بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الأول
في بدائع بدائه الأجوبة
فمن ذلك ما أخبرني به الشيخ الفقيه الأجل أبو محمد عبد الخالق ابن زيدان المسكي
وكتب لي بخطه قال: أملى على الشيخ العلامة أبو محمد بن برى ﵀ قال: لقي عبيد بن الأبرص امرأ القيس، فقال له عبيد: كيف معرفتك بالأوابد؟ فقال: ألق ما أحببت؛ فقال عبيد:
ما حبة ميتة أحيت بميتها ... درداء ما أنبتت سنا وأضراسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الشعيرة تسقى في سنابلها ... فأخرجت بعد طول المكث أكداسا
فقال عبيد:
ما السود والبيض والأسماء واحدة ... لا يستطيع لهن الناس تساسا
فقال امرؤ القيس:
تلك السحاب إذا الرحمن أرسلها ... روى بها من محول الأرض أيباسا
فقال عبيد:
ما مرتجاة على هول مراكبها ... يقطعن طول المدى سيرًا وإمراسا
فقال امرؤ القيس:
تلك النجوم إذا حانت مطالعها ... شبهتها في سواد الليل أقباسًا
فقال عبيد:
1 / 6
ما القاطعات لأرضٍ لا أنيس بها ... تأتي سراعًا وما ترجعن أنكاسًا
فقال امرؤ القيس:
تلك الرياح إذا هبت عواصفها ... كفى بأذيالها للترب كناسًا
فقال عبيد:
ما الفاجعات جهارًا في علانيةٍ ... أشد من فيلقٍ مملوءة باسًا
فقال امرؤ القيس:
تلك المنايا فما يبقين من أحدٍ ... يكفتن حمقى وما يبقين أكياسًا
فقال عبيد:
ما السابقات سراع الطير في مهلٍ ... لا تستكين ولو ألجمتها فاسًا
فقال امرؤ القيس:
تلك الجياد عليها القوم قد سبحوا ... كانوا لهن غداة الروع أحلاسًا
فقال عبيد:
ما القاطعات لأرض الجو في طلقٍ ... قبل الصباح وما يسرين قرطاسًا
فقال امرؤ القيس:
تلك الأماني تتركن الفتى ملكًا ... دون السماء ولم ترفع به راسًا
فقال عبيد:
ما الحاكمون بلا سمعٍ ولا بصرٍ ... ولا لسانٍ فصيح يعجب الناسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الموازين والرحمن أنزلها ... رب البرية بين الناس مقياسًا
ومثل هذا وإن تفاوت ما بين الأعصار ولم يكن من باب الألغاز
ما ذكر أن الشريف أبا جعفر مسعود بن الحسن العباسي - وهو من ولد العباس - بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ويعرف بالبياضى - كان يتعشق قينةً ببغداد اسمها بدور، وتعرف بجارية بنت الملك، وفيها يقول:
شكا القلب ظلمته في الحشى ... إلي فأسكنت فيه بدورا
وكانت تنزل ببغداد في القطيعة، فاجتمع يومًا هو وأبو تراب هبة الله بن السريجي - وكان شاعرًا - فقال بديهًا يخاطب الشريف:
أسلوت حب بدور أم تتجلد ... وسهرت ليلك أم جفونك ترقد؟
1 / 7
فقال الشريف بديهًا:
لا، بل هم ألفوا القطيعة مثلما ... ألفوا نزولهم بها فتبعدوا
فقال أبو تراب:
فإلام تصبر والفؤاد متيم ... ولظى اشتياقك في الحشى يتوقد!
فقال الشريف:
ما دام لي جلد فلست بجازعٍ ... إذ كان صبري في العواقب يحمد
فقال أبو تراب:
أحسنت، كتمان الهوى مستحسن ... لو كان ماء العين مما يجمد
فقال الشريف:
إن كان جفني فاضحي بدموعه ... أظهرت للجلساء أني أرمد
فقال أبو تراب:
فهب الدموع إذا جرت موهتها ... فيقال: لم أنفاسه تتصعد؟
فقال الشريف:
أمشي وأسرع كي يظنوا أنها ... من ذلك المشي السريع تولد
فقال أبو تراب:
هذا يجوز ومثله مستعمل ... لكن وجهك بالمحبة يشهد
فقال الشريف:
إن كان وجهي شاهدًا بهوىً فما ... يدرى إلى من بالمحبة أقصد
فقال أبو تراب:
قد رجم الناس الظنون وأجمعوا ... أن التي ذكرت إليها المقصد
فقال الشريف:
لو يجمعون كما زعمت لما رووا ... لي في سواها ما نظمت وأنشدوا
فقال أبو تراب:
قد كان حبك غيرها متحققًا ... والأمر يحدث الهوى يتجدد
فقال الشريف:
حقت حبي غيرها وجعلتها ... مظنونةً، ذا كله لى جيد
فقال أبو التراب:
1 / 8
لو لم تقل ألفوا القطيعة جاز أن ... تنفى به بدر التمام وتجحد
فقال الشريف:
ما قلت لى جلد نفيت به الهوى ... عنى ولكن قلت: في تجلد
فقال أبو التراب:
فإلى متى هذا وطرف رقيبها ... مغضٍ وطيف خيالها متردد
فقال الشريف:
أنا دائبًا أبغي الوصال فإن أبت ... منه على عاداتها فسأجهد
فقال أبو التراب:
اخضع وذل لمن تحب فليس في ... حكم الهوى أنف يشال ويعقد
فقال الشريف:
ذا لا يكون مع الحبيب وإنما ... مع ساقطٍ متحيلٍ يتعمد
أنبأني الشيخان
الأجل العلامة تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي والشيخ جمال الدين أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الأنصاري المعروف بابن الحرستاني قاضي دمشق الآن - أيدهما الله تعالى - إجازة، قالا: أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عساكر الدمشقي قراءة عليه - ونحن نسمع - قال: أخبرنا أبو السعادات أحمد بن أحمد بن عبد الواحد المتوكلي، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا أبو عبد الله بن أبي الفتح الفارسي، حدثنا محمد بن حميد الخراز، أخبرنا الصولي، حدثني أبو الفضل بل مخلد بن أبان، حدثنا إسحاق الموصلي، قال: حدثنا الأصمعي قال: أول ما تكلم به النابغة - يعني الذبياني - من الشعر، أنه حضر مع عمه عند رجل، وكان عمه يحب أن يحاضر به الناس، ويخاف أن يكون عييًا، فوضع الرجل كأسًا في يده، وقال:
تطيب نفوسنا لولا قذاها ... ونحتمل الجليس على أذاها
فقال النابغة:
قذاها أن صاحبها بخيل ... يحاسب نفسه بكم اشتراها
ومن ذلك ما روى
أن جريرًا دخل على الوليد بن عبد الملك وعنده عدي بن الرقاع العاملي - ولم يكن جرير رآه من قبل ذلك - فقال الوليد: أتعرف هذا يا جرير؟ فقال: لا يا أمير المؤمنين، فقال: هو ابن الرقاع، فقال جرير: شر الثياب الرقاع، فمن هو؟ قال:
1 / 9
هو رجل من عاملة، فقال جرير: هو من الذين قال الله فيهم: " عاملة ناصبة تصلى نارًا حامية ". قال: ويلك يا ملعون! فأنشأ جرير يقول:
يقصر باع العاملي عن الندى ... ولكن أير العاملي طويل
فابتدر عدي فقال:
أأمك يا ذا أخبرتك بطوله ... أم أنت امرؤ لم تدر كيف تقول!
