بها جميع العلوم فتتوحد ميولنا السياسية وتتبلور منازعنا القومية؛ لأن في المدرسة تتوحد الميول، وفي المدرسة تتجوهر المنازع. ولكن، لا يتم هذا حتى يصير بإمكاننا تعليم الناشئة على نفقة الأمة. لا يتم هذا حتى يصير الواحد منا ابنا لوطن واحد بدلا من وطنين متناقضين أحدهما لجسده والآخر لروحه. لا يتم هذا حتى نستبدل خبز الصدقة بخبز معجون في بيتنا؛ لأن المتسول المحتاج لا يستطيع أن يشترط على المتصدق الأريحي، ومن يضع نفسه في منزلة الموهوب لا يستطيع معارضة الواهب، فالموهوب مسير دائما والواهب مخير أبدا.
خامسا: وهل تتغلب (اللغة العربية الفصحى) على اللهجات العامية المختلفة وتوحدها؟
إن اللهجات العامية تتحور وتتهذب ويدلك الخشن فيها فيلين؛ ولكنها لا ولن تغلب - ويجب ألا تغلب - لأنها مصدر ما ندعوه فصيحا من الكلام ومنبت ما نعده بليغا من البيان.
إن اللغات تتبع، مثل كل شيء آخر، سنة بقاء الأنسب، وفي اللهجات العامية الشيء الكثير من الأنسب الذي سيبقى؛ لأنه أقرب إلى فكرة الأمة وأدنى إلى مرامي ذاتها العامة. قلت: إنه سيبقى وأعني بذلك أنه سيلتحم بجسم اللغة ويصير جزءا من مجموعها.
لكل لغة من لغات الغرب لهجات عامية، ولتلك اللهجات مظاهر أدبية وفنية لا تخلو من الجميل المرغوب والجديد المبتكر، بل في أوروبا وأميركا طائفة من الشعراء والموهوبين الذين تمكنوا من التوفيق بين العامي والفصيح في قصائدهم وموشحاتهم، فجاءت بليغة ومؤثرة. وعندي أن في «الموال و«الزجل» و«العتابا» و«المعنى» من الكنايات المستجدة والاستعارات المستملحة والتعابير الرشيقة المستنبطة ما لو وضعناه بجانب تلك القصائد المنظومة بلغة فصيحة، والتي تملأ جرائدنا ومجلاتنا، لبانت كباقة من الرياحين بقرب رابية من الحطب، أو كسرب من الصبايا الراقصات المترنمات قبالة مجموعة من الجثث المحنطة.
لقد كانت اللغة الإيطالية الحديثة لهجة عامية في القرون المتوسطة، وكان الخاصة يدعونها بلغة «الهمج»، ولكن، لما نظم بها دانتي وبتراك وكامونس وفرانسيس داسيزي، قصائدهم وموشحاتهم الخالدة، أصبحت تلك اللهجة لغة إيطاليا الفصحى، وصارت اللاتينية بعد ذلك هيكلا يسير ولكن في نعش على أكتاف الرجعيين. وليست اللهجات العامية في مصر وسوريا والعراق أبعد عن لغة المعري والمتنبي من لهجة «الهمج» الإيطالية عن لغة أوفيدي وفرجيل. فإذا ما ظهر في الشرق الأدنى عظيم ووضع كتابا عظيما في إحدى تلك اللهجات، تحولت هذه إلى لغة فصحى. بيد أني أستبعد حدوث ذلك في الأقطار العربية؛ لأن الشرقيين أشد ميلا إلى الماضي منهم إلى الحاضر أو المستقبل، فهم المحافظون، على معرفة منهم أو على غير معرفة، فإن قام كبير بينهم لزم في إظهار مواهبه السبل البيانية التي سار عليها الأقدمون، وما سبل الأقدمين سوى أقصر الطرقات بين مهد الفكر ولحده.
سادسا: وما هي خير الوسائل لإحياء اللغة العربية؟
إن خير الوسائل، بل الوسيلة الوحيدة لإحياء اللغة هي في قلب الشاعر وعلى شفتيه وبين أصابعه. فالشاعر هو الوسيط بين قوة الابتكار والبشر، وهو السلك الذي ينقل ما يحدثه عالم النفس إلى عالم البحث، وما يقرره عالم الفكر إلى عالم الحفظ والتدوين.
الشاعر أبو اللغة وأمها، تسير حيثما يسير وتربض أينما يربض، وإذا ما قضى جلست على قبره باكية منتحبة حتى يمر بها شاعر آخر ويأخذ بيدها. وإذا كان الشاعر أبا اللغة وأمها فالمقلد ناسج كفنها وحافر قبرها.
أعني بالشاعر كل مخترع، كبيرا كان أو صغيرا، وكل مكتشف، قويا كان أو ضعيفا، وكل مختلق عظيما كان أو حقيرا، وكل محب للحياة المجردة، إماما كان أو صعلوكا، وكل من يقف متهيبا أمام الأيام والليالي، فليسوفا كان أو ناطورا للكروم.
أما المقلد فهو الذي لا يكتشف شيئا ولا يختلق أمرا، بل يستمد حياته النفسية من معاصريه ويصنع أثوابه المعنوية من رقع يجزها من أثواب من تقدمه.
أعني بالشاعر ذلك الزارع الذي يفلح حقله بمحراث يختلف ولو قليلا عن المحراث الذي ورثه عن أبيه، فيجيء بعده من يدعو المحراث الجديد باسم جديد، وذلك البستاني الذي يستنبت بين الزهرة الصفراء والزهرة الحمراء زهرة ثالثة برتقالية اللون، فيأتي بعده من يدعو الزهرة الجديدة باسم جديد؛ وذلك الحائك الذي ينسج على نوله نسيجا ذا رسوم وخطوط تختلف عن الأقمشة التي يصنعها جيرانه الحائكون، فيقوم من يدعو نسيجه هذا باسم جديد. أعني بالشاعر الملاح الذي يرفع لسفينة ذات شراعين شراعا ثالثا؛ والبناء الذي يبني بيتا ذا بابين ونافذتين بين بيوت كلها ذات باب واحد ونافذة واحدة؛ والصباغ الذي يمزج الألوان التي لم يمزجها أحد قبله فيستخرج لونا جديدا، فيأتي بعد الملاح والبناء والصباغ من يدعو ثمار أعمالهم بأسماء جديدة، فيضيف بذلك شراعا إلى سفينة اللغة ونافذة إلى بيت اللغة ولونا إلى ثوب اللغة.
أما المقلد فهو ذاك الذي يسير من مكان إلى مكان على الطريق التي سار عليها ألف قافلة وقافلة لا يحيد عنها مخافة أن يتيه ويضيع؛ ذاك الذي يتبع بمعيشته وكسب رزقه ومأكله ومشربه وملبسه، تلك السبل المطروقة التي مشى عليها ألف جيل وجيل، فتظل حياته كرجع الصدى، ويبقى كيانه كظل ضئيل لحقيقة قصية لا يعرف عنها شيئا ولا يريد أن يعرف.
أعني بالشاعر ذلك المتعبد الذي يدخل هيكل نفسه فيجثو باكيا فرحا نادبا مهللا مصغيا مناجيا، ثم يخرج وبين شفتيه ولسانه أسماء وأفعال وحروف واشتقاقات جديدة لأشكال عبادته التي تتجدد في كل يوم، وأنواع انجذابه التي تتغير في كل ليلة فيضيف بعمله هذا وترا فضيا إلى قيثارة اللغة وعودا طيبا إلى موقدها.
أما المقلد فهو الذي يردد صلاة المصلين وابتهال المبتهلين بدون إرادة ولا عاطفة، فيترك اللغة حيث يجدها والبيان الشخصي حيث لا بيان ولا شخصية.
أعني بالشاعر ذاك الذي إن أحب امرأة انفردت روحه، وتنحت عن سبل البشر لتلبس أحلامها أجسادا من بهجة النهار وهول الليل وولولة العواصف وسكينة الأودية، ثم عادت لتضفر من اختباراتها إكليلا لرأس اللغة وتصوغ من اقتناعها قلادة لعنق اللغة.
أما المقلد فمقلد حتى في حبه وغزله وتشبيبه، فإن ذكر وجه حبيبته وعنقها قال: بدر وغزال، وإن خطر على باله شعرها وقدها ولحظها قال: ليل وغصن بان وسهام، وإن شكا قال: جفن ساهر وفجر بعيد وعذول قريب، وإن شاء أن يأتي بمعجزة بيانية قال: حبيبتي تستمطر لؤلؤ الدمع من نرجس العيون لتسقي ورد الخدود، وتعض على عناب أناملها ببرد أسنانها. يترنم صاحبنا البغاء بهذه الأغنية العتيقة وهو لا يدري أنه يسمم ببلادته اللغة ويمتهن بسخافته وابتذاله شرفها ونبالتها.
قد تكلمت عن المستنبط ونفعه، والعقيم وضرره، ولم أذكر أولئك الذين يصرفون حياتهم بوضع القواميس وتأليف المطولات وتشكيل المجامع اللغوية، لم أقل كلمة عن هؤلاء لاعتقادي بأنهم كالشاطئ بين مد اللغة وجزرها، وأن وظيفتهم لا تتعدى حد الغربلة. والغربلة وظيفة حسنة؛ ولكن، ما عسى يغربل المغربلون إذا كانت قوة الابتكار في الأمة لا تزرع غير الزوان ولا تحصد إلا الهشيم ولا تجمع على بيادرها سوى الشوك والقطرب.
أقول ثانية : إن حياة اللغة وتوحيدها وتعميمها وكل ما له علاقة بها قد كان وسيكون رهن خيال الشاعر، فهل عندنا شعراء؟
نعم، عندنا شعراء، وكل شرقي يستطيع أن يكون شاعرا في حقله وفي بستانه وأمام نوله وفي معبده وفوق منبره وبجانب مكتبته. كل شرقي يستطيع أن يعتق نفسه من سجن التقليد والتقاليد ويخرج إلى نور الشمس فيسير في موكب الحياة. كل شرقي يستطيع أن يستسلم إلى قوة الابتكار المختبئة في روحه، تلك القوة الأزلية الأبدية التي تقيم من الحجارة أبناء الله.
