ما كادت الشمس تشرق حتى كان الشاب في طريقه إلى الغابة يعدو في مشيته ونفسه تنزع إلى معرفة سر الرجل، حتى إذا انتهى به المسير إلى الساحة التي وصفها له عرابه وقف يتأمل برهة، فرأى طريقا غاية في الإبداع تحف به الأشجار على كلا الجانبين، وينتهي بقصر شاهق محاط ببستان جميل يتلألأ في تلك البقعة النضرة تلألؤ الكوكب المنير.
عند فناء هذا القصر البديع قابله عرابه بوجه باسم ومشى به إلى الحديقة أولا ثم القصر ثانيا متنقلا به من جهة لأخرى، يريه مقاصير القصر، ويطلعه على محتوياته، وكان كلما مشى خطوة زاد تعجبه من محتويات القصر وفرشه الثمين، إلى أن انتهى بهما المسير إلى غرفة مقفلة فوقف العراب أمامها وأشار إليها قائلا: «قد انتهينا الآن من طوافنا، وقد أطلعتك على كل ما في القصر، ولك أن تمرح فيه كيف تشاء وأنى شئت، ولكن حذار أن تدخل هذه الحجرة.»
وما كاد العراب يفرغ من كلامه هذا حتى اختفى عن الأنظار، ولم يظهر له أثر بعد ذلك، فقضى الشاب ردحا من الزمن وقد طابت له السكنى في القصر، فعاش هنيء البال، قرير العين مدة تقرب من الثلاثين عاما مرت عليه كحول واحد؛ لاغتباطه وسروره.
مرت عليه تلك المدة الطويلة وهو في مقام كريم وعيشة راضية، ثم تسرب إليه الملل شيئا فشيئا، فصار يطوف القصر طول يومه يبحث عن شيء جديد يسلي به النفس، وإذا به واقف ذات يوم أمام الغرفة المقفلة ، ثم تذكر وصية عرابه فتنازعه عاملان: عامل الفضول، وعامل احترام الوصية.
وأخيرا تغلب عليه الفضول؛ ففتح الباب، ثم ولج الغرفة، وتقدم فيها بضع خطوات، فرأى نفسه في بهو فسيح يتوسطه عرش كبير، يصعد إليه المرء ببضع سلمات، فتقدم نحوه ورقيه ثم جلس يتأمل ما حوله، فوقع بصره على صولجان بديع الصنع بالقرب منه، فمد إليه يده ليمسكه، وما كاد الصولجان يستقر بين أصابعه حتى سمع ضجة وجلبة، وإذا بأركان الغرفة تهتز، ثم ارتفع جدران البهو، فنظر، وإذا به يرى العالم أجمع منبسطا أمامه وهو ينظر إليه من عل.
نظر أمامه فرأى البحار والمحيطات تمخر فيها المراكب، وتشق عبابها السفن، ثم التفت يمنة فأبصر عوالم غريبة وأجناسا مختلفة من البشر يخالفونه في الشكل واللباس، ثم أدار وجهه إلى جهة أخرى فرأى أناسا يقاربونه في شكلهم ولباسهم يتكلمون بلغة يفهمها، فعلم أنهم روسيون مثله؛ فتهلل وجهه، وحدثته نفسه أن يبحث عن أهله وقريته بين مئات القرى.
وما كاد يهتدي إليها حتى خطر بباله أن يتفقد حقل والده، فصوب نظره نحو الحقل، فرأى أكداس الحصيد منتشرة في طول الحقل وعرضه على أهبة النقل، ثم أبصر رجلا يتسلل إلى الحقل بعربته، فظن أن والده جاء ليلا ليحمل الغلال إلى مخازنه، ولكنه لم يكد يتبينه حتى علم أنه (واسيلي كوندارتشوف) جاء متسترا بأثواب الليل ليسرق بعض القمح، وعند ذلك انتفض الشاب غضبا وصاح بأعلى صوته: «قم يا أبت؛ فإن اللص يسرق القمح من مزرعتك.» وكان الوالد إذ ذاك نائما على بعد من المزرعة، فقام من فوره ينفض عن نفسه غبار النوم ويناجي نفسه قائلا: «قد نبهني صوت هاتف يقول إن لصا يسرق الحنطة من الحقل، فسوف أذهب إلى هناك لأتحقق الأمر بنفسي.» قال ذلك وامتطى فرسه، ثم أسرع للحقل، وهناك رأى اللص (واسيلي) فأمسك بخناقه وساقه إلى السجن.
