37

قال الفتى: لبيك إلهي طائعا ومنيبا.

وانصرف ورقة يمشي قدما في استقامة محتميا بجذوع الشجر فيما بينه وبين الصخرتين كما كان ليوهم الرجل أنه ماض في سبيله حتى يطمئن فينزل من وكره الذي اعتصم فيه، ولكن الرجل لم يكن بالحدث الغر، وقد رأى في حديث ورقة واحتمائه بالنخل ما رابه من أمره، وإن كان قد شاهده يعود إلى محجة المسافر بقدم ثابتة. فخطر على باله ألا يستهدف لأذاه بنزوله من مكانه، وقد رآه يحمل سيفا، وقوسا، وخنجرا كذلك، ورأى في الفتى شدة الرجال، وجراءة الشجعان، ورأى من الخير أن يريح نفسه منه بقتله. فما أن لاح له جانب من ورقة حتى صوب إليه السهم تلو السهم، ورمى عليه، ولكن السهام مرت من فوق رأسه ترن رنينا ثم تخفت ساقطة في الرمال. فوجد ورقة في ذلك الفرصة المشتهاة. فما سمع الرنين حتى صرخ صرخة عالية لم يدر أن صحبتها صرخة أخرى صادقة واردة من مكان بعيد، ولكن هذه ذهبت أو اشتجرت مع صرخته فكان الصوت بالغا، وحرص ورقة أن يتظاهر بالموت، على أن يكون موتا يدنيه من الحياة، فلم يقع على وجهه أو جنبه، بل ارتمى على ظهره، وأخذ يزيح الرمل برأسه ليزيغ لرأسه حفرة يستقر فيها اليافوخ متدليا، ويستطيع وهو على هذه الحالة أن يرى الرجل وهو على الجبل. هناك تأوه ورقة مرتين، وصرخ صرختين؛ ليوهم القرضاب أنه مات، وليرى ما وراء ذلك من فعله، فما كان يشك في أنه نازل من الجبل ليظفر بغنيمته، وصدق حدسه وصح تدبيره، فقد زعم اللص أنه قتل ورقة وأمن شره، فنهض حيث كان، وظاهر العراء ليتدلى من الشق الذي كان ينزل منه الماء، وأخذ يضع أقدامه على ما أبقت المياه والأعاصير من نوانئ. حتى إذا توسط صفحة الجبل، وأصبح لا يملك إلا أن ينزل أو يصعد في طريقه. نهض ورقة في خفة النمر، وشد قوسه، وأخذ يرميه بنباله رميا متداركا حتى رأى اللص قد خارت يداه وقدماه وسقط يلتطم ببقية المهوى إلى أن تلقفته وقيعة الماء، فصب فيها بقية ما كان في جسمه من الدماء، واستقر فيها بلا حراك.

لم يدر ورقة ماذا يفعل بعد ذلك، ولكنه وجد أن من الخير أن يركب ويمضي. فذهب في فرحه إلى الناقة، وكانت في هذه الأثناء ترزم حنينا إليه، وهو يقول لها. إيه يا أخية. هأنذا. أكنت ترين أن أخاك في خطر؟ لا. هأنذا فاحمدي الله معي.