أما أولئك المنصرفون إلى نظم مواهبهم ونثرها فلهم أقول: ليكن لكم من مقاصدكم الخصوصية مانع عن اقتفاء أثر المتقدمين، فخير لكم وللغة العربية أن تبنوا كوخا حقيرا من ذاتكم الوضعية من أن تقيموا صرحا شاهقا من ذاتكم المقتبسة.
ليكن لكم من عزة نفوسكم زاجر عن نظم قصائد المديح والرثاء والتهنئة، فخير لكم وللغة العربية أن تموتوا مهملين محتقرين من أن تحرقوا قلوبكم بخورا أمام الأنصاب والأصنام.
ليكن لكم من حماستكم القومية دافع إلى تصوير الحياة الشرقية بما فيها من غرائب الألم وعجائب الفرح، فخير لكم وللغة العربية أن تتناولوا أبسط ما يتمثل لكم من الحوادث في محيطكم وتلبسوها حلة من خيالكم من أن تعربوا أجل وأجمل ما كتبه الغربيون.
ابن الفارض
كان عمر بن الفارض شاعرا ربانيا، وكانت روحه الظمآنة تشرب من خمرة الروح فتسكر ثم تهيم سابحة، مرفرفة في عالم المحسوسات حيث تطوف أحلام الشعراء وميول العشاق وأماني المتصوفين، ثم يفاجئها الصحو فتعود إلى عالم المرئيات لتدون ما رأته وسمعته بلغة جميلة مؤثرة؛ لكنها غير خالية في بعض الأحايين من ذلك التعقيد اللفظي المعروف بالبديع، وهو في شرعي ليس بالبديع.
ولكن، إذا وضعنا صناعة [ابن] الفارض جانبا ونظرنا إلى فنه المجرد وما وراء ذلك الفن من المظاهر النفسية، وجدناه كاهنا في هيكل الفكر المطلق، أميرا في دولة الخيال الواسع، قائدا في جيش المتصوفين العظيم، ذلك الجيش السائر بعزم بطيء نحو مدينة الحق، المتغلب في طريقه على صغائر الحياة وتوافهها، المحدق أبدا إلى هيبة الحياة وجلالها.
وقد عاش [ابن] الفارض في زمن خال من التوليد العقلي والإحداث النفسي بين قوم منصرفين إلى التقليد والتقاليد، مشغولين باستفسار واستيضاح ما تركه الإسلام من الأمجاد الأدبية والفلسفية، غير أن النبوغ - والنبوغ معجزة إلهية - قد صار بالشاعر الحموي، فتنحى عن زمنه وعن محيطه واختلى بذاته لينظم ما يتراءى لذاته شعرا أبديا يصل ما ظهر من الحياة بما خفي منها.
ولم يتناول [ابن] الفارض مواضيعه من ماجريات يومه كما فعل المتنبي، ولم تشغله معميات الحياة وأسرارها كما شغلت المعري، بل كان يغمض عينيه عن الدنيا ليرى ما وراء الدنيا، ويغلق أذنيه عن ضجة الأرض ليسمع أغاني اللانهاية.
هذا هو [ابن] الفارض: روح نقية كأشعة الشمس، وقلب متقد كالنار، وفكرة صافية كبحيرة بين الجبال، وهو إن كان دون الجاهليين عزما وأقل من المولدين ظرفا. ففي شعره ما لم يحلم به الأولون ولم يبلغه المتأخرون.
العهد الجديد
في الشرق اليوم فكرتان متصارعتان: فكرة قديمة وفكرة جديدة، أما الفكرة القديمة فستغلب على أمرها؛ لأنها منهوكة القوى محلولة العزم.
وفي الشرق يقظة تراود النوم؛ واليقظة قاهرة لأن الشمس قائدها والفجر جيشها.
وفي حقول الشرق، ولقد كان الشرق بالأمس جبانة واسعة الأرجاء، يقف اليوم فتى الربيع مناديا سكان الأجداث ليهبوا ويسيروا مع الأيام. وإذا ما أنشد الربيع أغنيته، بعث مصروع الشتاء وخلع أكفانه ومشى.
وفي فضاء الشرق اهتزازات حية تنمو وتتمدد وتتوسع، وتتناول النفوس المتنبهة الحساسة فتضمها إليها، وتحيط بالقلوب الأبية الشاعرة لتكتسبها.
وللشرق اليوم سيدان: سيد يأمر وينهى ويطاع ولكنه شيخ يحتضر، وسيد ساكت بسكوت النواميس والأنظمة، هادئ بهدوء الحق، ولكنه جبار مفتول الساعدين يعرف عزمه ويثق بكيانه ويؤمن بصلاحيته.
في الشرق اليوم رجلان: رجل الأمس ورجل الغد، فأي منهما أنت أيها الشرقي؟
ألا فاقترب مني لأتفرسك وأتبصرك وأتحقق من ملامحك ومظاهرك ما إذا كنت من الآتين إلى النور أو الذاهبين إلى الظلام.
تعال وأخبرني ما أنت ومن أنت.
أسياسي يقول في سره: «أريد أن أنتفع من أمتي»؟ أم غيور متحمس يهمس في نفسه: «أتوق إلى نفع أمتي؟»
إن كنت الأول فأنت نبتة طفيلية، وإن كنت الثاني فأنت واحة في صحراء.
أتاجر يتخذ عوز الناس وسيلة للربح والانتفاخ فيحتكر الضروريات؛ ليبيع بدينار ما ابتاعه بدرهم؟ أم رجل جد واجتهاد يسهل التبادل بين الحائك والزراع ويجعل نفسه حلقة بين الراغب والمرغوب، فيفيد المرغوب والراغب ويستفيد بعدل منهما؟
إن كنت الأول فأنت مجرم سكنت القصور أو السجون، وإن كنت الثاني فأنت محسن شكرك الناس أو جحدوك.
أرئيس دين يحوك من سذاجة القوم برفيرا لجسده، ويصوغ من بساطة قلوبهم تاجا لرأسه، ويدعي كره إبليس ويعيش بخيراته؟ أم تقي ورع يرى في فضيلة الفرد أساسا لرقي الأمة، وفي استقصاء أسرار روحه سلما إلى الروح الكلي؟
إن كنت الأول فأنت كافر ملحد صمت النهار أو صليت الليل، وإن كنت الثاني، فأنت زنبقة في جنة الحق ضاع أريجها بين أنوف البشر أو تصاعد حرا طليقا إلى الغلاف الأثيري حيث تحفظ أنفاس الأزهار.
أصحفي يبيع فكرته ومبدأه في سوق النخاسين وينمو ويترعرع على ما يفرزه الاجتماع من أخبار المصائب والويلات، ونظير الشوحة الجائعة لا تهبط إلا على الجيف المنتنة؟ أم معلم واقف على منبر من منابر المدنية يستمد من مآتي الأيام مواعظ يلقيها على الناس بعد أن يتعظ بها هو نفسه؟
إن كنت الأول فأنت بثور وقروح، وإن كنت الثاني فدواء وبلسم ...
أحاكم يتصاغر أمام من ولاه ويستصغر من تولى عليهم، فلا يحرك يدا إلا ليضعها في جيوبهم، ولا يخطو خطوة إلا لمطمع له فيهم؟ أم خادم أمين يدير شؤون الشعب ويسهر على مصالحه ويسعى إلى تحقيق أمانيه؟
إن كنت الأول أنت زوان في بيادر الأمة، وإن كنت الثاني فأنت بركة في أهرائها.
أزوج يستبيح لنفسه ما يحرمه على زوجته، ويسرح ويمرح وفي حزامه مفتاح سجنها، ويلتهم ما يشتهيه حتى التخمة وهي جالسة في وحدتها أمام صحفة فارغة؟ أم رفيق لا يسير إلى أمر إلا ويده بيد رفيقته، ولا يفعل أمرا إلا ولها فيه فكرة ورأي، ولا يفوز بأمر إلا لتساهمه أفراحه وأمجاده؟
إن كنت الأول فأنت ممن بقي حيا من قبائل انقرضت وهي تسكن الكهوف وتلبس الجلود، وإن كنت الثاني فأنت في طليعة أمة تسير مع الفجر نحو ظهيرة العدالة والحصافة.
أكاتب بحاثة يشمخ برأسه إلى ما فوق رؤوسنا أما ما في داخل رأسه فيدب في هوة الماضي الغابر حيث ألقت الأجيال ما رث من أثوابها، ورمت ما لم يعد صالحا لها، أم فكرة صافية تتفحص محيطها لتعلم ما ينفعه وما يضره فتصرف العمر في بناء النافع وهدم المضر؟
إن كنت الأول فأنت سخافة مطرسة وبلادة مزركشة، وإن كنت الثاني فأنت خبز للجائعين وماء للظامئين.
أشاعر أنت يضرب الطنبور أمام أبواب الأمراء وينثر الأزهار في الأعراس، ويسير وراء الجثث الهامدة وبين فكيه إسفنجة مثقلة بالماء الفاتر، حتى إذا ما بلغ المقبرة ضغط عليها بلسانه وشفتيه، أم موهوب وضع الله في يده قيثارة يستولدها أنغاما علوية تجذب قلوبنا وتوقفنا متهيبين أمام الحياة وما في الحياة من الجمال والهول؟
إن كنت الأول فأنت من المشعوذين الذين لا ينبهون في نفوسنا سوى عكس ما يقصدون، فإن تباكوا نضحك، وإن مرحوا نكتئب، وإن كنت الثاني فأنت بصيرة مشعشعة وراء بصرنا، وشوق عذب في قلوبنا، ورؤيا ربانية في غيبوبتنا.
