55

لم يكن أطيب من حديث الحارث حديث، ولا أدعى إلى المسرة والرضا، ولذلك تهافتت عليه هرميون ولمياء، فقبلتاه وشكرتاه. ثم نهضتا من فورهما تجمعان الأمتعة، وإذا بورقة يدخل عليهما متهللا؛ لأنه كان مع أبويه ساعة جاء ابن نوفل ليستأذنهما فيما أعلنه به الحارث من عزمه على الاصطياف في قرية هدى، ورغبته في أن ينتقل معهما ورقة، ويذكر لهما ما اشترطه عليه من زيارتهما وأنه (أي ابن نوفل) قد أهدى ورقة فرسا؛ ليحمله بين الهدى ومكة، وأنه نزل على كل هذه الشروط ووعد بأكثر منها.

فلما رأتاه كذلك هللتا، ودعتاه إلى التعجيل بجمع الأمتعة؛ لينصرفا عن هذه النيران التي تتأجج في جحيم هبل في مكة حتى سودت جسمانه. فضحك ورقة لهذا الكلام؛ لأنه كان يعلم أنهما لا تؤمنان بهبل ولا غير هبل، ولكنهما أرادتا المزح معه والتهكم من آلهة قريش، فقد كان هبل في الكعبة، وكان من حجر أسود، ولكن هرميون لم تشأ أن تقر بأنه كذلك، بل إن حر مكة قد أحرقه وسوده، كما تسود النيران أثافي القدور، ولكن ورقة لم ينصرف إلى ما دعتاه إليه، بل ذهب من فوره إلى الحارث فقبل يده شكرا على بره به، فقبله الحارث في جبينه وأثنى عليه، ثم كلفه أن يستعد للنقلة في الغد.

الفصل الحادي عشر

مصيف خالد بن الوليد

كان الوليد بن المغيرة المخزومي من ذوي الثروة الواسعة في مكة، وكان يملك كل ما كان من البساتين فيما بين مكة والطائف،

1

وكان قد سأله ولده خالد أن يقيم له بيتا يصطاف فيه في هدى. فأقامه على جبل تلوح الطائف منه كأنها في بطحاء، وكان صليح أبو ورقة صانع نجره كغيره من بيوت إخوته. ثم أصلح ما جاوره من الأرض وأعدها بستانا لزراعة الخضر وأشجار الفاكهة فيه، وأجرى إليه الماء من عين مهملة كانت تسيل في الوادي ضياعا، وجعل في الدار أحواضا تجتمع فيها المياه؛ لينتفع بها في مصالح الدار، ثم يطلق الزائد منها في البستان.

ولكن خالدا لم يكن يصيف فيه كل عام، ولا إن صاف ليقضي فيه كل الصيف. فكانت زوجته لهذا تؤثر عليه بيتهم في الوادي؛ لأن مطاليب العيش كانت لقربه من سوق مجنة ومدارج التجار والناس أوفر وأيسر، وفي العام الذي عاد فيه الحارث إلى مكة، كان خالد قد ذهب على عادته هو ونفر من فرسان بني مخزوم ولاة القبة والأعنة في قريش - أي زعماء الجيش فيهم - وغيرهم من فتيان بني عدي وأمية إلى مدائن كسرى للنزهة في بلاد العراق، وللوقوف على طرائق الفرس في تنظيم الجيوش وسوقهم إلى ميادين القتال؛ إذ كانوا قد أوغلوا في بلاد الروم فاستولوا على أرمينية، وقصدوا إلى القسطنطينية؛ ليثأروا من عاهلها السفاح فوقاس جزاء قتله موريقوس أبا مارية المحبوبة زوجة سيدهم العظيم كسرى أبرويز حتى لقد تطوع خالد هو وإخوانه من قريش في بعض تلك الغزوات، كما تطوعت الألوف الكثيرة من الحيرة وشمالي يثرب في هذا القتال مسترزقين، وإنما انضم خالد وإخوانه إلى جيش الفرس؛ ليقفوا على طريقة تنظيم القتال. فأبلوا وأحسنوا، وغنموا في الغانمين، وعرفوا الشيء الكثير من فنون الحرب، ولم يعودوا إلى بلادهم حتى اشتد الشتاء في جبال أرمينية وطرسوس.

وإذ كان بيته خاليا في الوقت الذي زف الحارث فيه ابنته إلى ابن عمها في الطائف، حين لامته هرميون على إنزالها في مكة، وجرى ذكر هذا البيت في مجلس له مع الوليد بن المغيرة، فقد رغب إليه أن يستأجره أبد الصيف، أو يبيعه إياه، ولكن الوليد لم يجد إلى ذلك سبيلا؛ لأنه إذ بناه لخالد كان البيت بيته، ولكنه رضي أن يشغله الحارث بلا أجر حتى يرى فيه رأيا.

وقد سر الحارث لحيازة المنزل سرورا بالغا؛ إذ إنه يحقق أمنية الزوجة التي أشقاها بنقلها إلى الصحراء بعدما كانت في الإسكندرية عروس المدائن، وذهب من فوره واتفق مع ابن نوفل في أمر ورقة، وكان ما كان من اغتباط هرميون ولمياء، وإعدادهما حمول الانتقال إلى هدى.

Unknown page