فقال جرير: امرؤ لم أدر كيف أقول. فوثب عدي فأكب على رجل الوليد يقبلها ويقول: أجرني منه يا أمير المؤمنين. فالتفت الوليد إلى جرير وقال: وتربة عبد الملك لئن هجوته لألجمنك ولأسرحن عليك ولأطيفنك بدمشق. فيعيرك الشعراء بذلك، فخرج جرير فصنع قصيدته التي أولها:
حي الهدملة من ذات المواعيس ... فالحنو أصبح قفرًا غير مأنوس
افتخر فيها بنزار وعدد أيامهم، وهجا قحطان، وعرض بعدي ولم يسمه، فقال:
أقصر فإن نزارًا لا يفاخرهم ... فرع لئيم وأصل غير مغروس
وابن اللبون إذا مالز في قرنٍ ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
ومن ذلك ما رواه عوانة بن الحكم ويحيى بن عنبسة القرشي
قالا: اجتمع جرير والفرزدق عند بشر بن مروان، فقال لهما: إنكما قد تقارضتما الأشعار، وتطالبتما الآثار، وتقاولتما الفخار، وتهاجيتما؛ فأما الهجاء فلا حاجة لي فيه، ولكن جددا بين يدي فخرًا، ودعا ما مضى، فقال الفرزدق:
نحن السنام والمناسم غيرنا ... ومن ذا يسوى بالسنام المناسما!
فقال جرير:
على مقعد الأستاه أنتم زعمتم ... وكل سنام تابع للغلاصم
فقال الفرزدق:
على محرثٍ للفرث أنتم زعمتم ... ألا إن فوق الغلصمات الجماجما
فقال جرير:
وأنبأتمونا أنكم هام قومكم ... ولا هام إلا تابع للخراطم
فقال الفرزدق:
فنحن الزمام القائد المقتدى به ... من الناس، ما زلنا فلسنا لهازما
فقال جرير:
1 / 10
فنحن بنو زيد قطعنا زمامها ... فتاهت كسارٍ طائش الرأس عارم
فقال بشر: يا جرير غلبته بقطعك الزمام وذهابك بالناقة. ثم أحسن جائزتهما، وفضل جريرًا.
ومن ذلك ما ذكره ابن سلام في طبقات الشعراء
قال: اجتمع جرير والفرزدق والأخطل في مجلس عبد الملك، فأحضر بين يديه كيسًا فيه خمسمائة دينار، وقال لهم: ليقل كل منكم بيتًا في مدح نفسه، فأيكم غلب فله الكيس، فبدر الفرزدق فقال:
أنا القطران والشعراء جربى ... وفي القطران للجربى شفاء
فقال الأخطل:
فإن تك زق زاملةٍ فإني ... أنا الطاعون ليس له دواء
فقال جرير:
أنا الموت الذي آتى عليكم ... فليس لهاربٍ مني نجاء
فقال عبد الملك: خذ الكيس، فلعمري إن الموت أتى على كل شئ.