أقول في الشرق موكبان: موكب من عجائز محدودبي الظهور يسيرون متوكئين على العصي العوجاء، ويلهثون منهوكين مع أنهم ينحدرون من الأعالي إلى المنخفضات، وموكب من فتيان يتراكضون كأن في أرجلهم أجنحة، ويهللون كأن في حناجرهم أوتارا، وينتهبون العقبات كأن في جبهات الجبال قوة تجذبهم وسحرا يختلب ألبابهم.
فمن أية فئة أنت أيها الشرقي وفي أي موكب تسير؟
ألا فاسأل نفسك، استجوبها في سكينة الليل وقد صحت من مخدرات محيطها، عما إذا كنت من عبيد الأمس أم من أحرار الغد؟
أقول لك: إن أبناء الأمس يمشون في جنازة العهد الذي أوجدهم وأوجدوه. أقول: إنهم يشدون بحبل أوهت الأيام خيوطه، فإذا ما انقطع - وعما قريب ينقطع - هبط من تعلق به إلى حفرة النسيان. أقول : إنهم يسكنون منازل متداعية الأركان، فإذا ما هبت العاصفة - وهي على وشك الهبوب - انهدمت تلك المنازل على رؤوسهم وكانت لهم قبورا. أقول: إن أفكارهم وأقوالهم ومنازعهم وتصانيفهم ودواوينهم وكل مآتيهم ليست سوى قيود تجرهم بثقلها ولا يستطيعون جرها لضعفهم.
أما أبناء الغد فهم الذين نادتهم الحياة فاتبعوها بأقدام ثابتة ورؤوس مرفوعة. هم فجر عهد جديد، فلا الدخان يحجب أنوارهم، ولا قلقلة السلاسل تغمر أصواتهم، ولا نتن المستنقعات يتغلب على طيبهم. هم طائفة قليلة العدد بين طوائف كثر عددها. ولكن، في الغصن المزهر ما ليس غابة يابسة، وفي حبة القمح ما ليس في رابية من التبن، هم فئة مجهولة لكنهم يعرفون بعضهم بعضا، ومثل قمم عالية يرى واحدهم الآخر ويسمع نداءه ويناجيه. أما المغاور فعمياء لا ترى، وطرشاء لا تسمع. هم النواة التي طرحها الله في حقلة ما، فشقت قشرتها بعزم لبابها، وتمايلت نصبة غضة أمام وجه الشمس، وسوف تنمو شجرة عظمى تمتد عروقها إلى قلب الأرض وتتصاعد فروعها إلى أعماق الفضاء.
الوحدة والانفراد
الحياة جزيرة في بحر من الوحدة والانفراد.
الحياة جزيرة صخورها الأماني، وأشجارها الأحلام، وأزهارها الوحشة، وينابيعها التعطش، وهي في وسط بحر من الوحدة والانفراد.
حياتك، يا أخي، جزيرة منفصلة عن جميع الجزور والأقاليم، ومهما سيرت من المراكب والزوارق إلى الشواطئ الأخرى، ومهما بلغ شواطئك من الأساطيل والعمارات فأنت أنت الجزيرة المنفردة بآلامها، المستوحدة بأفراحها، البعيدة بحنينها، المجهولة بأسرارها وخفاياها.
رأيتك، يا أخي، جالسا على رابية من الذهب وأنت فرح بثروتك، متفوق بغناك، شاعر أن في كل حفنة من التبر سلكا خفيا يصل فكرة الناس بفكرتك ويربط ميولهم بميولك. ومثل فاتح كبير أبصرتك تقود فيالق جنود الظفر إلى المعاقل الحصينة فتدكها، وإلى المستحكمات المنيعة فتمتلكها. ولكنني نظرت إليك ثانية فرأيت وراء جدران خزائنك قلبا يختلج في وحدته وانفراده اختلاج ظامئ في قفص مصنوع من الذهب والجواهر ولكنه خال من الماء.
رأيتك، يا أخي، جالسا على عرض من المجد وقد وقف حولك الناس مترنمين باسمك، مرددين حسناتك، معددين مواهبك ، محدقين إليك كأنهم في حضرة نبي يرفع أرواحهم بعزم روحه ويطوف بها بين النجوم والكواكب، وأنت تنظر إليهم وعلى وجهك سيماء الغبطة والقوة والتغلب كأنك منهم بمقام الروح من الجسد. ولكنني نظرت إليك ثانية فرأيت ذاتك المستوحدة واقفة إلى جانب عرشك وهي تتوجع بغربتها وتغص بوحشتها، ثم رأيتها تمد يدها إلى كل ناحية كأنها تستعطف وتستعطي الأشباح غير المنظورة. ثم رأيتها تنظر من فوق رؤوس الناس إلى مكان قصي، إلى مكان خال من كل شيء سوى وحدتها وانفرادها.
رأيتك، يا أخي، مشغوفا بحب امرأة جميلة وأنت تسكب على مفرق شعرها ذوب قلبك وتملأ راحتيها بقبل شفتيك، وهي تنظر إليك وأشعة الانعطاف في عينيها وحلاوة الأمومة على ثغرها، فقلت بسري: لقد أزالت المحبة وحدة هذا الرجل ومحت انفراده، فعاد واتصل بالروح الكلية العامة التي تجتذب إليها بالحب ما انفصل عنها بالخلو والسلوان. ولكنني نظرت إليك ثانية فرأيت طي قلبك المشغوف قلبا منفردا يريد أن يكسب مخبآته على رأس المرأة ولا يقدر، ورأيت وراء نفسك الذائبة حبا نفسا أخرى مستوحدة شبيهة بالضباب تروم أن تتحول في حفنتي رفيقتك إلى قطرات من الدموع ولكنها لا تستطيع.
حياتك، يا أخي، منزل منفرد بعيد عن جميع المنازل والأحياء.
حياتك المعنوية منزل بعيد عن سبل الظواهر والمظاهر التي يدعوها الناس باسمك، فإن كان هذا المنزل مظلما فأنت لا تقدر أن تملأه من خيرات جارك؛ وإن كان قائما في صحراء فأنت لا تقدر أن تنقله إلى حديقة غرسها سواك؛ وإن كان منتصبا على قمة جبل فأنت لا تستطيع أن تهبط به إلى واد وطئته أقدام غيرك.
حياتك النفسية، يا أخي، محاطة بالوحدة والانفراد، ولولا هذه الوحدة وذاك الانفراد لما كنت أنت أنت، وأنا أنا. لولا هذه الوحدة وذاك الانفراد لكنت إن سمعت صوتك ظننتني متكلما، وإن رأيت وجهك توهمت نفسي ناظرا في المرآة.
إرم ذات العماد
ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد [الفجر: 6-8]. (القرآن الكريم) «يدخلها بعض أمتي ». (الحديث)
توطئة لإرم ذات العماد
بعد أن ملك شداد بن عاد جميع الدنيا أمر ألف أمير من جبابرة قوم عاد أن يخرجوا ويطلبوا أرضا واسعة كثيرة الماء طيبة الهواء بعيدة عن الجبال ليبني فيها مدينة من ذهب، فخرج أولئك الأمراء ومع كل أمير ألف رجل من خدمه وحشمه، فساروا حتى وجدوا أرضا واسعة طيبة الهواء فأعجبتهم تلك الأرض، فأمروا المهندسين والبنائين فخطوا مدينة مربعة الجوانب دورها أربعون فرسخا من كل جهة عشرة، فحفروا الأساس إلى الماء وبنوا الجدران بحجارة الجزع اليماني حتى ظهر على وجه الأرض، ثم أحاطوا به سورا ارتفاعه خمسمائة ذراع وغشوه بصفائح الفضة المموهة بالذهب فلا يكاد يدركه البصر إذا أشرقت الشمس. وكان شداد قد بعث إلى جميع معادن الدنيا فاستخرج منها الذهب واتخذه لبنا، واستخرج الكنوز المدفونة، ثم بنى داخل المدينة مائة ألف قصر بعدد رؤساء مملكته كل قصر على أعمدة من أنواع الزبرجد واليواقيت معقدة بالذهب طول كل عمود مائة ذراع. وأجرى في وسطها أنهارا وعمل منها جداول لتلك القصور والمنازل، وجعل حصاها من الذهب والجواهر واليواقيت، وحلى قصورها بصفائح الذهب والفضة، وجعل على حافات الأنهار أنواع الأشجار جذوعها من الذهب وأوراقها وثمرها من أنواع الزبرجد واليواقيت واللآلئ. وطلى حيطانها بالمسك والعنبر، وجعل فيها جنة مزخرفة له، وجعل أشجارها الزمرد واليواقيت وسائر أنواع المعادن.
ونصب عليها أنواع الطيور المسموعة الصادح والمغرد وغير ذلك. «الشعبي في كتاب سير الملوك»
إرم ذات العماد
المكان:
غابة صغيرة من الجوز والحور والرمان تحيط بمنزل قديم منفرد بين منبع العاصي وقرية الهرمل في الشمال الشرقي من لبنان.
الزمان:
عصارى يوم من أيام تموز في سنة 1883.
أشخاص الرواية:
زين العابدين النهاوندي:
وهو درويش عجمي في الأربعين من عمره، معروف بالصوفي.
نجيب رحمة:
أديب لبناني في الثالثة والثلاثين.
آمنة العلوية:
معروفة في تلك النواحي بجنية الوادي، ولا أحد يعرف عمرها.
يرفع الستار فيظهر زين العابدين متكئا على ساعده في ظلال الأشجار وهو يرسم برأس عصاه الطويلة خطوطا مستديرة على التراب. بعد هنيهة يدخل الغابة نجيب رحمة راكبا على فرس، ثم يترجل ويربط مقود فرسه بجذع شجرة وينفض الغبار عن ملابسه ثم يقترب من زين العابدين.
نجيب رحمة :
السلام عليك يا سيدي.
