وبعد أن انتهت من حديثها ضمت إليها بيمينها إحدى الطفلتين ومسحت بيسارها عبراتها المنسجمة، فتنهدت ماتروينا وقالت: «حقا؛ لقد صدق المثل القائل: «إن الإنسان يمكنه أن يعيش بلا أب أو أم، ولكنه لا يمكنه ذلك بدون رحمة الله».»
ثم ساد السكوت، وانبثق نور وضاء من الركن الذي كان فيه ميكائيل، وأنار كأنه ضوء الشمس القوي في الصيف، فنظروا إليه فإذا هو جالس، ويداه على منكبيه، وعيناه تتطلعان إلى السماء، ووجهه يتلألأ، وثغره يبتسم.
ما ذهبت المرأة بطفلتيها حتى قام ميكائيل وانحنى أمام سيمون وقال: «الوداع! الوداع! لقد غفر لي ربي، ولم يبق إلا أن أسألك عفوك إن كنت هفوت أو أذنبت.» ثم تلألأت غرته وعلا وجهه غطاء نوري فانحنى أمامه سيمون قائلا: «عفوا يا ميكائيل، فإنك لست بشرا سويا، وأنا ليس في قدرتي أن أرغمك على القيام عندي، أو أتجاسر أن أسألك أكثر مما أريد أن تجيبني عنه الآن، إنك ابتسمت ثلاث ابتسامات فأشرق النور من محياك، فخبرني أيها الصديق عن سر ذلك الابتسام، ومبعث هذا النور الوهاج.» فأجاب ميكائيل: «إن الله أرسلني لأتعلم ثلاث حقائق، وقد أتممتها؛ فابتساماتي الثلاث مظاهر الفرح الذي ملأ قلبي، أما النور فينبعث مني؛ لأن الله غفر ذنبي وسامحني.»
فقال سيمون: «ولم عاقبك الله؟ وما هي تلك الحقائق التي بعثت لمعرفتها؟!» فأجابه: «إني كنت ملكا في السماء فخالفت أمر ربي؛ إذ أرسلني لأقبض روح امرأة من عباده، فهبطت إلى الأرض وإذا بي أراها مسكينة هزيلة، قد وضعت لوقتها توأمتين؛ فلما رأتني فقهت كنه حقيقتي، وعرفت أنني أتيت في طلب روحها، فأجهشت بالبكاء، وبصوت تقطعه الغصات العميقة توسلت قائلة: «أيها الملاك الطاهر؛ رفقا بامرأة ضعيفة كسيرة القلب قتل زوجها وحرمت من كل نصير لها في الحياة، أنا غريبة عن العالم أجمع، فأمهلني ريثما تترعرع هاتان اليتيمتان، وبعدها أموت راضية مطمئنة، بربك لا تعجل ساعة يتمهما؛ فحياة الطفل بأمه.» فرجعت إلى ربي وبلغته رسالتها، فأمرني أن أهبط ثانية وأستل روحها، وبعد أن أديت ما أمرت به أردت الصعود، وإذا بأجنحتي تسقط، وريح شديدة تصدني، فوقعت بجانب الطريق.»
