61

صلى الله عليه وسلم . قال ورقة: فإلى أي شيء تدعوني إذن؟ إن كان لترك الأصنام فقد تركتها قبل أن أكلف عبادتها وأنا غلام في العاشرة من سني، وإن كان لترك دين التثليب - دين المسيحيين الذي كان عليه أبي - فقد تركه أبي منذ تزوج من أمي، كما تركها صاحبه باقوم من بعده واتبع ابن نوفل. قال زيد: هذا كلام كبير يا بني، وعليه مسحة من الصواب، ولكن فاتك أن تتبين صوابا أكبر. قال: ما هذا؟ قال: لا تعجب يا بني أن أحدثك عنه. إني كما تعلم متنقل في تجارة مولاتي، وقد حضرت مجالس الأحبار والرهبان، وتعلمت الشيء الكثير. بل أنا أقرأ وأكتب مثلك. ما الدين يا بني مقصور على النظافة والغسل وكلمات تحفظها عن الناس وترددها. الدين نور من عند الله من استضاء به اهتدى وأرضى، ومن أبى إلا أن يسير فيما تزينه أهواؤه لنفسه من النؤور ضل واعتدى، ولقد اندرس دين إسماعيل، وتاه كتابه فتاه الناس من بعده حتى انقلب الحال بهم فإذا أولاده وأبر الناس به وببيته قد عادوا إلى جاهليتهم الأولى التي أخرجهم أبوه منها؛ عادوا إلى عبادة النصب والأصنام التي كان قد هدمها بيديه، ومن حق العباد على ربهم بعد هذا الضلال البعيد أن يرسل إليهم نذيرا آخر، نذيرا جديدا يبسط لهم أوامره ونواهيه زيادة عما تقتضيه العقول من واجباتها، وإلزاما لما جوزته من مباحاتها؛ لأن الناس بنظرهم وحدهم لا ينكرون مصالحهم لأنفسهم فهم ميالون بفطرتهم إلى البغي والعدوان، ولا يشعرون بعواقب أمورهم لغرائزهم، ولا ينزجرون إلا أن يرسل الله إليهم أدبه فيلتزموه.