زين العابدين :
وعليك السلام (ويحول وجهه قائلا في نفسه):
أما السلام فنقبله، وأما السيادة فلا ندري أنقبلها أم لا.
نجيب (ينظر حواليه مستفحصا) :
أهنا تسكن آمنة العلوية؟
زين العابدين :
هذا منزل من منازلها.
نجيب :
أتعني يا سيد أن لها بيتا آخر؟
زين العابدين :
لها منازل لا عداد لها.
نجيب :
منذ الصباح وأنا أبحث وأسأل كل من لقيته عن مقر آمنة العلوية، ولم يقل لي أحد: إن لها منزلين أو أكثر.
زين العابدين :
هذا دليل على أنك لم تلتق منذ الصباح غير من لا يرى إلا بعينيه ولا يسمع إلا بأذنيه.
نجيب (مستغربا) :
ربما كان الأمر مثلما تقول، ولكن، أصدقني، يا سيدي، أفي هذا المكان تسكن آمنة العلوية؟
زين العابدين :
نعم، في هذا المكان يسكن جسدها بعض الأحايين.
نجيب :
وهلا أخبرتني أين هي الآن؟
زين العابدين :
هي في كل مكان. (مشيرا بيده إلى الجهة الشرقية)
أما جسدها فيسير متجولا بين تلك التلول والأودية.
نجيب :
وهل تعود اليوم إلى هذا المكان؟
زين العابدين :
ستعود إن شاء الله.
نجيب (يجلس على صخر أمام زين العابدين ثم يتفحصه طويلا) :
يبدو لي من لحيتك أنك فارسي.
زين العابدين :
نعم ولدت في نهاوند، وربيت في شيراز، وتثقفت في نيسابور، وجبت مشارق الأرض ومغاربها، وأنا غريب في كل مكان.
نجيب :
كلنا غريب في كل مكان.
زين العابدين :
لا والحق، فقد لقيت وحدثت ألف ألف من الناس فلم أر سوى المكتفين بمحيطهم، المستأنسين بإلفهم، المنصرفين عن العالم إلى الفسحة الضيقة التي يرونها من العالم.
نجيب (معجبا بكلام جليسه) :
الإنسان، يا سيدي، مطبوع على حب المكان الذي ولد فيه.
زين العابدين :
المحدود من الناس مطبوع على حب المحدود من الحياة، وشحيح البصر لا يرى غير ذراع من السبيل الذي تطأه قدماه، وذراع من الحائط الذي يسند إليه ظهره.
نجيب :
ليس لكل منا المقدرة على الإحاطة بكليات الحياة، ومن الظلم أن تطلب من شحيح البصر أن يرى البعيد والضئيل.
زين العابدين :
أصبت وأحسنت، فمن الظلم أن نطلب الخمر من الحصرم.
نجيب (بعد دقيقة سكوت) :
اسمع، يا سيدي: منذ أعوام وأنا أسمع الأخبار عن آمنة العلوية، ولقد أثرت بي هذه الأخبار إلى درجة قصوى، فعزمت على الاجتماع بها لاستفسارها ومعرفة أسرارها وخفاياها.
زين العابدي (يقاطعه) :
أيوجد في هذا العالم من يستطيع معرفة أسرار آمنة العلوية وخفاياها؟ أيوجد بين البشر من يقدر أن يسير متجولا متنزها في قاع البحر كأنه في حديقة؟
نجيب :
قد أسأت التعبير، يا سيدي، فسامحني. أنا لا أقدر بالطبع على الإحاطة بمكنونات آمنة العلوية؛ ولكنني أرجو أن أسمع منها حكاية دخولها إلى إرم ذات العماد.
زين العابدين :
ما عليك سوى الوقوف في باب حلمها، فإن فتح لك بلغت قصدك، وإن لم يفتح فأنت الملوم.
نجيب :
ماذا تعني، يا سيدي، بقولك: إن لم يفتح لي كنت أنا الملوم؟
زين العابدين :
أعني أن آمنة العلوية أدرى الناس منهم بنفوسهم، فهي ترى بلمحة واحدة ما في ضمائرهم وقلوبهم وأرواحهم، فإن وجدتك خليقا بمحادثتها حدثتك وإلا فلا.
نجيب :
ماذا أقول وماذا أفعل لأكون حريا باستماع حديثها؟
زين العابدين :
عبثا تحاول الدنو من آمنة العلوية بواسطة القول والعمل، فهي لا ولن تصغي إلى ما تقوله. لا، ولا تنظر إلى ما تفعله؛ بل سوف تسمع بأذن أذنها ما لا تقوله وترى بعين عينها ما لا تفعله.
نجيب (تظهر على ملامحه سيماء الدهشة) :
ما أبلغ كلامك هذا وما أجمله!
زين العابدين :
ليس ما أقول عن آمنة العلوية سوى دندنة أخرس يريد أن يغني نشيدا.
نجيب :
أتعلم يا سيدي أين ولدت هذه المرأة العجيبة؟
زين العابدين :
ولدت في صدر الله.
نجيب (ملتبكا) :
أعني أين ولد جسدها؟
زين العابدين :
بجوار دمشق.
نجيب :
وهلا أخبرتني شيئا عن والديها وتربيتها؟
زين العابدين :
ما أشبه سؤالاتك هذه بسؤالات القضاة والمتشرعين.
أفتظن أنك تستطيع إدراك الجواهر باستفسارك الأعراض، أو معرفة طعم الخمرة بمجرد النظر إلى خارج الجرة؟
نجيب :
بين الأرواح وأجسادها رابطة، وبين الأجساد ومحيطها علاقة. ولما كنت لا أعتقد بالصدف، أرى أن النظر في تلك الروابط وتلك العلاقات لا يخلو من الفائدة.
زين العابدين :
أعجبتني، أعجبتني. يلوح لي أنك على شيء من العلم. إذا، فاسمع. لا أعرف شيئا عن والدة آمنة العلوية سوى أنها ماتت وهي تتمخض بابنتها. أما والدها الشيخ عبد الغني الضرير المشهور بالعلوي، فقد كان إمام زمانه في العلوم الباطنية والتصوف. وقد كان، رحمه الله، ولوعا بابنته إلى درجة قصوى، فهذبها وثقفها وسكب في روحها كل ما في روحه. ولما بلغت أشدها، أدرك أن العلوم التي أخذتها عنه لم تكن من العلم الذي أنزل عليها إلا بمقام الزبد من البحر، فصار يقول عنها: لقد انبثق من ظلمتي نور أستضيء به.
ولما بلغت الخامسة والعشرين، خرج بها لأداء فريضة الحج، ولما قطعا بادية الشام وأصبحا على بعد ثلاث مراحل من المدينة المنورة بلي الضرير بالحمى وتوفي، فدفنته ابنته في لحف جبل هناك وجلست على قبره سبع ليال تناجي روحه، وتستكشفها أسرار الغيب وتستعلم منها عما وراء الحجاب.
وفي الليلة السابعة أوحت إليها روح والدها أن تطلق راحلتها، وتحمل زادها على عاتقها وتسير من ذلك المكان إلى الجنوب الشرقي، ففعلت. (يسكت دقيقة ويحدق إلى الأفق البعيد ثم يعود إلى الكلام):
وظلت آمنة العلوية سائرة في البادية حتى وصلت إلى «الربع الخالي» وهو قلب الجزيرة الذي لم تخترقه قافلة ولم يصل إليه سوى أفراد قليلين منذ بدء الإسلام إلى يومنا هذا. أما الحجاج فظنوا أنها تاهت في تلك القفار وقضت جوعا، ولما عادوا إلى دمشق أخبروا الناس بذلك، فحزن عليها وعلى أبيها من عرف فضلهما ثم التحف ذكرهما النسيان كأنهما ما كانا ...
وبعد خمسة أعوام ظهرت آمنة العلوية في الموصل، وكان ظهورها بما هي عليه من الجمال والهيبة والعلم والصلاح، أشبه شيء بهبوط نيزك من الفضاء. فقد كانت تسير بين الناس مسفرة وتقف بحلقات العلماء والأئمة متكلمة عن الأمور الربانية، وتصف لهم مشاهد إرم ذات العماد بفصاحة ما سمع القوم بمثلها.
ولما اشتهر أمرها وكثر عدد أتباعها ومريديها، خاف علماء المدينة ظهور بدعة، وخشوا الفتنة، فشكوها إلى الوالي، فاستقدمها هذا إليه وألقى بين يديها صرة من الذهب وطلب إليها أن تغادر المدينة، فرفضت المال وتركت المدينة ليلا دون أن يصحبها أحد من الناس. ثم توجهت إلى الأستانة فحلب فدمشق فحمص فطرابلس.
وكانت في كل مدينة من هذه المدن تثير ما سكن في نفوس الناس، وتشعل ما خمد في وجدانهم، فيلتفون حولها ويصغون إلى محاضراتها وأحاديث اختباراتها العجيبة مجذوبين بعوامل قوية سحرية. غير أن أئمة الدين وشيوخ العلم في كل بلد، كانوا يصادرونها ويفندون أقوالها ويعرضون بها إلى الحكام.
بعد ذلك طلبت نفسها العزلة، فجاءت هذا المكان منذ أعوام واستوحدت به زاهدة متعبدة منصرفة عن كل شيء سوى التعمق في الأسرار الربانية.
هذا قليل من كثير أعرفه عن حياة آمنة العلوية، أما ما حباني الله بمعرفته عن ذاتها المعنوية وما يتآلف في نفسها من القوى والمواهب فليس بإمكاني الكلام عنه الآن. ومن من البشر، يا ترى، يستطيع أن يجمع الأثير المحيط بهذا العالم في كؤوس وأكواب؟
نجيب (متأثرا) :
أشكر لك، يا سيدي، ما تفضلت وحدثتني به عن هذه المرأة العجيبة. لقد ضاعفت شوقي إلى الوقوف بحضرتها.
