44

كان هذا النجار قد استقدمه أبو ربيعة المغيرة من مصر؛ ليصنع له نجر بيوت أقامها لأولاده في بساتينهم في أرباض مكة. فلما أتم عمله وأصاب من ورائه رزقا طيبا آثر الإقامة في مكة ارتياحا إلى العمل في بلد تقل فيه مهرة الصناع، وإجابة لإشارة سراتها، وكذلك عاش بين ظهرانيهم عشر سنين يصنع لهم ما يريدون من النجر فإذا لم يكن لديه ما يشغله من حاجة الناس عكف يصنع من خشب الساج الأسود تماثيل لهبل

5

ومن خشب السدر أو العرعر لغير هبل من آلهة الجاهلية ما بين صغيرة وكبيرة، بغير ما تقيد بصورة، ولا تعمل لإتقان ويبيعها للأعراب مغاليا أيام مواسم الحج والاعتمار، وزاد في إقبالهم عليه أنه كان يحفر على كل نحيته اسمها بالقبطية.

كان هذا النجار عربيا يدعى صليحا القبطي؛ إذ كانت كلمة قبطي نسبة تطلق على كل من يرد من مصر من سكانها عربيا كان أو فارسيا أو أثيوبيا. فما كلمة قبطي التي أطلقها العرب إلا تحريف لسانهم لكلمة جبت الرومية التي يعنون بها ما نعني الآن بكلمة مصر العبرية، ويطلقها أهل أوربة جميعا على بلاد وادي النيل ما بين أسوان وبحر الروم، وما أهل مصر في الحقيقة إلا أبناء العرب الرحل الذين وردوا إليها من قديم الزمان قبل مصاريم وبعده، وفي عهد الرعاة وبعده، ولا سيما من شمالي الجزيرة العربية، كلما أجدبت بهم الأرض، أو اضطرهم الغالب إلى النزوح، أولئك استوطنوها، ثم لم ينقطع سيلهم عنها كما لم ينقطع عن وادي دجلة والفرات، وكان القديم منهم يعد نفسه أصيلا حتى يتقادم العهد على الجديد فيندمج في القديم، ويشترك في تسميته الأجد دخيلا حتى يندمج هو أيضا، وهكذا إلى وقتنا هذا، وكانت لهم وفدة كبرى في أيام الإسكندر إذ جاء العرب النبطيون إلى مصر ففتحوها له، واستقروا بها، وكذلك في الأيام القريبة من البحرين والقدس أيام غلب العرب الغساسنة على بلاد بني سليح الضجاعمة في الشام وبلاد القدس فهاجروا منها إلى مصر، كما فعل إخوانهم من قبل، وملأوا الوادي من شماله إلى سيوط حين ملأ بنو أعمامهم السابقون والراحلون إلى مصر من أثيوبيا والنوبة ما بين أسوان وسيوط من بلاد الوادي الخصيب، وإذ كان من عادة هؤلاء الأعراب أن يدخلوا في دين مصر، في الوثنية والنصرانية، وجرى بينهم ما يجري بين أهل الدين الواحد من الاختلاط بالتزاوج، وتوحدت مصلحتهم ووطنيتهم بإزاء سادتهم الروم الذين حرموهم بحق الفتح والغلبة حقوقهم الوطنية، فقد أطلق عليهم الروم كلمة النسبة إلى جبت

6

أي مصر حين احتفظ لهم العرب بالنسبة إلى رومة، حتى بعدما انتقلت الإمبراطورية إلى بيزانطة، ولم يهم الروم أن يفرقوا بين الأثيوبي والعربي؛ لاختلاطهم من ناحية، وتقارب سحنتهم من ناحية أخرى، واتفاقهم في الدين من ناحية ثالثة، وهو أهم شيء.

فكلمة قبطي معناها مصري، أي: سكان مصر، وليس لها أي معنى آخر لولا أن بقيت للدلالة على اتباع الملة اليعقوبية في مصر ولو كان روميا أو زنجيا أو ابن أمة. لا للدلالة على جنس خاص.

كان صليح يعرف ذلك ويعتز به، ولكنه كان في الواقع عربيا خالصا، قريب العهد بديار العرب ومثابتهم ولكنه إذ كان مسيحيا أطلق عليه لفظ النسبة إلى جبت فسمي القبطي.

كان أبوه غواصا ورد إلى الإسكندرية من سواحل بلاد البحرين؛ ليبيع فيها بعض لآلئ جاد بها عليه بحر الفرس، وكان روم الإسكندرية أهل ثراء ورفاهية، فاشتروها منه بثمن كريم. ثم حلا له المقام فيها، فاستوطنها واشتغل بصيد السمك فيها، وتزوج من أعراب حي رقودة في الإسكندرية،

7

Unknown page