يومئذ تكون شرعة الله فيهم مستعملة، وحدوده فيهم متبعة، وأوامره فيهم ممتثلة، ووعده ووعيده فيهم زاجرا، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض كما فسدت في هذه الأيام، وحلت الفوضى على الناس كما هي حالة اليوم. فليس عن بعثة الرسل يا بني معدل، ولا منهم لانتظام المصالح بدل، وإلا فلو ترك الناس على سجيتهم؛ لبغوا في الدنيا بغي الذئاب، واستأثروا بالخير لأنفسهم ولمن يحبون دون خلق الله جميعا، وهذا غاية الفساد. قال ورقة: هذا حق يا زيد وربي، ومن أجل ذلك ينهض المصلحون بدعوة الناس إلى طريق الهدى حتى لا يضلوا ولا يبغوا. قال زيد: لا يا بني، ليست النبوة نهضة ناهض بملكه واختياره مهما كان خيرا أو رشيدا، وإلا كثرت المذاهب فلا يدري الناس بأي هذه المذاهب يهتدون، وإذا ضل طالب الهدى فما صنعت شيئا. قال ورقة: فما هي إذن؟ قال: هي بعثة وتكليف من لدن رب الخلق، وأمر منه لمن يختار؛ فالنبي رسول يبلغ رسالة الله، ويتكلم بما يوحي به الله إليه، لا ينطق عن هوى إن هو إلا وحي يوحى، وللرسل صفات ربانية في خلقهم وعلامات جسمانية في خلقهم يخصهم الله بها؛ ليتعرفهم المستعرف، ويطمئن إليهم المستهدي كيلا تجوز دعوى المدعي على الناس فيقع في ضلال جديد. قال ورقة: صدقت يا زيد صدقت. زدني بالله مما تقول فقد خبرني مولاي ابن نوفل أنه هو وصاحبه قد وجدا كل ذلك في سيدنا، وأنه آمن به قبل أن يبعث، وعزم على شد أزره يوم يؤمر بالدعوة، ولكني ولا أكذبك لم أكن قبل هذا أجد لهذه البعثة حاجة، ولا إلى هذا الإيمان من ابن نوفل ضرورة ، وأما اليوم فإني أرى نورا ينبعث من فمك فيجلو جهالتي كما يجلو نور الصباح ركام الظلام ... يا لله! أإذا كان في الناس صلحاء أخيار أوفياء للحق فصدروا عن طبيعة الخير التي في أنفسهم مخلصين في القول والعمل لم يؤمن أن يضلوا! قال زيد: نعم سيكون لكل منهم في الخير مذهب قائم يأمر به، ويدعو إليه، ويتعصب له، وقد يؤذى الناس في سبيله؛ فإذا وجد كل ذي مذهب أنصارا وجدت الناس كلهم مختلفين متنافرين متباغضين، وأي خير في هذا؟ قال ورقة: صدقت. صدقت. قال زيد: لا بد إذن من دين واحد يأتي به نذير واحد من عند الله الواحد؛ ليجتمع الناس عليه متحدين، ويعملوا به متناصرين، ويسيروا تحت لوائه مجاهدين. بأمره يأتمرون وبنهيه ينتهون، فلا ضلال ولا فساد ولا فرقة ولا عناد. دين يرتضيه العقل والقلب حتى لا يكره الناس عليه إكراها، ولا تتورط فيه الأبناء رعيا للآباء والأسلاف، وهذا يا بني دين الإسلام! دين محمد بن عبد الله! قال ورقة: رباه! رباه! إني لأجد نورك يملأ قلبي، فاغفر عنادي وجهلي، وزدني اللهم نورا، ومضى زيد في كلامه يقول: ولقد خلت أمة العرب من عهد أبيهم إسماعيل من المرشد والنذير حقا. أليست ثلاثة آلاف من السنين بكافية؛ لتخلو دنيا الماضي من كل خير! بلى. لقد اختلت أفعالهم، وفسدت أحوالهم، واتضع بين الأمم شأنهم، ولم ينفعهم ما بقي من سنن إبراهيم وشرائعه وعباداته التي ذكرت ما هي إلا أنقاض بيت تهدم وما يؤوي الخراب إلا الهوام والذئاب فاقتضت رحمة الله العادل الذي لا يعذب حتى ينذر أن يرسل فيهم نبيا من أنفسهم؛ لينذرهم بدين الحق الذي نزل على آدم والنبيين، ويردهم إلى دين إبراهيم حنيفا ومطهرا وكاملا ومصونا؛ ليدركوا به السابقين، ويضووا إليهم اللاحقين، وليجعل لهم في الدنيا شأنا كما جعل لغيرهم في الغابرين. ذلك هو سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأمي الذي بشرت بنبوته الأحبار والرهبان؛ لما ورد عنه في التوراة والإنجيل، ففيهما اسمه ونسبه وصفاته. وبشر به ابن نفيل وابن نوفل وصاحباه بما علموا يوم احتشد الناس في بيت الله، وآمنوا به قبل أن يأتيه وحي ربه بسنين؛ ذلك لصفاته الربانية وعلاماته الجسدية، فقد عرفوها واطمأنوا إليها فأعلنوها، واحتملوا الأذى في سبيلها حتى مات مقدمهم من جرائها. قال ورقة: أجل. أجل. إنها لنعمة والله أن يموت الإنسان في سبيل الله. قال زيد: ولقد بعث الله محمدا اليوم بالحق مصدقا لما بين يديه، ونزل القرآن؛ ليعصم الناس من بعده عن الضلال مرة أخرى، وأمره أن يعلن الدعوة للناس كافة بعدما تحنث لها ثلاث سنين، وما كان ليعلن إلا أن يؤمر، وقد أمره الله من أيام أن يصدع بأمره. أويرضيك يا بني أن يظل العرب ثلاثة آلاف أخرى من السنين وهم على نبلهم وذكائهم، وتمام رجولتهم ومروءتهم، وسلامة أبدانهم وعقولهم، وكمال سجاياهم ونقاء طبائعهم فيما هم فيه من خمول الشأن بين الأمم؟ يأخذون عنهم ولا يعطون؟ وتعولهم القرون، ولا يعولون أحدا؟ قال ورقة: لا وربي لا يرضيني هذا. قال زيد: وإنما أرسله الله إليهم كما أرسل موسى وعيسى إلى بني إسرائيل فأخرجوهم من الظلمات إلى النور إلى أن عقهما الخلف، وصدفوا عن طريق الله. ابتدع كل فريق لنفسه بدعة وقاموا يروجونها بكل لسان، واختلق كل قوم لأنفسهم في الدين مذهبا عجبا، وجعل السيف له عضدا من دون العقل، وهل بعد ما يجري في الشام وبلاد القدس من الأحداث فساد! ألا ترى أنهم لعداوتهم بعضهم لبعض قد هللوا لعبدة النار، وحكموهم في دينهم وأعراضهم. هل بعد هذا بوار؟