زين العابدين (يتفرس فيه دقيقة) :
أنت مسيحي، أليس كذلك؟
نجيب :
نعم، ولدت مسيحيا، غير أنني أعلم أننا إذا جردنا الأديان مما تعلق بها من الزوائد المذهبية والاجتماعية وجدناها دينا واحدا.
زين العابدين :
أصبت، وليس بين البشر أدرى بالوحدة الدينية المجردة من آمنة العلوية، فهي في الناس على اختلاف طوائفهم كندى الصباح الذي يهبط من الأعالي وينعقد درا مشعشعا بين أوراق الأزهار المتباينة لونا وشكلا. نعم، هي كندى الصباح ... (يقف زين العابدين فجأة عن الكلام ويلتفت إلى الجهة الشرقية مصغيا، ثم ينتصب على قدميه ويومئ إلى نجيب أن ينتبه فيفعل هذا ممتثلا.)
زين العابدين (هامسا) :
هو ذا آمنة العلوية. (يرفع نجيب يده إلى جبهته كأنه أحس بحدوث تغيير في دقائق الهواء، ثم ينظر فيرى العلوية آتية، فتتغير ملامحه ويضطرب في داخله؛ ولكنه يبقى واقفا في مكانه كالتمثال ... تدخل آمنة العلوية وتقف أمام الرجلين وهي بهيئتها وحركاتها وملابسها أقرب إلى معبودات الشعوب الغابرة منها إلى امرأة شرقية في الزمن الحاضر. ومن الصعب تحديد عمرها بمجرد النظر إلى ملامحها، فكأن الشباب في وجهها يستر ألف سنة من المعرفة والاختبار. أما نجيب وزين العابدين فيظلان جامدين خاشعين متهيبين كأنهما بحضرة نبي من أنبياء الله ... وبعد أن تحدق العلوية إلى وجه نجيب كأنها تخترق بنظراتها صدره، تدنو منه وقد انبسطت ملامحها وابتسمت، وبصوت عذب تقول ...)
آمنة العلوية :
جئتنا أيها اللبناني متنسما أخبارنا مستفحصا حالنا. ولن تجد بنا إلا ما بك، ولن تسمع منا إلا ما عرفته في نفسك.
نجيب (مفعولا) :
ها قد رأيت وسمعت وصدقت واكتفيت.
العلوية :
لا تكن قنوعا بالقليل، فمن يرد ينابيع الحياة بجرة فارغة صرف بجرتين طافحتين. (تمد يدها إليه فيتناولها بكلتا يديه خاشعا محتشما ويقبل أطراف أصابعها مدفوعا بعامل خفي. تلتفت إلى زين العابدين وتمد يدها إليه، فيفعل هذا فعل نجيب، ثم تتراجع قليلا إلى الوراء، وتجلس على حجر منحوت أمام بيتها، وتشير إلى صخر قريب، وتقول لنجيب):
هذه مقاعدنا فاجلس. (يجلس نجيب ويفعل زين العابدين فعله.)
العلوية :
إنا نرى بعينيك نورا من أنوار الله، ومن ينظر إلينا ونور الله في عينيه يرى حقيقتنا عارية مجردة. وإنا نرى بوجهك ما يرفعه الإخلاص عن حب الاستطلاع إلى الرغبة في الحق. فإن كان على لسانك كلمة فقلها فنحن إليك مصغون. وإن كان في قلبك سؤال فاطرحه فنحن لك مجيبون.
نجيب :
جئت مستعلما عن أمر يتحدث الناس به لغرابته، ولكني ما وقفت بحضرتك حتى علمت أن الحياة مظاهر الروح الكلية، فكان مثلي مثل صياد ألقى شبكته في البحر ليصطاد سمكا، ولما اجتذبها إلى الشاطئ وجد فيها صرة من الحجارة الكريمة.
العلوية :
جئت تسألنا عن دخولنا إرم ذات العماد؟
نجيب :
نعم، يا سيدتي، منذ حداثتي وهذه الكلمات الثلاث «إرم ذات العماد » تعانق أحلامي، وتتمشى مع خيالي بما وراءها من الرموز والمقاصد الخفية.
العلوية (ترفع رأسها وتغمض عينيها وبصوت يخاله نجيب آتيا من قلب الفضاء تقول) :
أجل، قد بلغنا المدينة المحجوبة ودخلناها وأقمنا فيها وملأنا روحنا من أريجها، وقلبنا من أسرارها، وجيوبنا من لؤلؤها وياقوتها، فمن ينكر علينا ما شاهدناه وعرفناه كان ناكرا لذاته أمام الله.
نجيب (متأنيا) :
ما أنا، يا سيدتي، سوى طفل يلثغ متلعثما بما يريد بيانه، فإن سألتك عن أمر فبخشوع أسأل، وإن استقصيت أمرا فبإمعان وإخلاص. فهلا جعلت عطفك علي شفيعا بي لديك إذا ما أتعبت سرك بسؤالاتي الكثيرة؟
العلوية :
سل ما شئت، فقد جعل الله الحقيقة ذات أبواب يفتحها بوجه من يطرقها بيد الإيمان.
نجيب :
هل دخلت إرم ذات العماد بالجسد أم بالروح؟ وهل هي مدينة مصنوعة من عناصر الأرض المتبلورة وقائمة في بقعة معلومة من الأرض، أم هي مدينة روحية ترمز عن حالة روحية يبلغها أنبياء الله وأولياؤه في غيبوبة يلقيها الله نقابا على نفوسهم؟
العلوية :
ليس ما نراه على الأرض وما لا نراه سوى حالات روحية، وأنا قد دخلت المدينة المحجوبة بجسدي وهو روحي الظاهرة، ودخلتها بروحي وهي جسدي الخفي. ومن يحاول التفريق بين ذرات الجسد كان في ضلال مبين. إنما الزهرة وعطرها شيء واحد. فالأعمى الذي ينكر لون الزهرة وصورتها قائلا: «ليست الزهرة سوى عطر يتموج في الأثير»، ليس هو إلا كالمزكوم الذي يقول: «ليست الأزهار غير صور وألوان».
نجيب :
إذا فالمدينة المحجوبة التي ندعوها بإرم ذات العماد، حالة روحية؟
العلوية :
كل مكان وزمان حالة روحية، وكل المرئيات والمعقولات حالات روحية. فإن أغمضت عينيك ونظرت في أعماق أعماقك رأيت العالم بكلياته وجزئياته، وخبرت ما فيه من النواميس، وعلمت ما يلازمه من الذرائع وفهمت ما يتلمسه من المحجات. أجل، إنك إذا أغمضت بصرك وفتحت بصيرتك، رأيت بداية الوجود ونهايته، تلك النهاية التي تصير بدورها بداية وتلك البداية التي تتحول إلى نهاية.
نجيب :
وهل بإمكان كل إنسان أن يغمض عينيه ويرى جوهر الحياة المجرد؟
العلوية :
يستطيع كل إنسان أن يتشوق ثم يتشوق ثم يتشوق حتى ينزع الشوق نقاب الظواهر عن بصره، فيشاهد إذ ذاك ذاته، ومن ير ذاته ير جوهر الحياة المجرد. فكل ذات هي جوهر الحياة المجرد.
نجيب (يضع يده على صدره) :
إذا كل ما في الوجود من محسوس ومعقول كائن هنا هنا في صدري؟
العلوية :
كل ما في الوجود كائن فيك وبك ولك.
نجيب :
أبإمكاني أن أقول لذاتي: إن إرم ذات العماد موجودة في باطني لا في خارجي؟
العلوية :
كل ما في الوجود كائن في باطنك، وكل ما في باطنك موجود في الوجود. وليس هناك من حد فاصل بين أقرب الأشياء وأقصاها، أو بين أعلاها وأخفضها، أو بين أصغرها وأعظمها، ففي قطرة الماء الواحدة جميع أسرار البحار، وفي ذرة واحدة جميع عناصر الأرض، وفي حركة واحدة من حركات الفكر كل ما في العالم من الحركات والأنظمة.
نجيب (تظهر على وجهه علامات الالتباس) :
قد قيل لي، يا سيدتي: إنك قطعت المسافات الشاسعة حتى بلغت ذلك المكان المعروف بالربع الخالي في قلب الجزيرة. وقيل لي: إن روح والدك كانت الموحية إليك والهادية لك والسائرة حتى بلغت إرم ذات العماد. أفليس على الراغب في الوصول إلى تلك المدينة المحجوبة أن يكون في حالة شبيهة بحالتك، وأن تكون له الوسائل الجسدية والأسباب المعنوية ليحصل على ما حصلت أنت عليه؟
العلوية :
أجل، قد قطعنا الصحاري، وقاسينا الجوع والعطش، وخبرنا مخاوف النهار ورمضاءه، وأهوال الليل وسكينته قبل أن رأينا أسوار مدينة الله. ولكن قد بلغ مدينة الله قبلنا من لم يسر خطوة، وعرف جمالها وبهاءها من لم يختبر جوعا في الجسد أو عطشا في الروح. إي والحق، لقد طاف في المدينة المقدسة إخوان لنا وأخوات دون أن يخرجوا من المنازل التي ولدوا فيها. (تسكت هنيهة ثم تومئ بيدها إلى الأشجار والرياحين المحيطة بها):
لكل بذرة من البذور التي يلقيها الخريف في أديم التراب أساليب خاصة في فسخ قشرتها عن لبابها وفي تكوين أوراقها فأزهارها فأثمارها. ولكن مهما تباينت الأساليب فمحجة جميع البذور تظل واحدة. وتلك المحجة هي الوقوف أمام وجه الشمس.
زين العابدين (يتمايل إلى الأمام وإلى الوراء متأثرا كأنه انتقل بالروح إلى عالم سام ثم يصرخ بصوت رخيم) :
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله الكريم الوهاب الملقي ظله بين الألسنة والشفاه.