عند ذلك اطمأن بال الابن وصوب نظره إلى مدينة القرية؛ ليتفقد حال عرابته ابنة التاجر، فعلم أنها تزوجت من رجل تاجر، ثم نظر فرآها نائمة ورأى زوجها قد قام إلى الباب متسللا، ثم خرج يمشي في طرقات المدينة ليلا، فأتبعه النظر فرآه قد دخل عند امرأة أخرى علم أنها خليلته ذهب إليها في تلك الساعة من الليل ليخون امرأته، فاستفزه الغضب لهذا الأمر وصاح بعرابته ينبهها قائلا: «ألا انتبهي أيتها الغافلة؛ فإن زوجك يسلك طريق الغواية.» فقامت المرأة من نومها فزعة وتلمست مكان زوجها فلم تجده، فتحققت صدق قول الهاتف، فلبست ثيابها مسرعة، وذهبت تبحث عنه، إلى أن اهتدت إليه وهو بين أحضان خليلته، فشب بينه وبينها عراك عنيف، ورجعت إلى بيتها مغضبة بعد أن أوسعت زوجها شتما وتوبيخا.
عند ذلك اطمأن بال الشاب، وخطر بباله أن يتفقد حال أمه، فصوب نظره نحو البيت، فأبصر لصا يحاول كسر الصندوق الذي اعتادت أمه أن تضع فيه أمتعتها، ووجد أمه نائمة بالغرفة المجاورة، ثم نظر فرآها قد استيقظت على أثر صوت الكسر، ورأى أن اللص قد أمسك بيمينه فأسا يريد أن يهوي به على رأس أمه ليقتلها، فلم يتمالك الولد أن هوى بالصولجان على رأس اللص، فوقع لساعته قتيلا، عند ذلك اهتز أركان العرش وسمع صوت الجدران تنزل ثانية، ثم نظر، وإذا بالغرفة قد عادت كما كانت، وبعد برهة فتح الباب ودخل عرابه متقدما نحو العرش، فأخذه بيده وأنزله منه وهو يقول: «هاأنذا أراك قد خالفت أمري، وارتكبت معصية الدخول إلى الغرفة مع تحذيري إياك، ثم أتبعتها بخطيئة أخرى عندما علوت العرش وتداخلت فيما لا يعنيك، وأخيرا ختمت هاتين المعصيتين بجرم أفظع؛ إذ قتلت نفسا بشرية، ولو تسنى لك أن تمكث هنا نصف ساعة أخرى لكنت تتلف نصف العالم.»
قال الرجل هذا القول وأمسك بيد الشاب وقاده ثانية إلى العرش وقبض بيده على الصولجان فارتفع الجدران ثانية وانكشف العالم أمامهما مرة أخرى، ثم أشار العراب بيده قائلا: «انظر ماذا قدمت لوالدك من إساءة كنت تظنها مكرمة، ها هو واسيلي اللص قد أمضى سحابة عامه بين جدران السجن مهد الشر والموبقات، فازداد غلظا وشراسة، وكانت فاتحة شروره بعد خروجه من السجن أن سرق فرسين لوالدك، وها هو الآن يضرم النار في أجران القمح؛ انتقاما لنفسه من أبيك، كل هذه المصائب أنت السبب في جلبها لأبيك.» فنظر الشاب أمامه فرأى أكوام القمح تحترق، فهلع قلبه اضطرابا، ولم يتمكن من إدامة النظر؛ لأن العراب التفت إلى جهة أخرى وأشار قائلا: «انظر، ها هو زوج العرابة مضى عليه عام بعد هجر زوجته ولم يقلع بعد عن شروره وآثامه، أما خليلته فقد زادت انغماسا في شهواتها، وها هي عرابتك تندب سوء حظها، وتقضي ليلها تعالج همومها بالمسكرات؛ بغية أن تجد الصبر والسلوان، فهل رأيت صنعك لعرابتك؟! والآن انظر لترى ما قدمته يداك لأمك المسكينة.» فنظر، وإذا به يرى والدته في كسر دارها قد أثقلت ظهرها الهموم وهي تقاسي الأمرين من تبكيت الضمير، وتندب حظها قائلة: «ويح نفسي! ما أشقاها! لقد كان الأولى بي أن يقضي علي اللص في تلك الليلة المشئومة من أن يحملني تلك الخطيئة.»
Unknown page