فعلم سيمون وماتروينا حقيقة هذا المخلوق الذي شملاه بعطفهما وحنانهما طول هذه المدة، ثم بكيا روعة وجلالا، أما الملك فأخذ يقص قصته وهو يقول: «لقد هبطت إلى الأرض وأنا لا أعرف ما يعتري الإنسان من حر وبرد، فكدت أموت جوعا، وكادت أعضائي تصير قطعة من الجليد، ولكني لم أدر ماذا أفعل؟ ذهبت إلى المعبد لآوي إليه فوجدته موصدا، فجلست بجانبه، واتكأت على جدرانه؛ اتقاء من العاصفة الشديدة، وبينا أنا كذلك أشعر بألم الجوع والبرد؛ إذ مر علي أول مخلوق أرضي وقعت عليه عيني منذ صرت رجلا أشعر وأتألم، تمثلت أمامي صورته فرأيت فيها قبح النظر متجسما، وظننت أن الله لم يخلق أفظع منه شكلا، فحولت بصري عنه، وأما الرجل فما كاد يراني حتى استولى عليه الرعب، وسار من طريق آخر حتى لا يمر بي، فملأ اليأس قلبي، ولكني ما لبثت أن رأيته راجعا نحوي، ونظراته تنم عن حب كامن وعطف مستتر، فدثرني بثيابه وآواني إلى منزله؛ حيث قابلتنا زوجته وعيناها تقدحان شررا وغضبا، ولكنها ما لبثت أن خففت من حدتها وعطفت علي فقدمت لي الطعام وكئوس الشراب، وإذ ذاك أتممت الدرس الأول من دروسي، وتعلمت إحدى الحقائق الثلاث؛ وهي: ماذا يكمن في الإنسان؟ فعلمت أنها «الرحمة» وحدها.
جاء السيد بعد ذلك بعام واحد فأمر بعمل حذاء لا يبلى قبل مرور حول كامل، ورأيت وراءه رفيقي ملك الموت، فعلمت أن الشمس لا تغرب حتى تغرب حياة ذلك السيد، وإذ ذاك وقفت على سر الحقيقة الثانية؛ وهي: «ما الذي لم يحط به الإنسان علما؟» فعلمت أنها «حاجيات نفسه» وهنا ابتسمت ابتسامتي الثانية؛ إذ لم يبق أمامي إلا الدرس الأخير، وليس بيني وبين ملكوت السموات إلا فرج الله النهائي، ظللت عائشا معكم أنتظر مشيئة الله إلى أن أتت التوأمتان فعرفت الطفلتين، ولما سمعت كيف عاشا إلى هذا الوقت وتذكرت قول أمهما: (إن الطفل لا يعيش بدون رحمة أمه وعطفها عليه) تحققت بطلان هذه الدعوى، ولما تساقطت الدموع من عيني تلك المرأة - دموع الرأفة والرحمة - وضمتهما إلى صدرها الممتلئ عطفا وحنانا عرفت أن في قلبها عاطفة سامية هي عاطفة (الرحمة) التي هي سر الحقيقة الأخيرة؛ وهي: (بم يعيش الناس؟)
إني لم أظل حيا لأني أخذت الحيطة لنفسي؛ بل لأن الله قيض لي إنسانا منحني بعض ما في نفسه من (الرحمة) فشملاني هو وزوجه بعطفهما وحنانهما، كذلك اليتيمتان بقيتا تستنشقان نسمات الحياة إلى هذا الوقت لا باعتناء أمهما، ولكن لأن عاطفة الرحمة تحركت في قلب امرأة غريبة عنهما؛ فعنيت بأمرهما، وبكت من أجلهما، فالعالم كله والناس أجمعون لا يعيشون في هذا الكون بمحض تدبيرهم وإرادتهم وبما يعملون لحفظ كيانهم فحسب، ولكنهم يعيشون بعاطفة الرحمة التي أودعها الله في الإنسان؛ فهي التي تحفظ فيهم حرارة الحياة، «إن من يرحم فقد تقرب إلى الله؛ لأنه هو الذي خلق فيه الرحمة».»
وبعد أن أتم ميكائيل قوله غنى أنشودة إلهية؛ فاضطرب الكوخ، وخر سيمون وأهله مغشيا عليهم، ثم فتح السقف من فوقهم، وظهرت الأجنحة على ذراعي الملك، ثم صعد عمود من الدخان إلى السماء، وهكذا ارتفع الملك إلى عرش ربه، ولما ثاب سيمون إلى رشده وجد كوخه كما كان، والتفت يمنة ويسرة فلم ير إلا أسرته الأولى.
هوامش
الحكاية الثانية
Unknown page