العلوية :
أجل. قل: الله أكبر. لا إله إلا الله، وقل: لا شيء إلا الله. (يتمتم زين العابدين هذه الكلمات في ذاته أما نجيب فيحدق إلى العلوية كالمسحور وبصوت يكاد يكون همسا يقول: لا شيء إلا الله.)
العلوية :
قل: لا إله إلا الله، ولا شيء إلا الله، وكن مسيحيا.
نجيب: (يحني رأسه محركا شفتيه مرددا كلماتها ثم يرفع رأسه قائلا) :
قد قلتها، يا سيدتي، وسوف أقولها إلى نهاية حياتي.
العلوية :
ليس لحياتك نهاية، فأنت باق ببقاء كل شيء.
نجيب :
من أنا وما أنا لأبقى خالدا؟
العلوية :
أنت أنت. وأنت كل شيء؛ لذلك ستبقى خالدا.
نجيب :
إني أعلم طبعا، يا سيدتي، أن الذرات التي تتألف منها وحدتي الهيولية ستبقى ببقاء الهيولي. ولكن، أباقية، يا ترى، هذه الفكرة التي أدعوها أنا؟ أباقية هذه اليقظة الضئيلة الممنطقة بالهجوع؟ أباقية هذه الفقاقيع الملتمعة بنور الشمس وأمواج البحر التي ولدتها هي هي الأمواج التي تمحوها لتولد غيرها؟ أباقية هذه الأماني والآمال والأوجاع والأفراح؟ أباقية هذه الأوهام المرتعشة في هذا النوم المتقطع في هذا الليل الغريب بعجائبه، الهائل باتساعه وعمقه وعلوه؟
العلوية (ترفع عينيها إلى العلاء كأنها تتناول شيئا من جيوب الفضاء، وتقول بلهجة إيجابية ملؤها العزم والمعرفة والخبرة) :
كل موجود باق، ووجود الموجود دليل على بقائه، أما الفكرة وهي العلم بكليته، إذ لولاها لما علم العالم موجودا كان أو غير موجود، فهي كيان أزلي أبدي خالد لا يتغير إلا ليتجوهر، ولا يختفي إلا ليظهر بصورة أسنى، ولا ينام إلا ليحلم بيقظة أبهى.
ولقد عجبت لمن يثبت بقاء الذرات في الغلافات الخارجية التي تتصورها حواسنا، ولكنه ينكر ما جعلت الغلافات من أجله. عجبت لمن يقرر خلود العناصر التي تتألف منها العين، ولكنه يشك بخلود النظر الذي اتخذ العين آلة له. عجبت لمن يثبت أبدية المسببات ولكنه يحتم باضمحلال الأسباب. عجبت لمن تشغله المظاهر المكونة عن المكون المظهر. عجبت لمن يقسم الحياة إلى شطرين فيؤمن بالشطر المدفوع ويجحد الشطر الدافع.
عجبت لمن ينظر إلى تلك الجبال والسهول المغمورة بنور الشمس، ثم يصغي إلى الهواء متكلما بألسنة الأغصان، ثم يتجرع عطر الأزهار والرياحين، وبعد ذلك يقول لنفسه: لا ولن يزول ما أراه وأسمعه، لا ولن يضمحل ما أعرفه وأشعر به. ولكن، هذه الروح العاقلة التي ترى فتتهيب وتتأمل، وتسمع فتفرح وتكتئب؛ هذه الروح التي تشعر فترتعش وتنبسط، وتعلم فتكتئب وتتحقق؛ هذه الروح التي تحيط بكل شيء سوف تضمحل اضمحلال الفقاقيع على وجه البحر، وتزول زوال الظل أمام النور.
إي والحق، إني أعجب لكائن ينكر كيانه.
نجيب (متهيجا) :
قد آمنت بكياني يا سيدتي، ومن يسمعك متكلمة ولا يؤمن كان أشبه بالصخر منه بالإنسان.
العلوية :
إن الله وضع في كل نفس رسولا ليسير بنا إلى النور. ولكن، في الناس من يبحث عن الحياة في خارجه والحياة في داخله ولكنه لا يعلم.
نجيب :
أليس في خارجنا أنوار لا نستطيع بدونها الوصول إلى ما في أعماقنا؟ أليس في محيطنا قوى تستنهض قوانا ومؤثرات تنبه الغافل فينا؟ (يطرق هنيهة مترددا ثم يعود يقول):
أولم توح إليك روح والدك أمورا لا يعرفها سجين الجسد ورهين الأيام والليالي؟
العلوية :
أجل، ولكن عبثا يطرق الزائر باب البيت إذا لم يكن في داخل البيت من يسمع الطرقات ويقوم ليفتح في وجهه. إنما الإنسان كائن منتصب بين اللانهاية في باطنه واللانهاية في محيطه. فلو لم يكن فينا ما فينا لما كان في خارجنا ما في خارجنا. لقد ناجتني روح والدي؛ لأن روحي ناجتها وأوحت إلى عاقلتي الخارجية ما كانت تعرفه عاقلتي الباطنية، فلولا جوعي وعطشي لما حصلت على الخبز والماء، ولولا شوقي وحنيني لما لقيت موضوع شوقي وحنيني.
نجيب :
أيستطيع كل منا، يا سيدتي، أن يغزل سلكا من شوقه وحنينه ويمده بين روحه والأرواح المنعتقة ؟ أفليس هناك طائفة من الناس قد أعطيت المقدرة على مخاطبة الأرواح واستنزال مشيئتها ومراميها؟
العلوية :
إن بين سكان الأثير وسكان الأرض مخاطبات ومسامرات مستتبة باستتباب الأيام والليالي، وليس بين الناس من لم يأتمر بمشيئة القوى العاقلة غير المنظورة، فكم من عمل يأتي به الفرد متوهما أنه مخير بفعله وهو بالحقيقة مسير، وكم من عظيم في الأرض كانت عظمته في استسلامه التام إلى إرادة روح من الأرواح استسلام قيثارة دقيقة الأوتار إلى نقرات عازف خبير.
أجل، إن بين عالم المرئيات وعالم العقل سبيلا نجتازه في غيبوبات تحدث لنا ونحن غافلون، ثم نعود وفي أكفنا المعنوية بذور نلقيها في تربة حياتنا اليومية، فتنبت أعمالا جليلة أو أقوالا خالدة، ولولا تلك السبل المفتوحة بين أرواحنا والأرواح الأثيرية لما ظهر في الناس نبي ولا قام فيهم شاعر ولا سار بينهم عازف. (ترفع صوتها عن ذي قبل):
أقول، ومآتي الأدهار تشهد لي: إن بين الملإ الأعلى والملإ الأدنى روابط شبيهة بعلاقة الآمر بالمأمور والمنذر بالمنذر؛ أقول: إنا محاطون بوجدانات تستميل وجداناتنا، وعاقلات توعز إلى عاقلاتنا، وقوى تستنهض قوانا؛ أقول: إن شكوكنا لا تنفي امتثالنا إلى ما نشك به، وانصرافنا إلى أماني أجسادنا لا يصرفنا عن مراد الأرواح بأرواحنا، وتعامينا عن حقيقتنا لا يحجب حقيقتنا عن عيون المحجوبين عنا. فنحن وإن وقفنا فسائرون بمسيرهم وإن همدنا فمتحركون بحركاتهم، وإن صمتنا فمتكلمون بأصواتهم؛ فلا الهجوع فينا يزيل يقظتهم عنا، ولا اليقظة بنا تحول أحلامهم عن مسارح خيالنا. فنحن وهم في عالمين يضمهما عالم واحد، وفي حالتين تمنطقهما حالة واحدة، وفي وجودين يجمعهما ضمير كلي سرمدي أحد ليس له بدء، وليس له نهاية، وليس له فوق، وليس له تحت، وليس له حد، وليس له جهات.
نجيب :
أيأتي يوم، يا سيدتي، نعرف فيه بالاستقراء العلمي والاختبار الحسي ما تعرفه أرواحنا بالخيال وما تختبره قلوبنا بالتشويق؟ وهل يتقرر لنا بقاء الذات المعنوية بعد الموت مثلما تقرر لدينا بعض الأسرار الطبيعية، فنلمس بيد المعرفة المجردة ما نتلمسه الآن بأصابع الإيمان؟
العلوية :
نعم، سيأتي ذلك اليوم. ولكن، ما أضل الذين يدركون حقيقة مجردة ببعض حواسهم، ولكنهم يظلون مرتابين بها حتى تبدو لحواسهم الأخرى. ما أغرب من يسمع الشحرور مغردا ويشاهده مرفرفا متنقلا، ولكنه يبقى مشككا بما سمع وما رأى حتى يقبض بيده على جسم الشحرور. ما أغرب من يحلم بحقيقة جميلة ثم يحاول تجسيدها وحبسها بقوالب الظواهر فلا يفلح، فيرتاب بالحلم ويجحد الحقيقة ويشك بالجمال!
ما أجهل من يتخيل أمرا ويتصوره بشكله ومعالمه، وعندما يستحيل عليه إثباته بالمقاييس السطحية والبراهين اللفظية يحسب الخيال وهما والتصور شيئا فارغا. ولكن، لو تعمق قليلا وتأمل هنيهة لعلم أن الخيال حقيقة لم تتحجر بعد، وأن التصور معرفة أسمى من أن تتقيد بسلاسل المقاييس، وأعلى وأرحب من أن تسجن بأقفاص الألفاظ.
نجيب :
أفي كل خيال حقيقة، يا سيدتي، وهل في كل تصور معرفة؟
العلوية :
إي والحق، إن مرآة النفس لا تعكس سوى ما انتصب أمامها، ولو شاءت لما استطاعت. إن البحيرة الهادئة لا تريك في أعماقها خطوط جبال ورسوم أشجار وأشكال غيوم لا وجود لها بالحقيقة، ولو شاءت البحيرة لما استطاعت. إن خلايا الروح لا ترجع إليك صدى أصوات لم يرتعش بها الأثير حقا، ولو شاءت الخلايا لما استطاعت. إن النور لا يلقي على الأرض ظل شيء لا كيان له، ولو شاء النور لما استطاع.
