58

هذا ما استقر عليه رأيه في مكة ليلة ذهب لزيارة أمه، ولكنه تمثل البرح الذي سيعانيه قلبها الفطير؛ لما سترى منه من الأزورار عنها، والتزام الحد الفاصل بينه وبينها، وخطر على قلبه أنه سيسيء إلى من أحسنت إليه، وأنه إذا انتوى ذلك كان كالذي يضمر الشر لإنسان بريء آمن، ورأى أنها كالحمل الوديع الذي عزم صاحبه على ذبحه في الصباح، ولم تشفع فيه وداعة الأمس ولا براءته؛ فضاق صدره وقعد في فراشه مأزوما يتأوه، حتى غلبه الهم فهوى على فراشه يبكي وجدا وحسرة، وأسفا لما سيلحقه بالفتاة باختياره من الآلام، ولخجله من نفسه يوم تراه على غير ما كانت ترى منه، ولكنه أسلم أمره إلى الله، وأخذه الرقاد وهو يناجي ربه ويلتمس منه العفو والقوة والرضاء.

الفصل الثاني عشر

نعاء! نعاء

نهض ورقة ليركب جواده عائدا إلى هدى، ولم يكن حاديه اليوم على ذلك هوى نفسه للاجتماع بأحبابه؛ بل حبه لسيده وأستاذه الأول ورقة بن نوفل، فقد كانت والدته خبرته في العشية أنه مريض منذ عشرة أيام، وأن العلة اشتدت به ولا يعرفون له دواء، ولذلك رأى أن يبكر في العودة إلى هدى؛ ليستدعي أستاذه الحارث ليعوده عسى أن يكون شفاؤه على يديه، ولكنه ما كاد يذهب ليخرج جواده حتى تنبهت أذنه إلى صوت غريب. صوت أجش رتيب يسير به صاحبه متئدا وإن كان يتجلى شيئا فشيئا كلما تقدم نحو الدار، ولم يتبين منه ورقة إلا صورة قوله: نعاء. نعاء! وإذ لم يكن ينعى على هذه الصورة إلا العظيم القدر في الناس

1

فقد أشفق أن يكون المنعي سيده ابن نوفل فترك جواده، وجرى نحو الباب؛ ليتبين الحق حين كان ناعي الكرام على مقربة من باب الدار وهو يكرر قوله: نعاء! نعاء، ثم يعقبها بقوله: يا آل مكة عوضكم الله خيرا في أخيكم ورقة بن نوفل لا يبعد له مزار ولا يلمم بجدثه بوار.

دارت بورقة الأرض دورتها بمن تصميه النوائب، فانهد وجلس على عتبة الدار يفكر ولا فكر، وينظر ولا يرى، ثم لطف الله به فبكى، وزاد وجده فنشج، وكانت والدته قد سمعت النعي الفاجع فأعولت في الدار وولولت، وتجاوبت أصداء النحيب والعويل من ديار بني نوفل والحي المجاور، وكان صياحا أليما، وكان باقوم على فرط وجده لما فقد قد سمع بكاء الغلام ورثى لحاله، وخشي أن يبرح به الهم فنهض يتوكأ على عكازته إلى حيث جلس، وأخذ يحاول لفته عن وجده بكلام كان يعلم أنه لا يطفئ أهون شرارة من نار حزنه، ولكنه جعله وسيلة؛ ليأخذ بضبعه لينهضه، ويدخله بهو الدار عسى أن يتمكن من تخفيف ما أصابه. فنهض ورقة مطاوعة للشيخ الحنون، وسار حتى لمحت عينه في البهو مكتلا فجلس عليه يبكي كما كان، وجلس الشيخ إلى جواره يعزيه، ولكنه كان يبكي هو أيضا ويندب سوء حاله من بعده. أما العفيفة فلم تتئد بل خرجت من فورها وهي على حالها من الهلع، وسارت كذلك حتى بلغت دار الفقيد، وكان نسوة بني نوفل قد اجتمعن فيها وخديجة أم المؤمنين بينهن تبكي في صمت ووقار، وابن عمها مسجي أمامها في سريره، وكان العليات من بني عبد مناف يقبلن عليها مولولات نائحات؛ ليشتركن معها في الفاجعة، إذ كانت السيدة خديجة أقرب أهله إليه، وكانت منه على تعادل مفترعهما بمنزلة الابنة كما أن الرجل مات بغير عقب.

2

فلما رأتهن السيدة خديجة على هذه الحال أوعزت إلى فاطمة ابنة الخطاب - وكانت جالسة في جوارها - أن تنهى تماضر العفيفة أم ورقة عن ذلك العويل؛ لتنتهي عنه غيرها، وكانت فاطمة ابنة الخطاب حنيفية كزوجها سعيد بن زيد بن نفيل، ومن أوائل من آمن بسيد الحنفاء محمد بن عبد الله؛ فانبرت تلقي على المعولات عظة مما وعظها به الإسلام، ولكنها كانت توجه الخطاب إلى تماضر أم ورقة حتى لا تتأذى سواها. قالت: عفا الله عنك يا تماضر! إنك لتعقين سيدك الراحل بما تفعلين. أما تعلمين أن الميت يعذب ببكاء أهله، ولعمر الحق ما كنت من بره إلا كما تكون الابنة! قالت: صدقت يا سيدتي، فكيف أملك صبرا على مصيبتي فيه! وإنه لغافر لي عجزي. قالت فاطمة: لقد كان ينهي عن العويل والنياحة. قالت: وا سوأتاه إن له على كبدي لحقا يجزيه الآن حرقة والتياعا! قالت: فهلا انتهيت بما نهى عنه مولاك رسول الله! إنه لبريء من الصالقة والحالقة والشاقة جيبها. قالت: سلام على أبي القاسم! سمعت يا مولاتي وأنبت، وليلطف بي الله! على دينه أحيا وعلى دينه أموت. ثم جلست وراء الجالسات تبكي كسيدتها وقد انقطع العويل والنياحة حتى إذا جاء وقت الغسل توارت النسوة؛ فغسل على العادة وكفن، ثم حمله الرجال في سريره على الأعناق، وخرجوا به ليدفن في المعلاة شمالي مكة، وكان قد اجتمعت قبائل مكة في الطريق؛ لتسير في جنازته. فلم تشهد أم القرى له جنازة اجتمع فيها أشراف القوم وكأن على رءوسهم الطير كجنازة ابن نوفل، وإنه ليخيل إلي من عظم الراحل وقرابته من سيدة قريش أن النبي

صلى الله عليه وسلم

Unknown page