57

5

الحارث يملي وورقة يكتب، وكلما نفدت الرقاق انتهزا فرصة وجودهما في مكة إذا هما هبطاها لعيادة مريض فاشتريا منها حاجتهما، وعادا بها ليملآها تحبيرا.

والواقع أنهم قضوا شطرا كبيرا من أيام الصيف في متعة وهناءة على هذا المنوال، لا يكدر صفوهم مكدر، ولا يشعرون بالحاجة إلى أنيس، ولم ينقطع ابن نوفل عن زيارتهم وقضاء أيام في جوارهم، كما أن العفيفة أم ورقة وزوجها باقوم زاراهم وقضيا معهم بضعة أيام كانا فيها على أحسن ما يكون الضيف في منزل مضيف؛ فقد بالغت هرميون ولمياء والحارث في إكرامهما، وكان باقوم محل الإكرام الخاص من هرميون؛ لأنه رومي مثلها، ولأنه كان يعرف أباها حق المعرفة، وكان يحدثها عن الإسكندرية ويذكرها بأمورها وأحداثها، وما رأى فيها بعينه من أعمال القتل والنهب وتخريب المعابد، وقيام أهل المسيحية الملكية على أهل اليعقوبية وأخذ هؤلاء بالثأر، وانتهاز اليهود الفرصة للإيقاع بهؤلاء وهؤلاء، وارتداد الفريقين عليهما، ويحمد الله على أن هيأ له الفرصة للبعد عن مواطن هذه الجهالات، وكان سرور الحارث عظيما عندما سمع زوجته تحمد الله هي أيضا على ذلك، فقال: وأنا أحمده أيضا على أن أسمعني بأذني اعتراف أم لمياء بما صنعت؛ إذ نقلتها إلى بلاد لا يسمع فيها صخب ولا لغب، ولا يرى فيها حريق ولا بريق. قالت هرميون: صدقت، وإني لسعيدة بمقامي هنا، وأرجو الله أن يديم طمأنينتي على أبي الشيخ الأرمل وأختي هيلانة.

عاد باقوم وامرأته مشيعين بكل محبة وإكرام، وظل الحال كذلك فترة من الزمن، وهل هلال فذهب ورقة إلى أهله للزيارة على عادته، وانتظروه صبيحة الغد فلم يجيء؛ فساروت نفوس أهل البيت وساوس، ولكنهم لم يروا أن يتعجلوا سوء الظن فظلوا يرقبون الطريق، وكانت لمياء عينهم عليه؛ فقد ظلت طول اليوم فوق سطح المنزل عالقة العين بطريق مكة تمر الأشباح أمامها تلو الأشباح، وتنفيها واحدا بعد آخر؛ لأنها لم تكن تمثله. كان له شبح واحد تعرفه حق المعرفة، وتميزه بين ألوف من أشباح أخرى ولو اجتمعت. حتى إذا غربت الشمس نزلت وهي كمدة تعلن أنه لم يلح، وكان الحارث قد ساوره الخوف من أن يكون الفتى قد أصابته حمى من أثر نتن الأضاحي الذي كان يهب عليهم إذا دارت الريح دورتها فدخلت عليهم من الجنوب بعد إذ كانت تدخل من الشمال من ناحية الشام، فعزم على أن يذهب في الغد إلى مكة ليرى ماذا جرى لورقة.

جاء الغد ولكن الحارث لم يستطع النهوض من فراشه؛ لأنه أصيب بشيء من الفتور في جسمه ألزمه الفراش، ومضت ضحوة اليوم الثاني على ورقة والحارث في فراشه. فاضطرب الأمر في البيت اضطرابا عظيما، وساورت المخاوف هرميون ولمياء من كل جانب، ولم يخطر لهما ببال أن يرسلا أحد العبيد إلى النضر؛ ليخبره بمرض أبيه، ولعلهما كانتا تكرهان التقاء النضر وورقة في البيت؛ لئلا يعود إلى سابق كلامه المر، فاستقر رأي كل منهما على أن يسقطه من ديوان الفكر، ولذلك لم يكن له أثر في ذهنهما حتى في تلك الساعة التي لم يكن ورقة فيها في البيت، ولكن عبدهم زيادا الذي أحضروه معهم من مكة لم يسعه إلا أن يسأل سيدته لماذا لا ترسله إلى مكة؛ ليستدعي مولاه النضر وهو طبيب لا يشق له غبار،

6

ليرى أباه ويصف له الدواء الشافي؟ فتنبهت هرميون عندئذ إلى أنه يجب عليها أن تستدعي النضر لزيارة أبيه ولعيادته ما دام طبيبا عظيما؛ فأرسلته إلى مكة على الفور، وكلفته كذلك أن يذهب إلى بيت باقوم؛ ليسأل عن ورقة، ولم تزد على ذلك فيما يختص به؛ لأنها كانت تعلم أن هذا العبد يحب ورقة كثيرا، ويسعى في خدمته كأنه ابن سيده بل أكثر من ذلك، ولا بد أن يتعرف الأسباب التي حملته على هذا الغياب الذي لم يعتادوه منه فقد كان ورقة يعمل على ألا يغيب عنهم إلا ساعات قليلة لا يشعرون بها؛ ذلك أنه كان إذا جاء يوم مبيته عند أبويه ركب فرسه في العشي فبلغ مكة في أول العشية، وقضى الليل معهما، وركب في بكرة الصباح فبلغ هدى مبكرا؛ ليجتمع بلمياء وهرميون، وينعم بجوارهما قبل أن ينصرف إلى عمله مع أستاذه.