إنما الإيمان بالشيء المعرفة بالشيء. والمؤمن يرى ببصيرته الروحية ما لا يراه الباحثون والمنقبون بعيون رؤوسهم، ويدرك بفكرته الباطنة ما لا يستطيعون إدراكه بفكرتهم المقتبسة. المؤمن يختبر الحقائق القدسية بحواس تختلف عن الحواس التي يستخدمها الناس كافة، فيظنها جدارا محكم البناء فيسير في طريقه قائلا: ليس لهذه المدينة من أبواب. (تقف العلوية وتخطو بضع خطوات نحو نجيب، وبلهجة من أوشك أن يبلغ من الكلام حدا لا يريد الزيادة عليه تقول):
إن المؤمن يعيش كل الأيام وكل الليالي، أما غير المؤمن فلا يعيش سوى ثوان معدودة منها. فما أضيق عيش من يرفع يده بين وجهه والعالم أجمع فلا يرى غير الخطوط في كفه ، وما أشد شفقتي على من يدير ظهره إلى الشمس فلا يرى ظل جسده على التراب.
نجيب (ينتصب واقفا شاعرا بدنو ساعة انصرافه) :
أأقول للناس، يا سيدتي، عندما أعود إليهم: إن إرم ذات العماد مدينة أحلام روحية، وإن آمنة العلوية قد سارت إليها على سبيل الشوق ودخلتها من باب الإيمان؟
العلوية :
قل: إن إرم ذات العماد مدينة حقيقية كائنة بكيان الجبال والغابات والبحار والصحاري، وقل: إن آمنة العلوية قد وصلت إليها بعد أن قطعت البادية الخالية وقاست ألم الجوع وحرقة العطش وكآبة الوحدة وهول الانفراد، وقل: إن جبابرة الدهور قد بنوا إرم ذات العماد مما تبلور وتجوهر من عناصر الوجود، ولم يحجبوها عن الناس، ولكن الناس حجبوا نفوسهم عنها، فمن يضل الوصول إليها فليشك دليله وحاديه بدلا من مصاعب الطريق وحراجتها، وقل للناس: إن من لا يشعل سراجه لا يرى في الظلام سوى الظلام. (ترفع وجهها نحو العلاء وتغمض عينيها، ويظهر على ملامحها نقاب من العطف والحلاوة).
نجيب (يدنو منها منحني الرأس ويظل صامتا هنيهة ثم يقبل يدها هامسا) :
ها قد بلغت الشمس الغروب، وعلي أن أعود إلى مساكن الناس قبل أن يكتنف الظلام الطريق.
العلوية :
سر في النور وسر بأمان الله.
نجيب :
سأسير في نور المشعل الذي وضعته في يدي، يا سيدتي.
العلوية :
سر بنور الحق الذي لا تطفئه الأهوية. (تنظر إليه نظرة طويلة مفعمة بشعاع الأمومة، ثم تتحول عنه وتمشي بين الأشجار حتى تنحجب عن عينيه).
زين العابدين (يقترب من نجيب) :
إلى أين أنت سائر الآن؟
نجيب :
إلى منزل أصحاب لي بقرب منبع العاصي.
زين العابدين :
أتسمح لي بمرافقتك؟
نجيب :
بكل سرور، ولكني ظننت أنك باق بجوار آمنة العلوية، فطوبتك روحي وتمنيت لو كنت مكانك.
زين العابدين :
نحن نحيا بنور الشمس عن بعد. ولكن، من منا يستطيع الحياة في الشمس؟ (بلهجة ذات معان بعيدة)
أجيء مرة في الأسبوع متبركا متزودا، وعندما يأتي المساء أعود قانعا مكتفيا.
نجيب :
وددت لو جاء الناس كافة مرة في الأسبوع؛ ليتبركوا ويتزودوا ويعودوا قانعين مطمئنين. (يحل نجيب مقود فرسه ويسير به راجلا بجانب زين العابدين).
الستار
سكوتي إنشاد
سكوتي إنشاد وجوعي تخمة
وفي عطشي ماء وفي صحوتي سكر
وفي لوعتي عرس وفي غربتي لقا
وفي باطني كشف وفي مظهري ستر
وكم أشتكي هما وقلبي مفاخر
بهمي، وكم أبكي وثغري يفتر
وكم أرتجي خلا وخلي بجانبي
وكم أبتغي أمرا وفي حوزتي الأمر
وقد ينثر الليل البهيم منازعي
على بسط أحلامي فيجمعها الفجر
نظرت إلى جسمي بمرآة خاطري
فألفيته روحا يقلصه الفكر
فبي من براني والذي مد فسحتي
وبي الموت والمثوى وبي البعث والنشر
فلو لم أكن حيا لما كنت مائتا
ولولا مرام النفس ما رامني القبر
ولما سألت النفس ما الدهر فاعل
بحشد أمانينا؟ أجابت أنا الدهر
يا من يعادينا
يا من يعادينا وما إن لنا
ذنب إليه غير أحلامنا
هذي رحيق ما لها أكؤس
فكيف نسقيها للوامنا
وهي بحار مدها صمتنا
وجزرها في حبر أقلامنا •••
جاورتم الأمس وملنا إلى
يوم موشى صبحه بالخفاء
ورمتم الذكرى وأطيافها
ونحن نسعى خلف طيف الرجاء
وجبتم الأرض وأطرافها
ونحن نطوي بالفضاء الفضاء
لوموا وسبوا والعنوا واسخروا
وساوروا أيامنا بالخصام
وابغوا وجوروا وارجموا واصلبوا
فالروح فينا جوهر لا يضام
فنحن نحن كوكب لا يسير
إلى الورا في النور أو في الظلام
إن تحسبونا ثلمة في الأثير
لن تستطيعوا رتقها بالكلام
يا نفس
يا نفس لولا مطمعي
بالخلد ما كنت أعي
لحنا تغنيه الدهور
بل كنت أنهى حاضري
قسرا فيغدو ظاهري
سرا تواريه القبور •••
يا نفس لو لم أغتسل
بالدمع أو لم يكتحل
جفني بأشباح السقام
لعشت أعمى وعلى
بصيرتي ظفر، فلا
أرى سوى وجه الظلام •••
يا نفس ما العيش سوى
ليل إذا جن انتهى
فالفجر، والفجر يدوم
وفي ظما قلبي دليل
على وجود السلسبيل
في جرة الموت الرحوم •••
يا نفس إن قال الجهول
الروح كالجسم تزول
وما يزول لا يعود
قولي له: إن الزهور
تمضي ولكن البذور
تبقى وذا كنه لخلود
البلاد المحجوبة
هو ذا الفجر فقومي ننصرف
عن ديار ما لنا فيها صديق
ما عسى يرجو نبات يختلف
زهره عن كل ورد وشقيق
وجديد القلب أنى يأتلف
مع قلوب كل ما فيها عتيق
هو ذا الصبح ينادي فاسمعي
وهلمي نقتفي خطواته
قد كفانا من مساء يدعي
أن نور الصبح من آياته •••
قد أقمنا العمر في واد تسير
بين ضلعيه خيالات الهموم
وشهدنا اليأس أسرارا تطير
فوق متنيه كعقبان وبوم
وشربنا السقم من ماء الغدير
وأكلنا السم من فج الكروم
ولبسنا الصبر ثوبا فالتهب
فغدونا نتردى بالرماد
وافترشناه وسادا فانقلب
عندما نمنا هشيما وقتاد •••
يا بلادا حجبت منذ الأزل
كيف نرجوك ومن أي سبيل
أي فقر دونها، أي جبل
سورها العالي ومن منا الدليل؟
أسراب أنت أم أنت الأمل
في نفوس تتمنى المستحيل؟
أمنام يتهادى في القلوب
فإذا ما استيقظت ولى المنام
أم غيوم طفن في شمس الغروب
قبل أن يغرقن في بحر الظلام؟ •••
يا بلاد الفكر يا مهد الألى
عبدوا الحق وصلوا للجمال
ما طلبناك بركب أو على
متن سفن أو بخيل ورحال
لست في الشرق ولا الغرب ولا
في جنوب الأرض أو نحو الشمال
لست في الجو ولا تحت البحار
لست في السهل ولا الوعر الحرج
أنت في الأرواح أنوار ونار
أنت في صدري فؤادي يختلج
حرقة الشيوخ
يا زمان الحب، قد ولى الشباب
وتوارى العمر كالظل الضئيل
وامحى الماضي، كسطر من كتاب
خطه الوهم على الطرس البليل
وغدت أيامنا قيد العذاب
في وجود بالمسرات بخيل
فالذي نعشقه يأسا قضى،
والذي نطلبه مل وراح
والذي حزناه بالأمس مضى
مثل حلم بين ليل وصباح •••
يا زمان الحب، هل يغني الأمل
بخلود النفس عن ذكر العهود؟
هل، ترى، يمحو الكرى رسم القبل
عن شفاه ملها ورد الخدود؟
أو يدانينا وينسينا الملل
سكرة الوصل وأشواق الصدود؟
هل يصم الموت آذانا وعت
أنه الظلم وأنغام السكون؟
هل يغشي القبر أجفانا رأت
خافيات القبر والسر المصون؟
كم شربنا من كؤوس سطعت
في يد الساقي كنور القبس!
ورشفنا من شفاه جمعت
نغمة اللطف بثغر ألعس!
وتلونا الشعر حتى سمعت
زهر الأفلاك صوت الأنفس ... تلك أيام تولت كالزهور
بهبوط الثلج من صدر الشتاء
فالذي جادت به أيدي الدهور
سلبته خلسة كف الشقاء ...