قال ورقة: لا والله لقد حدثني عنهم الحارث العجب العجاب. قال زيد: من أجل هذا كانت رسالة محمد بن عبد الله إليهم هم أيضا فقد أرسل للناس عامة؛ لينير لهم ويهديهم سواء السبيل، ويجمع الأمم على دين يريح العقل ويسايره، ويأبى أن يلحق به ما ليس من طبيعته، ولن يضل من بعده أحد، فسيبقى الذكر في صون الله لا يعتوره تغيير ولا تبديل، ولا عبث كما عبث السالفون، وسيكون لأتباع رسول الله ملك كسرى وهرقل فما وراءهما. هكذا وعد الله رسوله ولن يخلف الله وعده.

فلما سمع ورقة هذا الكلام نهض، وقال: اللهم اشهد أني مؤمن بك وبرسولك، ومهتد بهديك فيما هدى، ومنته بنواهيك فيما نهى، وإن له قلبي ولساني ويدي. فنهض زيد يقبله ويبكي فرحا به وبهدايته إلى الإسلام على يديه، وقال له: وددت لو أخذتك الآن إلى رسول الله في دار ابن الأرقم؛ لتعلن إسلامك بين يديه! ولكنا الآن في الليل وأنت راحل في الغد فأبقها حتى تعود. قال ورقة: وهل يجمل بي وأنا فتى أضع يدي في يد رسول الله! من أنا في الناس يا زيد! أنا عبده وخادمه! قال: إن أكثر المسلمين اليوم عبيد وإماء، وأكثر من آمن بدعوته من السراة شباب. قل لي: أنت أسن أم عثمان بن عفان؟ أم سعد بن أبي وقاص؟ أم عبد الرحمن بن عوف؟ أم خالد بن سعيد بن العاص؟ قال: إني أنفت على العشرين. قال: وما منهم من بلغها يوم أسلم، وإن من فضائل الإسلام أن جعل المسلمين إخوة؛ فبلال اليوم أخ لأبي بكر، وزنيرة أخت لخديجة، ولا بد لك يا فتى أن تصلي بصلاة الرسول، وتعرف كيف يتوضأ للقاء ربه في الصلاة، وتحفظ ما نزل حتى اليوم من كتاب الله. بيد أني سأعلمك ذلك، وأصلي معك ركعتين لله، فانهض بنا إلى سقاء الماء نتوضأ ونصلي، وندعو الله أن ينصرنا على القوم الكافرين.