ومن ذلك ما روى
أن جريرًا اجتمع مع الفرزدق في مجلس عبد الملك، فقال الفرزدق: النوار بنت مجاشع طالق ثلاثًا إن لم أقل بيتًا لا يستطيع ابن المراغة أن ينقضه أبدًا، ولا يجد في الزيادة عليه مذهبًا، فقال عبد الملك: ما هو؟ فقال:
فإني أنا الموت الذي هو واقع ... بنفسك فنظر كيف أنت مزاوله
وما أحد يا بن الأتان بوائلٍ ... من الموت إن الموت لاشك نائله
فأطرق جرير قليلًا ثم قال: أم حرزة طالق منه ثلاثًا إن لم أكن نقضته وزدت عليه. فقال عبد الملك: هات فقد - والله - طلق أحد كما لا محالة، فأنشد:
أنا البدر يعشى نور عينيك فالتمس ... بكفيك يا بن القين هل أنت نائله
أنا الدهر يفني الموت والدهر خالد ... فجئني بمثل الدهر شيئًا يطاوله
فقال عبد الملك: فضلك - والله - يا أبا فراس، وطلق عليك. فقال الفرزدق: فما ترى يا أمير المؤمنين؟ فقال: وأيم الله لا تريم حتى تكتب إلى النوار بطلاقها. فتأنى ساعة، فزجره عبد الملك، فكتب بطلاقها وقال في ذلك:
ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقةً نوار
وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان لها على القدر الخيار
1 / 11
وقد أفضى الحال إلى ذكر خبر الكسعي الذي تمثل به الفرزدق في الندامة
إذ الحديث شجون، واللسان غير مسجون، وهو أنه خرج يرعى إبلًا له في واد فيه حمض وشوحط، فرأى قضيب شوحطٍ نابتًا في صخرة صماء ملساء، فقال: نعم منبت العود، في قرار الجلمود. ثم أخذ سقاءه فصب ما كان فيه من ماء في أصله، فشربه لشدة ظمئه، وجعل يتعاهده بالماء سنة حتى سبط العود وبسق واعتدل فقطعه، وجعل يقومه، ويقوم أوده حتى صلح، فبراه قوسًا وهو يرتجز، ويقول:
أدعوك فاسمع يا إلهي جرسي يارب سددني لنحت قوسي
وانفع بقوسي ولدي وعرسي ... فإنها من لذتي لنفسي
أنحتها صفراء لون الورس ... صلداء ليست كقسى النكس
ثم يرى بقيته خمسة أسهم وهو يرتجز، ويقول:
هن لعمري خمسة حسان ... يلذ للرامي بها البنان
كأنما قومها ميزان ... فأبشروا بالخصب يا صبيان
إن لم يعقني الشؤم والحرمان ... أو يرمني بكيده الشيطان
ثم أخذ قوسه وأسهمه، وخرج إلى مكمن كان موردًا لحمرٍ في الوادي، فوارى شخصه حتى إذا وردت رمى عيرًا منها بسهم، فمرق منه بعد أن أنقذه، وضرب صخرة فقدح منها نارًا، فظن أنه قد اخطأ، فقال:
أعوذ بالله العزيز الرحمن ... من نكد الجد معًا والحرمان
مالي رأيت السهم فوق الصفوان ... يرمي شرارًا مثل لون العقيان
فأخلف اليوم رجاء الصبيان
ثم وردت حمر أخرى فرمى عيرًا فصنع سهمه كالأول وظنه أخطأ، فقال:
أعوذ بالرحمن من شر القدر ... أأخطأ السهم لإرهاف الوتر
أم ذاك من سوء احتيال ونظر ... وإنني عهدي لرام ذو ظفر
مطعم بالصيد في طول الدهر
ثم وردت حمر أخرى، فرمى عيرًا منها بسهم ففعل سهمه كالأول، وظنه أخطأ فقال:
يا حسرتا للشؤم والجد النكد ... قد شفني القوت لأهلي والولد
والله ما خلقت في ذاك العمد ... لصعبتي من سبدٍ ولا لبد
أذهب بالحرمان مع طول الأمد
1 / 12
ثم وردت أخرى حمر أخرى، فصنع كالأول، فقال:
ما بال سهى يوقد الحباحبا ... وكنت أرجو أن يكون صائبا
إذ أمكن العير وأبدى جانبًا ... وصار ظني فيه ظنًا كاذبا
وخفت أن أرجع يومي خائبا ... إذ أفلتت أربعة ذواهبا
ثم وردت أخرى، فصنع كالأول، فقال:
أبعد خمسٍ قد حفظت عدها ... أحمل قوسي وأريد ردها!
أخزى الإله لينها وشدها ... والله لا تسلم عندي بعدها
ولا أرجى ما حييت رفدها ... قد أعذرت نفسي وأبلت جهدها
ثم خرج من مكمنه، فاعترضته صخرة، فضرب بالقوس عليها حتى كسرها، ثم قال: أبيت ليلتي، ثم آتي أهلي. فبات، فلما أصبح رأى خمسة حمرٍ مصرعة، ورأى أسهمه مضرجة بالدم، فندم على ما صنع، وعض على أنامله حتى قطعها وقال:
ندمت ندامةً لو أن نفسي ... تطاوعني إذًا لقتلت نفسي
تبين لي سفاة الرأي مني ... لعمر الله حين كسرت قوسي
وقد كانت بمنزلة المفدى ... لدي وعند صبياني وعرسي
فلم أملك غداة رأيت حولي ... حمير الوحش أن ضرجت خمسي
وقد روى في طلاق الفرزدق غير هذا، وليس هذا موضع ذكره.
وروى الحاتمي في كتاب حلية المحاضرة وغيره
قال: خرج جرير والفرزدق من العراق طالبي الرصافة لهشام بن عبد الملك وقد مدحاه، فلما كانا ببعض الطريق نزل جرير ليبول، فتلفتت ناقة الفرزدق، فضربها بالسوط وقال:
علام تلفتين وأنت تحتي ... وخير الناس كلهم أمامي!
متى تردي الرصافة تستريحي ... من الأنساع والدبر الدوامي
ثم قال لرواتهما: الساعة يجئ ابن المراغة فأنشده البيتين، فينقضهما بأن يقول:
تلفت إنها تحت ابن قينٍ ... إلى الكيرين والفأس الكهام
متى ترد الرصافة تخز فيها ... كخزيك في المواسم كل عام
فرجع جرير، فوجد القوم يضحكون، فقال: ما الخبر؟ فقال أحد الرواة: يا أبا حرزة، إن أخاك أبا فراس وقع له كيت وكيت وأنشده البيتين الأولين، فارتجل البيتين الآخرين، فعجب القوم من ذلك الاتفاق، وقالوا: والله يا أبا حرزة، لهكذا زعم أنك
1 / 13
تقول، فقال: أو ما علمتم أن شيطاننا واحد!
وروى أن معن بن أوس المزني
كان قد قدم البصرة وجلس بالمربد ينشد الناس، فوقف عليه الفرزدق وقال: يا معن؛ من الذي يقول:
لعمرك ما مزينة رهط معنٍ ... بأخفاف يطأن ولا سنام
فقال معن: هو الذي يقول:
لعمرك ما تميم أهل فلجٍ ... بأرداف الملوك ولا كرام
فقال الفرزدق: حسبك، فإنما جربتك، فقال: قد جربت وأنت أعلم. فانصرف عنه الفرزدق.