لو عرفنا ما تركنا ليلة
تنقضي بين نعاس ورقاد
لو عرفنا ما تركنا لحظة
تنثني بين خلو وسهاد
لو عرفنا ما تركنا برهة
من زمان الحب تمضي بالبعاد
قد عرفنا الآن، لكن بعدما
هتف الوجدان: «قوموا واذهبوا!»
قد سمعنا وذكرنا عندما
صرخ القبر ونادى: «اقتربوا!»
بالله يا قلبي
بالله يا قلبي
أكتم هواك
واخف الذي تشكوه
عمن يراك - تغنم
من باح بالأسرار
يشابه الأحمق
فالصمت والكتمان
أحرى بمن يعشق
بالله يا قلبي
إذا أتاك
مستعلم يسأل
عما دهاك - فاكتم
يا قلب إن قالوا:
أين التي تهوى؟
قل: قد سبت غيري
ثم ادع السلوى
بالله يا قلبي
استر جواك
فما الذي يضنيك
إلا دواك - فاعلم
الحب في الأرواح
كخمرة في الكاس
ما بان منها ماء
وما خفي أنفاس
بالله يا قلبي
احبس عناك
إن ضجت الأبحار
أو هدت الأفلاك - تسلم
أغنية الليل
سكن الليل، وفي ثوب السكون
تختبي الأحلام
وسعى البدر، وللبدر عيون
ترصد الأيام •••
فتعالي، يا ابنة الحقل، نزور
كرمة العشاق
علنا نطفي بذياك العصير
حرقة الأشواق •••
اسمعي البلبل ما بين الحقول
يسكب الألحان
في فضاء نفخت فيه التلول
نسمة الريحان •••
لا تخافي، يا فتاتي، فالنجوم
تكتم الأخبار
وضباب الليل في تلك الكروم
يحجب الأسرار
لا تخافي، فعروس الجن في
كهفها المسحور
هجعت سكرى وكادت تختفي
عن عيون الحور •••
ومليك الجن إن مر يروح
والهوى يثنيه
فهو مثلي عاشق كيف يبوح
بالذي يضنيه!
البحر
في سكون الليل لما تنثني
يقظة الإنسان من خلف الحجاب
يصرخ الغاب: أنا العزم الذي
أنبتته الشمس من قلب التراب
غير أن البحر يبقى ساكتا
قائلا في نفسه: العزم لي
ويقول الصخر: إن الدهر قد
شادني رمزا إلى يوم الحساب
غير أن البحر يبقى صامتا
قائلا في نفسه: الرمز لي
وتقول الريح: ما أغربني
فاصلا بين سديم وسما
غير أن البحر يبقى ساكتا
قائلا في نفسه: الريح لي
ويقول النهر: ما أعذبني
مشربا يروي من الأرض الظما
غير أن البحر يبقى صامتا
قائلا في ذاته: النهر لي
ويقول الطود: إني قائم
ما أقام النجم في صدر الفلك
غير أن البحر يبقى هادئا
قائلا في نفسه: الطود لي
ويقول الفكر: إني ملك
ليس في العالم غيري من ملك
غير أن البحر يبقى هاجعا
قائلا في نومه: الكل لي
الشحرور
أيها الشحرور غرد
فالغنا سر الوجود
ليتني مثلك حر
من سجون وقيود •••
ليتني مثلك روحا
في فضا الوادي أطير
أشرب النور مداما
في كؤوس من أثير •••
ليتني مثلك طهرا
واقتناعا ورضى
معرضا عما سيأتي
غافلا عما مضى •••
ليتني مثلك ظرفا
وجمالا وبها
تبسط الريح جناحي
كي يوشيه الندى •••
ليتني مثلك فكرا
سابحا فوق الهضاب
أسكب الأنغام عفوا
بين غاب وسحاب •••
أيها الشحرور غن
واصرف الأشجان عني
إن في صوتك صوتا
نافخا في أذن أذني
الجبار الرئبال
في ظلام الليل يمشي مبطئا
وهو مثل الليل هولا قد بدا
وحده يمشي كأن الأرض لم
تبر إلاه عظيما سيدا •••
ويدوس التراب مرفوعا كما
تلمس الأطلال أطراف السحاب
فكأن الجسم في أثوابه
من شعاع وسديم وضباب •••
قلت: يا طيفا يعيق الليل في
سيره، هل أنت جن أم بشر؟
قال مغتاظا وفي ألفاظه
رنة الهزء: أنا ظل القدر
قلت: لا يا طيف قد مات القضا
يوم ضمتني ذراع القابله
قال محتارا: أنا الحب الذي
لا ينال العيش إلا نائله •••
قلت: لا فالحب زهر لا يعيش
بعد أن تذبل أزهار الربيع
قال غضبانا وفي لهجته
ضجة البحر: أنا الموت المريع •••
قلت: لا فالموت صبح إن أتى
أيقظ النائم من غفلته
قال مختالا: أنا المجد فمن
لم ينلني مات في علته
قلت: لا فالموت ظل ينثني
مضمحلا بين لحد وكفن
قال مرتابا: أنا السر الذي
يتهادى بين روح وبدن
قلت: لا فالسر إن باحت به
يقظة الفكر تولى كالمنام
قال ملتاعا: كفى تسألني
من أنا. قلت: أفي السؤل ملام؟ •••
قال محجوبا: أنا أنت فلا
تسألن الأرض عني والسما
فإذا ما شئت أن تعرفني
فارقب المرآة صبحا ومسا •••
قال هذا واختفى عن ناظري
مثلما الدخان تذريه الرياح
تاركا ما بي من الفكر يهيم
بين أشباح الدجى حتى الصباح
إذا غزلتم
إذا غزلتم حول يومي الظنون
وإن حبكتم حول ليلي الملام
فلن تدكوا برج صبري الحصين
ولن تزيلوا من كؤوسي المدام
ففي حياتي منزل للسكون
وفي فؤادي معبد للسلام
ومن تغذى من طعام المنون
لا يختشي من أن يذوق المنام
الشهرة
كتبت في الجزر سطرا على الرمل
أودعته كل روحي مع العقل •••
وعدت في المد أقرا وأستجلي
فلم أجد في الشواطي سوى جهلي
بالأمس
كان لي بالأمس قلب فقضى
وأراح الناس منه واستراح
وذاك عهد من حياتي قد مضى
بين تشبيب وشكوى ونواح
إنما الحب كنجم في الفضا
نوره يمحى بأنوار الصباح
وسرور الحب وهم لا يطول
وجمال الحب ظل لا يقيم
وعهود الحب أحلام تزول
عندما يستيقظ العقل السليم •••
كم سهرت الليل والشوق معي
ساهر أرقبه كي لا أنام
وخيال الوجد يحمي مضجعي
قائلا: «لا تدن! فالنوم حرام»
وسقامي هامس في مسمعي: «من يريد الوصل لا يشكو السقام»
تلك أيام تقضت، فابشري،
يا عيوني بلقا طيف الكرى
واحذري، يا نفس، ألا تذكري
ذلك العهد وما فيه جرى •••
كنت إن هبت نسيمات السحر
أتلوى راقصا من مرحي
وإذا ما سكب الغيم المطر
خلته الراح فأملا قدحي
وإذا البدر على الأفق ظهر
وهي قربي صحت: «هلا يستحي»
كل هذا كان بالأمس، وما
كان بالأمس تولى كالضباب
ومحا السلوان ماضي كما
تفرط الأنفاس عقدا من حباب •••
يا بني أمي إذا جاءت سعاد
تسأل الفتيان عن صب كئيب
فاخبروها أن أيام البعاد
أخمدت من مهجتي ذاك اللهيب
ومكان الجمر قد حل الرماد
ومحا السلوان آثار النحيب
فإذا ما غضبت لا تغضبوا
وإذا ناحت فكونوا مشفقين
وإذا ما ضحكت لا تعجبوا
إن هذا شأن كل العاشقين •••
ليت شعري! هل لما مر رجوع
أو معاد لحبيب وأليف؟
هل لنفسي يقظة بعد الهجوع
لتريني وجه ماضي المخيف؟
هل يعي أيلول أنغام الربيع
وعلى أذنيه أوراق الخريف
لا، فلا بعث لقلبي أو نشور
لا، ولا يخضر عود المحفل
ويد الحصاد لا تحيي الزهور
بعد أن تبرى بحد المنجل •••
شاخت الروح بجسمي وغدت
لا ترى غير خيالات السنين
فإذا الأميال في صدري فشت
فبعكاز اصطباري تستعين
والتوت مني الأماني وانحنت
قبل أن أبلغ حد الأربعين •••
تلك حالي فإذا قالت رحيل:
ما عسى حل به؟ قولوا: الجنون
وإذا قالت: أيشفى ويزول
ما به؟ قولوا: ستشفيه المنون
ماذا تقول الساقية؟
سرت في الوادي وقد جاء الصباح
معلنا سر وجود لا يزول
فإذا ساقية بين البطاح
تتغنى وتنادي وتقول:
ما الحياة بالهناء
إنما العيش نزوع ومرام
ما الممات بالغناء
إنما الموت قنوط وسقام
ما الحكيم بالكلام
بل بسر ينطوي تحت الكلام
ما العظيم بالمقام
إنما المجد لمن يأبى المقام
ما النبيل بالجدود
كم نبيل كان من قتلى الجدود
ما الذليل بالقيود
قد يكون القيد أسنى من عقود
ما النعيم بالثواب
إنما الجنة بالقلب السليم
ما الجحيم بالعذاب
إنما القلب الخلي كل الجحيم
ما العقار بالنضار
كم شريد كان أغنى الأغنياء
ما الفقير بالحقير
ثروة الدنيا رغيف ورداء
ما الجمال بالوجوه
إنما الحسن شعاع للقلوب
ما الكمال للنزيه
رب فضل كان في بعض الذنوب
هذا ما قالته تلك الساقية
لصخور عن يمين ويسار
رب ما قالته تلك الساقية
كان من أسرار هاتيك البحار
Unknown page