ثم يقول لأمية: أحلف بالله لإن قتلتموه على هذا لأتخذن قبره منسكا وحنانا، فرآه مولاي أبو بكر الصديق وهو على هذا الحال فقال لأمية: ألا تتقي الله في هذا المسكين! فقال: إنك أفسدته أنت وصاحبك فأبعدته عن الحق. فقال له الصديق: أي حق هذا الذي أبعدناه عنه! عبادة الأصنام! ارحمه يرحمك الله، وإذا شئت فعندي غلام على دينك أسود أجلد هذا أعطيكه. قال: قبلت. فأعطاه أبو بكر الغلام، وأخذ بلالا فأعتقه،
4
وكذلك فعل أبو جهل بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه سمية فقد أمر بهم أن يجروا على وجوههم فوق رمضاء الأبطح حتى مات ياسر من العذاب، فلما أغلظت له امرأته الكلام طعنها أبو جهل بحربة كانت في يديه فقتلها.
4
ظهر الغضب على وجه ورقة وقلق، وأخذ ينفث ولا يتكلم، ولكن زيدا استمر يروي له من أخبار غيرهم ما زاده حنقا وثورة فذكر له ما لقي صاحبه خباب بن الأرت؛ إذ كانوا يعرونه ويلصقون ظهره بالحجارة المحماة بالنار ويلوون رأسه وهو متصبر، وذكر له عمر بن الخطاب إذ كان يعذب صديقتي أمه لبينة وزنيرة وكانتا من فتيات بني عدي، ويضربهما ضرب غرائب الإبل.
4
كان زيد يذكر هذه الوقائع فيزيد ألم الفتى ويغضب، ولكنه لم يكن يتكلم؛ لأنه كره أن يشغل قلبه ولسانه بغير ما كان يشغله من الحزن على سيده، ولكن ما كاد زيد يذكر ما فعلوا بالنساء حتى هب ورقة وانطلق لسانه يقول: أمسك يا زيد أمسك! والله ما يحزنني من الأمر تعذيب هؤلاء الحنفاء بقدر ما يحزنني من أن مكة قد خلت ممن يغيث هؤلاء المستضعفين أو ينصفهم من سادتهم غلاظ الأكباد! أيعذب المرء أن يقول ربي الله! قال: إنما المنصفون قليلون، ولم يؤمر نبي الله بعد بشيء مما ترى، وإنما أمر النبي
صلى الله عليه وسلم
أتباعه أن يفتدوا كل عبد مسلم؛ فاشترى أبو بكر أكثرهم وأعتقهم، واشترى غيره من اشترى، ولكن المشركين فطنوا إلى ذلك فكفوا عن بيع عبيدهم، واستمروا في إيذائهم.
لم يكن في قصد زيد أن يوغر صدر الفتى على المشركين أو يستفزه لشيء، ولكنه أراد أن يدفع هما في قلبه بهم فانساق إلى هذا وهاج غضب الفتى رثاء لهؤلاء، فتململ في مجلسه وهو يقول: أما ورب إبراهيم ومحمد! لو رأيت الجمحي وهو يعذب بلالا أو رأيت عمرو بن هشام وهو يطعن سمية حيث طعن أو عمر وهو يضرب زنيرة لقتلته ولو تناولتني السيوف من بعدها حتى لم تدع مني قطعة تحدث عن مكانها من جسدي. قال زيد: مرحى لك يا ورقة! هل آمنت بمحمد ودينه! ... فبهت الفتى، ثم قال: ويحي يا زيد ألا تعرف ذلك؟ قال: أنى لي أن أعرف ولم أجدك بايعته ولا أسلمت بين يديه. قال ورقة: وا سوأتاه ما حاجتي بمبايعته وإسلامي بين يديه وأنا حنيفي مثله أومن بالله ونبيه إبراهيم كما كان أمامي ابن نوفل وصاحبه ابن نفيل. قال زيد: ما زدت عن المشركين في كثير فهم في الحق على دين إبراهيم لولا أنهم ضلوا السبيل فجعلوا الأصنام وشياطينها شفعاء لهم من دون الله، ارفع أصنامهم كما رفعها إبراهيم تجدهم على ما كان عليه ابن نفيل وكما كان ابن نوفل. قال ورقة: لعمري لم يدعهم مولاي محمد إلى أكثر من هذا، وما غضبه إلا لله ولدين إبراهيم، وما يكره من قومه إلا عبادة هذه الأصنام التي أبطلها إبراهيم، وما غضب المشركين عليه إلا لأنه يسفه أحلامهم فيما يعبدون. فهو اليوم إمام الحنفاء، وسيد الموحدين، ومحيي دعوة إبراهيم، وخليفته في أبنائه من إسماعيل. قال زيد: هو ذلك ورسول رب العالمين إلى أمة لم يأتها النذير. قال ورقة: ويحي يا زيد! وما إسماعيل وأبوه! أليسا في المنذرين ألم يقل إبراهيم الله ربي الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا وزير ولا معين ولا ظهير الذي إليه الرجعى وإليه النشور؟ وما كلمات إبراهيم التي ابتلى بها؟ تلك الكلمات العشر التي نحن عليها أجمعين. حنفاء ومشركين؟ الخمس التي في الرأس: وهي المضمضة والاستنشاق وقص الشارب وفرق الشعر والسواك، والخمس التي في الجسد: وهي الاستبراء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان؟ وما الغسل من الجنابة وغسل الموتى وتكفينهم؟ وما الحج والاعتمار والإحرام والتلبية؟ وما الهدي ورمي الجمار وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وكراهة الخمر؟ أليست كلها من دين إبراهيم؟ وهل جاء مولاي محمد بغير ذلك أو نقضه؟ قال زيد: كلا بل قره الرسول
Unknown page