وروى مثل هذا
أن خلف بن خليفة الشاعر كان قد سرق، فقطعت يده، فصنع كفًا وأصابع من جلود، واتفق أن مر بالفرزدق في بعض الأيام، فأراد العبث به، فقال: يا أبا فراس، من القائل:
هو القين وابن القين لاقين مثله ... لفطح المساحي أو لجدل الاداهم
فقال الفرزدق: هو الذي يقول:
هو اللص وابن اللص لا لص مثله ... لنقب جدارٍ أو لطر دراهم
فانصرف مخزيًا.
وروى لنا عن عمر بن عبد العزيز ﵁
أنه قال: كنت في مجلس عبد الملك والأخطل ينشده، إذ دخل الجحاف بن حكيم السلمي، فقطع الأخطل إنشاده، والتفت إليه وقال:
ألا سائل الجحاف هل هو ثائر ... بقتلى أصيبت من سليمٍ وعامر!
قال: فنفض الجحاف يده في وجهه وقال:
نعم سوف ننكيهم بكل مهندٍ ... وننكى عميرًا بالرماح الشواجر
وكان ذلك عقب مقتل عمير بن الحباب، م قال: لقد ظننت - يا بن النصرانية - أنك لا تجسر علي بهذا القول، ولو وجدتني أسيرًا في يدك. فما برح الأخطل حتى حم، فقال له عبد الملك: أنا جارك منه. فقال: هبك أجرتني منه يقظة، فمن يجيرني منه منامًا! فضحك عبد الملك.
قال علي بن ظافر: وجرى هذا القول يوم البشر على تغلب.
ومن ذلك ما رواه أبو عبيدة وابن عائشة
من سؤال عبد الملك ابن مروان عمر بن أبي ربيعة المخزومي عن مناقضته للفضل بن العباس اللهبى وغلبة الفضل عليه، فقال عمر: نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا جالس في المسجد الحرام في جماعة من قريش إذ دخل علينا الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب، فوافقني وأنا أتمثل بهذا البيت:
1 / 14
وأصبح بطن مكة مقشعرًا ... كأن الأرض ليس بها هشام
فأقبل علي، وقال: يا أخا بني مخزوم، إن بلدة نتج بها عبد المطلب، وبعث منها رسول الله ﷺ، واستقر بها بيت الله ﷿ لحقيقة بألا تقشعر لهشام، وإن أشعر من هذا البيت وأصدق قول الذي يقول:
إنما عبد منافٍ جوهر ... زين الجوهر عبد المطلب
فأقبلت عليه وقلت: يا أخا بني هاشم، وإن أشعر من صاحبك الذي يقول:
إن الدليل على الخيرات أجمعها ... أبناء مخزوم للخيرات مخزوم
فقال: أشعر والله من صاحبك الذي يقول:
جبريا أهدى لنا الخيرات أجمعها ... إذ أم هاشم لا أبناء مخزوم
فقلت في نفسي: غلبني والله، ثم حملني الطمع في انقطاعه على مخاطبتي، فقلت: بل أشعر منه الذي يقول:
أبناء مخزومٍ الحريق إذا ... حركت نيرانه ترى ضرما
يخرج منه الشرار مع لهبٍ ... من حاد عن حره فقد سلما
فوالله ما تلعثم إلى أن أقبل بوجهه وقال: أشعر من صاحبك يا أخا بني مخزوم الذي يقول:
هاشم بحر إذا همى وطمى ... أخمد حر الحريق واضطرما
واعلم وخير المقال أصدقه ... بأن من رام هاشمًا هشما
فقال: يا أمير المؤمنين! فتمنيت والله أن الأرض ساخت بي، ثم تجلدت وقلت: يا أخا بني هاشم، أشعر من صاحبك الذي يقول:
أبناء مخزوم أنجم طلعت ... للناس تجلو بنورها الظلما
تجود بالنيل قبل تسأله ... جودًا هنيئًا وتضرب البهما
فأقبل على أسرع من البرق، وقال: أشعر من صاحبك وأصدق الذي يقول:
هاشم شمس بالسعد مطلعها ... إذا بدت أخفت النجوم معًا
اختار منها ربي النبي فمن ... قارعنا بعد أحمدٍ قرعا
فاسودت الدنيا في عيني، وأدبر بي، وانقطعت فلم أحر جوابًا، فقلت: يا أخا بني هاشم، إن كنت تفخر علينا برسول الله ﷺ، فما تسعنا مفاخرتك، فقال: كيف لا أم لك! والله لو كان منك لفخرت به علي، فقلت: صدقت وأستغفر الله،
1 / 15
والله إنه لموضع الفخار ﷺ. وداخلني السرور لقطعة الكلام، ولئلا ينالني عجز عن إجابته فأفتضح، ثم إنه ابتدأ المناقضة فأفكر هنيهة، ثم قال: قد قلت فلم أجد بدًا من الاستماع فقلت: هات، فقال:
نحن الذين إذا سما لفخارهم ... ذو الفخر أقعده الزمان القعدد
فافخر بنا إن كنت يومًا فاخرًا ... تلق الألى فخروا بفخرك أفردوا
قل يا بن مخزومٍ لكل مفاخرٍ ... منا المبارك ذو الرسالة أحمد
ماذا يقول ذوو الفخار هنا لكم ... هيهات ذلك، هل ينال الفرقد!