نهضا للوضوء فما خرجا من الباب حتى رأيا أمامهما في الظلام شبح باقوم يتمشى إلى السقاء معتمدا على عكازته حتى إذا بلغه ألقى العكازة بجواره، وتناول السقاء وقال بصوت غير جهير: نويت الوضوء لله تعالى. فتعجب زيد وورقة لأمره، ولم يكونا يعلمان بإسلامه فكلمه زيد: رويدك يا باقوم من علمك هذا؟ قال: بلال أيام كان الجمحي يعذبه. قال زيد: هذا يوم بعيد. قال باقوم: وأنا على الإسلام منذ ذلك اليوم. فقال ورقة: ثم لا تخبرني يا أبتي، وتهديني كما اهتديت! قال خفت يا بني أن تحاجني كما كنت تحاج الليلة زيدا فيرتج علي في الحوار فتزيد في ضلالك. فضحك ورقة متعجبا وقال: ضلالي يا أبتي! ما كنت ضالا، ولكني كنت أحسبني على ما عليه رسول الله فلم أجد بي حاجة إلى أن أعلن ما هو معروف حتى بصرني زيد بأمر جلل لا أحسب أن في المؤمنين أنفسهم من يعرف صدقه وصوابه وضرورته عرفاني، وهل أنت وحدك في هذا يا أبي أم معك أمي؟ قال باقوم: بل أمك إليه أسبق. قال زيد: ألا تخبرنا كيف لقيت بلالا أم انه جاء إليك في من يجيء إليهم؟ قال: والله ما جاءني ولا جئته، ولكن الله أراد لي الهدى فأخرجني إليه؛ شعرت وأنا جالس هنا ذات يوم أن بي شيئا يحفزني إلى النهوض والخروج، وخيل إلي أني إن لم أخرج فسأختنق، ولم أجد غير المطاف فرجة فذهبت إلى البيت الكريم، وفيما أنا أتسلل إليه رأيت بلالا ملقى على الرمضاء في الهجير لا يملك قوة على النهوض، فقد كان الجمحي ضربه وأوجعه وهده وتركه على هذا الحال ومضى، ورأيته ينظر إلي نظرة مستغيث من آلامه فأخذتني رقة عليه وانحدر الدمع من عيني؛ لأني كنت أعلم أنه يعذب هكذا كل يوم. فرأيتني أجري إليه كأنما أنا غلام في مثل سن ورقة بالرغم من عرجي، فحملته على كتفي وسرت به إلى داري هذه وأنا أتوكأ على عكازتي. فما أحسست لجسمه على عاتقي من ثقل، بل قواني الله حتى لكأنه هو الذي كان يحملني. فلما حططته عند هذا السقاء لأسقيه وأنشطه؛ إذ كان في شدة من العطش، تناول السقاء وهزه فوجد أن ما فيه من الماء قليل، فظل على ظمئه وآثر أن يتوضأ به؛ ثم قام يصلي لربه ويتعبد ويبكي وهو يقول كلاما مما نزل على محمد؛ فملكتني رقة وبكيت حتى اخضلت لحيتي، ولما سلم توسلت إليه بحق الله عليه أن يعلمني كيف أفعل مثله لأتجه إلى ربي وأحادثه كما كان يحادثه؛ لأني كنت أرى السكينة تنزل على قلبي حين كانت تنزل على قلبه وترقأ دمعه ودمعي فقال : قرب فتوضأ. قلت: ليس في السقاء ماء. أما ألقيته بيدك. قال: إن ما فيه يكفي فقد أمرنا رسول الله بالاقتصاد في الماء، وقال: امدد راحتيك تحت السقاء. فمددتهما طوعا له. قال: اتل ورائي القول. قل نويت الوضوء لله تعالى. فقلتها، فقال: اغسل يديك فغسلتهما، وما زال يقول افعل كذا وافعل كذا والماء يتدفق حتى أتممت وضوئي كله، وألقى السقاء على الأرض كما كان. ثم علمني الصلاة فصليت كما صلى، وأنا عاكف عليها من ذلك الحين، وسعيد باعتناقي هذا الدين فهو دين النظافتين في القلب والبدن. ائذن لي يا زيد أن أعلم أنا ولدي إني أحق به منك؛ ففرح زيد بما سمع، ورضي أن يتولى باقوم تعليم ربيبه الوضوء وهو يشهد ليرى، وما زال باقوم يتوضأ أمام ورقة ويراعي الترتيب في التطهر ويفعل ورقة مثله حتى أتى على آخره، وزيد يتعجب لدقته وعنايته. فقال لورقة: ما كنت أستطيع وربك أن أبصرك بما هو أدق من هذا. هكذا يتوضأ سيد الخلق فانح نحوه في كل وضوء.

ثم توضأ زيد بعدهما، وقاموا كلهم يصلون لله، وزيد بينهم يتلو من كتاب الله ما وعى صدره حتى انتهت الصلاة وسلموا، وحمدوا الله، وذهبوا إلى المضاجع ليناموا، وقد سرى الله عن ورقة شدة حزنه وملأ قلبه بنور الإسلام.

الفصل الثالث عشر

أم قتال

لم يستطع ورقة أن يرحل إلى هدى فيما اعتزم من غده؛ ذلك لأن «أم قتال» أخت مولاه ورقة بن نوفل أرسلت في طلبه، فلم يكن له بد من أن يجيب. كان منزلها إذ ذاك في طريق الصفا جنوبي مكة، فذهب إليها من فوره، بعد أن حلف لصاحبه ألا يعود إلى حراء في يومه، ورجا منه أن ينصرف إلى سيدة قريش بتحية منه وسلام، قائلا إنه سيسير من الصفا إلى هدى نزولا على إرادة البر التي أرادتها.

دخل ورقة على أم قتال، وكانت امرأة فوق الستين من العمر بكثير، أكلت السنون من شحمها ولحمها، وإن لم تأكل من بريق نظرها، ولا حياة عصبها، ولذلك كانت في نشاط الشباب والقوة، وإن لم يكن لها من ظاهرها ما يلائم ذلك. كانت إذ ذاك في فراشها لغير مرض، ولكناه حضرت يوم وفاة أخيها ورأته ميتا، وسمعت نوح النائحات عليه، فذعرت من الموت حتى لم تعد تستطيع أن تبقى في بيت أخيها إلى أن يحملوه، بل خرجت إلى دارها فارة بنفسها من هول ما كانت ترى وتسمع، وقد ألقت على عتبة داره كل ما كان في قلبها من الحزن والأسف لموته قائلة: إن في حمله أو التظاهر به أذى لها، وربما عجل بموتها هي أيضا.

Unknown page