والواقع أن ورقة كان يشعر بدبيب الغرام في قلبه للمياء، ولكنه لحبه لأستاذه وأهل بيته كان يحسب أنه الهزة التي تعتري القلب إذا استشعر ولاء، أو الروح التي تتخلل جوارح الإنسان إذا أحس لأحد ودا ووفاء، ولكنه كان يرى هذه الهزة تشتد في أوقات خاصة، هي أوقات وحدته في مخدعه في هدى، أو في بيت أمه في مكة. هناك يتمثل لمياء في ظلام الليل فيتمثل كل محاسن الدنيا فيها وحدها، ويتمثل نظرات عينها الخفرة يشع منها في الحديث معه أو الإنصات إليه ذلك الضياء البهيج الساحر الذي يهز نفسه كلما شامه، وتتراءى له من ثغرها الألعث العجيب الصنع تلك البسمات التي تغمره بعواطف بر كثير لا يرى أنه جزاء له عن فضل، ويتذكر أنسها به، واقترابها من مجلسه وهم جالسون، ومجانبته وهم سائرون، وأن ذلك البر لم يكن مقصورا على ساعات حضوره مجالسهم في الدار، واجتماعه بهم تحت الكرم في البستان، أو مرافقته لهم إلى المعسل والبطيحة. فقد خبره صديقه زياد - غلام البيت - أنها لا تنقطع عن ذكره في ساعات غيبته عند أمه ، وتسائل والدتها وزيادا وجاريتها سودة: ألا تشعرون بفراغ لغيبة ورقة؟ فيقرها المسئولون على ما تشعر وينسون أنه ليس ولدهم ولا أخاهم، وذكر له أنها تظل تشيعه بالنظرات من فوق سطح الدار حتى يغيب عن العين، ولعلها لا تنام من الليل إلا أقله، ثم تنهض مبكرة في الصباح؛ لتتعجل رؤيته وهو عائد، وذكر له زياد كذلك أن لمياء رأت فتيات المعسل الفاتنات يترددن على سودة في البستان ويتألفنها ويهدينها تعاويذ مما يصنع السدنة، وحليا مما اشترين في بعض الأعياد، وعلمت منها فيما علمت أنهن يكثرن من الحديث عن ورقة وأهله ومكانه من الطبيب، فأوجست شرا وغضبت فأمرت سودة ألا تلقاهن، وأن ترد عليهن هداياهن مع زياد، كما أمرته أن يحرم عليهن الحضور لزيارتها في البستان.

تمثل ورقة كل ذلك وذكره، فأحس في نفسه حنوا شديدا عرف أنه الحب الذي يلهج به الشعراء. وتمنى لو يستطيع أن يراها الآن؛ ليضمها إلى صدره، ويقبلها، ويصارحها بما يجد لها في قلبه من الحب، ولكنه تنبه إلى نفسه وأمنيته المنكرة وعزاها إلى الشيطان الذي يلقي فسادا في القلوب التي تتجه إلى الله؛ ليفتنها عن الرشد، ويغريها بما لا يحمد. ما أشد جرمه لأستاذه وامرأته الطيبة وابنته المطهرة إذا هو عقهم وخان أمانتهم! إن من السيئات الكبر أن يضرم في قلب فتاة مطهرة كلمياء التي تحبه حب الأخت أخاها حبا لا ينتهي إلى خير. فما هو بكفء لها ولا ضريب! ما هو إلا ابن نجار عاش فقيرا ومات فقيرا، من سبية وجارية لا وزن لها في الحياة ولا قيمة! أما هي فابنة الحارث بن كلدة الثقفي قريع كسرى وجليس الملوك، وإن كان متواضعا حلو النفس، وهرميون ابنة قوزمان أعلم علماء الإسكندرية وبلاد الروم بأجمعها! إن كانت تحبه وتكرمه فلأنه نزيلها، ولأنه أمين لها ووفي، وإذا عطفت عليه فهو عطف إحسان وبر بيتيم لم يدر حتى اليوم كيف يحصل رزقه، لا لترفعه إلى مقام العزة التي هي فيها! بله أنها لا ترضى لابنتها بعلا لا تكون في حماه سيدة عظيمة، ذات جاه واسع ! ألم تقل في بعض حديثها مع زوجها على مسمع منه وتقل لجماعة من زوارها في مكة: إنها لن تزوجها لأحد من أهل هذه البلاد، بل لا بد أن تعود بها إلى الإسكندرية يوم تكبر؛ لتزوجها من بيت نيقتاس حاكم الإسكندرية كخالتها هيلانة.

لا حق له إذن في أن يعلن لمياء بحبه لها، وليس من تقوى الله ولا الأمانة ولا من الخير أن ينمي في قلبها الطاهر غير ما له فيه من حب الأخت أخاها! ولا من الشرف وعرفان الجميل أن يبدي من أمره إلا ما يبدو حتى الآن من عواطف الولاء والشكر! بل ربما كان خيرا أن يرتد قليلا ويلتزم الإجلال والتوقير للحارث وزوجته، ويعمل على رد لمياء إلى ما صدرت عنه من البر والمودة.

Unknown page