فحصرت وتبلدت، وقلت: لك عندي جواب فأنظرني، وأفكرت مليًا، ثم أنشأت أقول:
لا فخر إلا قد علاه محمد ... فإذا فخرت به فإني أشهد
أن قد فخرت وفقت كل مفاخرٍ ... وإليك في الشرف الرفيع المعمد
ولنا دعائم قد بناها أول ... في المكرمات جرى عليها المولد
من رامها حاشا النبي وأهله ... بالفخر غطمطه الخليج المزبد
دع ذا ورح لغناء خودٍ بضةٍ ... مما نطقت به وغنى معبد
مع فتيةٍ تندى بطون أكفهم ... جودًا إذا علج الحرون الأنكد
يتناولون سلافةً عانيةً ... لذت لشاربها وطاب المقعد
فوالله يا أمير المؤمنين لقد أجابني بجوابٍ كان أشد على من الشعر، فقال: يا أخا بني مخزوم، أريك السها وتريني القمر! قال أبو عبد الله اليزيدي: يريد: أدلك على الأمر الغامض وأنت لم تبلغ أن ترى الأمر الواضح! وهو مثل ثم قال: تخرج من الفاخرة إلى شرب الخمر المحرمة. فقلت له: أما علمت - أصلحك الله - أن الله تعالى يقول في الشعراء: " وأنهم يقولون مالا يفعلون "؟ فقال: قد صدقت، وقد استثنى الله ﷿ قومًا منهم فقال: " إلا الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وذكروا الله كثيرًا "، فإن كنت منهم فقد دخلت في الاستثناء واستحققت العقوبة بدعائك إليها، وإن لم تكن منهم فالشرك بالله ﷿ عليك أعظم من شرب الخمر. فقلت: أصلحك الله! لا أرى للمستجدي شيئًا أعظم من السكوت، فضحك وقال: أستغفر الله، ثم قام عني. فضحك عبد الملك حتى كاد يموت، ثم قال: يا بن أبي ربيعة، أما علمت أن لبني عبد مناف ألسنة لا تطاق! ثم قضى حوائج عمر وصرفه.
قال علي بن ظافر:
1 / 16
وأحسب الحكاية مصنوعة؛ لأن أشعارها ضعيفة.
وروى ورقاء العامري
أن الحجاج قال لليلى الأخيلية لما وفدت عليه: إن شبابك قد هرم فولى، واضمحل أمرك وأمر توبة بن الحمير فأقسم عليك إلا ما صدقتني، هل كان بينكما ريبة قط، أو خاطبك في ذلك قط؟ فقالت: لا والله أيها الأمير، إلا أنه قال لي مرة كلمة فيها بعض الخضوع فقلت له:
وذي حاجةٍ قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل
فلا والله ما سمعت بعدها منه نغمة فيها ريبة حتى فرق الموت بيننا. فقال لها الحجاج. فما كان منه بعد ذلك؟ فقالت: وجه صاحبًا له إلى حاضرنا فقال: إذا أتيت الحاضر من بني عبادة بن عقيل، فاعل شرفًا، ثم اهتف بهذا البيت:
عفا الله عنها هل أبيتن ليلةً ... من الدهر لا يسري إلي خيالها!
فلما فعل الرجل ذلك، عرفت المعنى فقلت له:
وعنه عفا ربي وأحسن حفظه ... عزيز علينا حاجة لا ينالها
ومن ذلك ما روى أبو صالح الفزارى
قال: أقبل شقران مولى سلامان من البصرة بتمر قد امتاره، فلقيه ابن ميادة الرماح بن أبرد فقال ما هذا الذي معك؟ قال: تمر امترته لأهلي يقال له زب رباح، فقال ابن ميادة:
كأنك لم تقفل لأهلك مرةً ... إذا أنت لم تقفل بزب رباح
فقال شقران:
فإن كان هذا زبه فانطلق به ... إلى نسوةٍ سود الوجوه قباح
فغضب ابن ميادة، وانحنى عليه بالسوط يضربه، ثم انصرف معضبا.
وكان المغيرة بن حبناء يهاجي زيادًا الأعجم العبقسيوكان بالمغيرة وضح
فقال فيه زياد يصف بياضه:
عجبت لأبيض الخصيين عبدٍ ... كأن عجانه الشعري العبور
فقيل له: يا أبا أمامة! لقد شرفته، ورفعت من قدره، إذ تقول كأن عجانه الشعرى، فقال: أو هكذا ظنكم! لأزيدنه شرفًا ورفعة، ثم صنع فيه من قطعة، فقال:
لاتبصر الدهر منهم حارثًا أبدًا ... إلا وجدت على باب استه قمرا
واتفق أنهما اجتمعا يومًا بمجلس المهلب
فجرى بينهما مهاترة، فقال المغيرة لزياد:
1 / 17
أقول له وأنكر بعض ما بي ... ألم تعرف رقاب بني تميم؟
فقال زياد:
بلى لعرفتهن مقصراتٍ ... جباه مذلةٍ وسبال لوم
فانقطع المغيرة.
ومن ذلك ما ذكره المدائني
قال: كان أرطاة بن سهية المرئى يهاجي الربيع بن قعنب، فاجتمعا يومًا للمهاترة والمناقضة، فقال أرطاة للربيع:
لقد رأيتك عريانًا ومؤتزرًا ... فما دربت أأنثى أنت أم ذكر!
فقال الربيع:
لكن سهية تدري إذ أتيتكم ... على عريجاء لما انحلت الأزر
فانقطع ابن سهية.
ويروى إن صح وجود مجنون بني عامر
أنه لما تزوجت ليلى عظم ذلك عليه، واشتد همه وحزنه، وأراد ابن عمٍ له سفرًا، وكان طريقه على منزل ليلى، فأتاه المجنون، وقال له: إذا مررت على منزل ليلى فارفع صوتك بهذا البيت قائلًا:
أما وجلال الله لو تذكرينني ... كذكريك ما نهنهت للعين مدمعا
فلما بلغ منزلها صنع ما سأله إياه، فخرجت ليلى إليه وقالت:
بلى وجلال الله ذكرًا لو أنه ... تضمنه صلد الصفا لتصدعا
قال علي بن ظافرٍ: والصحيح أن هذين البيتين من قصيدة للصمة القشيري؛ ولكن نقلت هذه الحكاية من كتاب الأجوبة للقمى
روى الحسن بن صاعد السكوني
قال: حدثني حولان الأسدي قال: نزلنا على ماء يعرف بماء السيال، ونزل بجانب الماء حي آخر، فعلق رجل منا بامرأة من ذلك الحي، فلما أزمعنا الرحيل أخذ الرجل غلامًا منا فرواه هذا البيت وهو:
وما بين ذا الحيين أن يتفرقا ... من الدهر إلا ليلة وضحاها
حتى حفظه، وقال له: قم بإزاء ذلك البيت الذي فيه الجارية وردد هذا البيت، واحفظ ما يرد عليك، ففعل الغلام، وكانت الجارية جالسة وفي حجرها رأس أخ لها كبير تفليه، وأخ لها صغير يصلح شيئًا، فقالت:
لقد كان في عيشٍ رخى لو أنه ... حوى حاجةً في نفسه فقضاها
فقال أخوها الصغير:
أما سمع المفلى لا در دره ... رسالة صبٍ بالسلام نحاها
1 / 18
فقال الكبير:
لحى الله من يلحى المحب على الهوى ... ومن يمنع النفس اللجوج هواها
ثم دعا الرجل فزوجه إياها.
وحدث المدائني
قال: كان بين يحيى بن زياد الحارثي وحماد الراوية ومعلى بن هبيرة، ما يكون مثله بين الشعراء والرواة من المنافسة، وكان معلى يحب أن يطرح حمادًا في لسان بعض الشعراء، قال حماد: فقال لي يومًا يحضره يحيى بن زياد: أتقول لأبي عطاء السندي: قل: زج وجرادة ومسجد بني شيطان؟ قال علي بن ظافر: وكان أبو عطاء يرتضخ لكنةً سندية يجعل فيها الجحيم زايًا، والشين سينًا، والطاء والضاد ذالًا، والعين همزة، والحاء هاء - قال: قال حماد: فقلت: ما تجعل لي على ذلك؟ قال: بغلتي بسرجها ولجامها. قلت: وعدلها على يدي يحيى بن زياد. ففعل، وأخذت عليه بالوفاء موثقًا، وجاء أبو عطاء فجلس لينا وقال: مرهبًا مرهبًا؛ هياكم الله! فرحبنا به، وعرضنا عليه العشاء فأبى، وقال: هل من نبيذ؟ فأحضرناه، فشرب حتى احمرت عيناه، فقلت له: يا أبا عطاء، طرح علينا رجل أبياتًا فيها لغز، ولست أقدر على إجابته، ففرج عني، فقال: هات، فقلت:
أبن لي إن سئلت أبا عطاءٍ ... يقينًا كيف علمك بالمعاني
فقال مسرعًا:
خبير آلم فاسأل تزدني ... بها دبا وآيات المثاني
فقلت:
فما اسم حديدةٍ في رأس رمح ... دوين الكعب ليست بالسنان؟ ٍ
فقال:
هو الزز الذي إن بات ضيفًا ... لقلبك لم يزل لك أو لتان
فقلت: فرج الله عنك، تعني الزج
فما صفراء تدعى أم عوفٍ ... كأن رجيلتيها منجلان؟
فقال:
أردت زرادةً وأزن زنًا ... بأنك ما قصدت سوى لساني
فقلت: فرج الله عنك، وأطال بقاءك؛ تريد جرادة وأظن ظنًا ثم قلت:
أتعرف مسجدًا لبني تميمٍ ... فويق الميل دون بني أبان؟
فقال:
بنو سيطان دون بني أبانٍ ... كقرب أبيك من أبد المدان
قال حماد: ورأيت عينيه قد احمرتا وعرفت الغضب في وجهه، فتخوفته فقلت: يا أبا عطاء، هذا مقام المستجير بك، ولك النصف مما أخذت، قال: فاصدقني، فأخبرته الخبر، فقال: أولى لك! قد سلمت وسلم لك جعلك، وانقلب يهجو معلى بن هبيرة، فأفحش.
وروى العسكري هذه الحكاية على غير هذا السياق، فذكر أن حماد الراوية وحماد عجرد وحماد بن الزبرقان وبكر بن مصعب الزهري اجتمعوا فقالوا: لو بعثنا
1 / 19
إلى أبي عطاء السندي - ولم يذكر السبب الذي من أجله اقترح حماد على ابي عطاء ما اقترح - وذكر البيت الثاني:
تزدني والقرآن بها عليمًابصيرًا بالمقاطع والمباني
وذكر البيت الثالث:
فما اسم حديدةٍ في رأس رمحٍ ... دوين الصدر ليست بالسنان
وذكر البيت الثامن:
وذلك مسزدًا أنساه قدمًا ... بنو سيطان مأروف المكان
مدح بشار بن برد يعقوب بن داود وزير المهدي فلم يعبأ به وحرمه فوفد عليه وطال مقامه ببابه وهو لا يأذن فأحس به في بعض الأيام
فرفع بشار صوته فأنشد:
طال الوقوف على رسوم المنزل
فأجابه يعقوب مسرعًا:
فإذا تشاء أبا معاذٍ فارحل
فرحل بشار، فهجاه بقوله فيه وفي المهدي:
بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الناي والعود
وهجا أخاه صالح بن داود
وكان قد ولى ولاية، فسقط به المنبر، فقال فيه من قطعة:
هم حملوا فوق المنابر صالحًا ... أخاك، فضجت من أخيك المنابر
فلما اشتهر هجاؤه دخل يعقوب على المهدي فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا المشرك هجاك بما لا أستطيع أن أذكره؛ فلم يزل المهدي به حتى كتب له قوله:
خليفة يزنى بعماته ... يلعب بالدبوق والصولجان
أبدلنا الله غيره ... ودس موسى في حر الخيزران
فجر ذلك إلى قتل بشار بن برد.
وذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب القيان والمغنين
قال: كانت بالكوفة جارية مغنية يقال لها سعاد جارية السكوني، وكان مولاها من الظرفاء وفتيان طبقته، مروءة وحسن وعشرة ومساعدة، فحضرت سعاد في مجلسٍ فيه مطيع بن إياس وحماد عجرد، فقال مطيع:
قبليني سعاد بالله قبلهواسأليني بها فديتك نحله
فورب السماء لو قلت صل ... لوجهي جعلت وجهك قبله
فقالت الجارية لحماد: اكفينه: ياعم، فقال يجيبه بديهًا:
إن خلًا لها سواك وفيًا ... لا غدورًا بها ولا فيه مله
1 / 20
لايباع التقبيل بيعًا ولا ير ... شى ولا يجعل التعاشق عله
فقال له مطيع: هذا هجاء؛ وما أرادت الجارية هذا كله، ولقد اشتفيت مني على لسان غيرك؛ فقال الجارية - وكانت ظريفة بارعة: صدق؛ ما أردنا أن نسبه؛ فقال حماد:
أنا والله أشتهي مثلها من ... ك ببذل والبذل في ذاك حله
فأجيبي وأنعمي وخذي البذ ... ل وأطفي لعاشقٍ منك غله
قال: فرضي مطيع وخجلت الجارية. وقالت: أنا عائذة بكما من شركما فاكفيانيه، وخذا فيما جئتما له.
حدث المدائني
قال: كان عثمان بن شيبة مبخلًا، وكان حماد عجرد يهجوه، فجاء رجل كان يقول الشعر إلى حماد فقال له:
أعني من غناك ببيت شعرٍ ... على فقري لعثمان بن شيبه
فقال حماد مسرعًا:
فإنك إن رضيت به خليلا ... ملأت يديك من فقرٍ وخيبه
فقال الرجل: جزاك الله خيرًا؛ فقد عرفتني من أخلاقه ما قطعني عنه، وصنت ماء وجهي عن بذله.
وروى إسماعيل بن يحيى اليزيدي عن أبيه
قال: كنت جالسًا أكتب كتابًا، فنظر فيه سلم الخاسر، فقال:
أير يحيى أخط من كف يحيى ... إن يحيى بأيره لخطوط
قال: فقلت مسرعًا:
أم سلمٍ أدرى بذلك منه ... إنها تحت أيره لضروط
ولها تحته إذا ما علاها ... أزمل من وداقها وأطيط
ليت شعري ما بال سلم بن عمرٍو ... كاسف البال حين يذكر لوط!
لايصلي عليه حين نصلي ... بل له عند ذكره تثبيط
وذكر أبو مروان صاحب كتاب المقتبس في أبناء أهل الأندلس
أن أبا المخشي عاصم بن زيد بن يحيى بن يحيى بن حنظلة بن علقمة بن عدي بن زيد بن حماد العبادي، شاعر الأندلس في زمانه، كان خبيث اللسان، كثير الهجاء، وهو الذي قطع هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك ابن مروان لسانه؛ لأنه عرض به في قصيدة مدح بها أخاه أبا أيوب
1 / 21
المعروف بالشامي، وكان بين الأخوين تباعد مفرط، والبيت الذي عرض فيه قوله:
وليس كمن إذا ماسيل عرفًا ... يقلب مقلةً فيها اعورار
وكان هشام في إحدى عينيه نكتة بياض كجد أبيه هشام بن عبد الملك. ثم اتفق لأبي المخشي أن مدح هشامًا ووفد عليه على ماردة، وهو يومئذٍ يتولى حربها لأبيه، فلما مثل بين يديه قال له: يا عاصم، إن النساء اللاتي هجوتهن لمعاداة أولادهن وهتكت أستارهن، قد دعون عليك، فاستجاب الله لهن، فبعث عليك مني من يدرك منك ثأرهن وينتقم لهن. ثم أمر به فقطع لسانه، ثم نبت بعد ذلك وتكلم به. وكان أبو المخشي هذا يسكن بوادي شوس، وكان بين وبين ابن هبيرة مهاجاة شديدة، فاجتمعا يومًا للمناقضة فيه، فقال له ابن هبيرة وعيره بأن نسبه إلى النصرانية لأجل أن آباءه كانوا نصارى بقوله:
أقلفتك التي قطعت بشوشٍ ... دعتك إلى هجائي وانتقالي!
الانتقال: الشم، فقال أبو المخشي مسرعًا:
سألت وعند أمك من ختاني ... جواب كان يغني عن سؤالي
فقطعه.
وعلى ذكر أبي المخشي وقطع لسانه، كان مالك رضوان الله عليه يفتي فيمن قطع لسان رجل عمدًا بقطع لسانه من غير انتظار - ثم رجع لما انتهت إليه قصة أبي المخشي، وأنه نبت لسانه بعد أن قطع بمقدار سنة وأنه تكلم به، فقال: ينتظر سنة، فقد ثبت عندي أن رجلًا بالأندلس نبت لسانه بعد أن قطع في نحو هذه المدة.
ونقلت من خط الفقيه أبي محمد عبد الخالق المسكي
قال بشار لعنان:
عنان يا منيتي ويا سكني ... أما تريني أجول في سككك
حرمت منك الوفا معذبتي ... فعجلي بالسجل من صككك
إني ورب السماء مجتهد ... في حل ما قد عقدت من تككك
فقالت مجاويةً له:
لم يبق مما تقول قافية ... يقولها قائل سوى عككك
فقال:
بلى وإن شئت قلت فيشلة ... تسكن الهائجات من حككك
قال علي بن ظافر: عنا لم يدركها بشار، وإنما كان يشاغبها أبو نواس، ولهما في مثل هذا أخبار كثيرة وهذء القافية مما يعايا به.
1 / 22
كان بمصر رجل زجلي كثير الوسخ
قذر الجلد والثوب، لا تكاد تفارقه قفة فيها كراريس، يعرف بالمفشراتي، ويلقب أديب القفة، وكان يصنع مقامات مضحكة فيها غرائب وعجائب، يزعم أنه يضاهي بها مقامات الحريري، وكان يقول: أنا موازنه في كل شيء حتى في اسمه ولقبه، هو أبو القاسم محمد، وأنا القاسم أبو محمد وهو ابن علي وانا ابن علي وهو الجريرى وانا الجريرى وهو البصري، ويجعل هذا من أوضح البراهين وأقوى الأدلة على مساواته في كل قصيدة. ومما أنشدنيه لنفسه - وأنا أذكره على سبيل الإطراف، فلقد كان عجيب الشأن - قوله:
يا سابحًا في بركك ... وصائدًا في شبكك
لا تحقرن ككتي ... فككتي كككتك
والككة: مركب من مراكب صعيد مصر ليس فيها مسمار.
وروى أن أبا نواس خرج يومًا وهو مخمور إلى الكناسة
فاستقبله أعرابي ومعه غنم فقال أبو نواس:
أيا صاحب الذود اللواتي تسوقها ... بكم ذلك الكبش الذي قد تقدما؟
فقال الأعرابي:
أبيعكه إن كنت تبغى شراءه ... ولم تك مزاحًا بعشرين درهما
فقال أبو نواس:
أخذت هداك الله رجعى جوانبا ... فأحسن إلينا إن أردت تكرما
فقال الأعرابي:
أحط من العشرين خمسًا لأنني ... أراك ظريفًا أخرجنها مسلما
فقيل للأعرابي: أتدري من يكلمك منذ اليوم؟ فقال: لا، فقيل: أبو نواس؛ فرجع فلحقه، وحلف بصدقه غنمه إن لم يقبله.
وروى أنه مر أعرابي ومعه نعجة وكبش وجمل صغير
فقال أبو نواس لمن معه: ما رأيكم في تخجيله؟ فقالوا له: افعل، فقال
بكم النعجة التي ... خلفها الكبش والجمل؟
فقال الأعرابي:
بثلاثين درهمًا ... جددًا أيها الأجل
وروى أنه دخل على عنان، فكتب رقعة وناولها إياها
فإذا فيها:
1 / 23
ماذا تقولين فيمن ... يريد منك نظيره؟
فكتبت تحتها عجلةً:
إياي تعنى بهذا! ... عليك فاجلد عميره
ثم ناولته الرقعة، فكتب تحتها عجلًا:
أريد هذا وأخشى ... على يدي منك غيره
فخجلت، وقالت: تعست وتعس من يغار عليك!
وروى الجماز أنه دخل عليها قبل تعارفهما
فأنشد:
إن لي أيرًا خبيثًا ... عارم الرأس فلوتا
لو رأى الحر ببحرٍ ... عاد للغلمة حوتا
أو رآه فوق جو ... لنزى حتى يموتا
أو رآه جوف بيتٍ ... صار فيه عنكبوتا
فقالت ارتجالا:
زوجوا هذا بألفٍ ... وأظن الألف قوتا
إنني أخشى عليه ... إن تمادى أن يموتا
بادروا ما حل بالمسكين خوفًا أن يفوتا
قبل أن ينعكس الحا ... ل فلا يأتي ويوتى
فعجب الحاضرون منهما؛ واستظرف كل منهما صاحبه، ودامت صحبتهما بعد ذلك.
وروى المدائني
قال: اجتمع أبو نواس وإسماعيل بن نوبخت وأبو الشمقمق في بيت أذين - قال علي بن ظافر: هو عبد الله الجماز - فبينما هم عنده؛ إذ جاء أبو العتاهية يسأل عن ابن أذين - وكان بينه وبين أبي الشمقمق شر، فخبئوه من أبي العتاهية في بيت، ودخل أبو العتاهية، فنظر إلى غلام عندهم فيه تأنيث، فظنه جارية، فقال لابن أذين: متى استطرفت هذه؟ فقال: قريبًا يا أبا إسحاق، فقل فيها شيئًا، فمد أبو العتاهية يده إلى الغلام، وقال:
مددت كفي نحوكم سائلًا ... ماذا تردون على السائل؟
فصاح أبو الشمقمق من داخل البيت قائلًا:
يرد في كفك ذا فيشةٍ ... تشفي جوىً في استك من داخل
فقام أبو العتاهية مغضبًا، وهو يطلب الباب، ويقول: أبو الشمقمق والله! وضحك القوم
1 / 24
حتى كادوا يهلكون!
وذكر الخالديان
في كتاب أخبار مسلم بن الوليد هذه الحكاية، وذكرها غيرهما بأبسط مما ذكراها، فكتبناها بلفظ الأكثر.
قال دعبل بن علي الخزاعي: بينما أنا بباب الكرخ، إذ أنا بفتاة تسمى قرة، معروفة بظرفٍ وجمالٍ وشعر وأدب وغناء، وقد اجتازت، فتعرضت لها وقلت:
دموع عيني لها انبساط ... ونوم عيني به انقباض
فقالت:
وذا قليل لمن دهته ... بسحرها الأعين المراض
فقلت:
فهل لمولاى عطف قلبٍ ... أو للذي في الحشى انقراض؟
فقالت مسرعة من غير تلبث:
إن كنت تبغي الوصال منا ... فالوصل في ديننا قراض
قال دعبل: فلا أعلم أني خاطبت جارية تقطع الأنفاس بعذوبة ألفاظها، وتختلس الأرواح ببلاغة منطقها، وتذهل الألباب برخيم نغمها؛ مع تلاعة جيد، ورشاقة قد، وكمال عقل، وبراعة شكل، واعتدال خلق، قبلها. فحار والله البصر، وذهل اللب، وجل الخطب، وتلجلج اللسان، وتعلقت الرجلان، وما ظنك بالحلفاء أدنيت من النيران! ثم ثاب إلى عقلي، وراجعني حلمي، وذكرت قول بشار:
لا يؤنسك من مخبأةٍ ... قول تغلظه وإن جرحا
عسر النساء إلى مياسرةٍ ... والصعب يمكن بعدما جمحا
هذا لمن حاول ما دون الطمع فيه اليأس منه، فكيف بمن وعد دون المسألة، وبذل قبل الطلبة! فنقلتها من تلك القافية، وقلت:
أترى الزمان يسرنا بتلاق ... ويضم مشتاقا إلى مشتاق!
فقلت مسرعة:
ما للزمان تقول فيه وإنما ... أنت الزمان فسرنا بتلاق
قال دعبل: فاستتبعتها - وذلك في زمن إملاقي - فقلت: ليس لي إلا بيت مسلم بن الوليد صريع الغواني؛ فصرت إلى بابه، فاستوقفتها وناديته، فقلت: أحمل إليك الخير؛ معي وجه مليح، تقل له الدنيا بما فيها؛ مع ما أنا فيه من ضيقة وعسر، فقال: والله لقد شكوت ما كدت أبادرك بشكواه! إيت بها.
فلما دخلت قال: والله
1 / 25