ود أن يحل عقالها ويركب، ولكنه كره أن يغادر المكان قبل أن يتأمل غريمه، فذهب إلى حيث كان، ووقف ينظر إليه فإذا هو أمام رجل كأنه الضبع العرفاء، طويل شعر الرأس والشاربين مسوده، وإن كان قد وخطه الشيب، ذو رقبة مرتصعة غليظة، وفكين كفكفي القرد الكبير، وذراعين كالأسطوانتين وساقين كذلك، وملأ ورقة عينه من الرجل فهابه في موته، بل تملكه الذعر، ثم تذكر أن الله وحده هو الذي أراد له النجاة وإلا فما كان يستطيع أن يغالب مثل هذا الوحش لو جادله، ولا أن يقاتله وهو في معتصمه بين الصخرتين. فلم يطق أن يطيل الوقوف عنده، وعزم على الانصراف عنه قبل أن يهديه خياله إلى سبب ترتاح إليه نفسه في مسيل الماء من بين الصخرتين وانقطاعه. ولكن هيبة الرجل كانت أعمق أثرا في نفسه من عجبه، فسار عنه وهو ينظر إليه، ثم لكزه برجله لكزة ينتقم بها منه لما أنزل به من الذعر وهو واقف حياله، ولكن رجله لم تضرب في رقارق بطن الرجل بل التطمت بجسم صلب ارتدت عنه قدمه. فسرعان ما جرد ورقة خنجره وشق ثوب القتيل، وإذا هو يكشف عن منطقة عريضة من الجلد، رأى من ظاهرها أنها مكتظة بالنقود فحلها عن وسط الرجل وانتزعها، وسار على عجل إلى الناقة فركبها وأنهضها، وعاد من حيث دخل الخميلة يلتمس محجة الطريق، ولكنه لم يتمهل حتى ينصرف عن المكان ليرى ما تحتويه المنطقة، بل حل أربطتها وأفرغ في حجره ما كان فيها فإذا هي تحوي من مسكوكات الذهب والفضة شيئا كثيرا دراهم فارسية بغلية، وأخرى رومية طبرية، ودنانير كذلك من أوزان مختلفة . كان منها ذو العشرة القراريط، وذو الإثنى عشر، بل وجد من بينها نوادر الدنانير الذهبية ذات العشرين قيراطا، وعجائب الدنانير الفضية التي كانت بقدر راحة الغلام

6

عد الذهب على عجل فبلغت عدته ثلاثين ومائتي دينار ففرح بها فرحا كبيرا، وأعادها إلى جرابها على عجل، فاكتظ بها ولم يسعها كلها، فوضع بقيتها في جيبه، واحتال حتى تمنطق به تحت ثوبه، وسار في خفة الظافر الموفق السعيد يلتمس المحجة وهو غارق فيما هو فيه من الاغتباط.

وفيما هو يسير متجها نحو الشرق عسى أن يعثر بالطريق الذي حادت عنه ناقته باختيارها أيقظه من غيبوبته السعيدة أنين وارد من جانب الطريق فتأثره فإذا هو ينبعث من غلام في الثانية عشرة من العمر منطرح على الأرض والدم يسيل من خده وفمه. فوقف عليه ناقته وأخذ يتأمله. ثم سأله: ما بك يا غلام؟ فلم يحر الغلام جوابا لشدة ما كان فيه من البرح، ولكنه شرع إليه جفنيه وبكى ثم أغمضها على الفور، وإذ لم يجد ورقة في الغلام ما يريبه أناخ بجواره ونزل ففحص عنه فوجد أنه مصاب في شدقه وفكه، وقدر أنه أحد السهام الطائشة قد أصابه، وتذكر أنه سمع صوته صارخا عندما صرخ هو أيضا مدعيا أنه المصاب، ولكنه تعجب أن يسير الغلام وحده في هذه الناحية، وهي على ما رأى من مخاوفها، وود أن يسأله، ولكن الغلام لم يكن يستطيع الكلام. فانصرف إلى إسعافه بقدر ما يملك، وعمد إلى سقاء الماء، وأجلس الغلام، وغسل الدم عن فمه ووجهه. وتحسسه فلم يجد كسرا فاطمأن وطمأنه، وهون الأمر عليه؛ فتنشط الغلام، واستطاع أن ينطق، وكانت أولى كلماته شكرا بالغا. ثم قد ورقة من عمامته شقة لثم بها الفلاح، وفيما يده تمر بفمه مال عليها الغلام وقبلها شكرا واعترافا بالجميل. ثم طلب إليه شربة ماء فأعطاه زقه وتمضمض ولفظ ثم شرب ولم يكثر، وعاد إلى شكر ورقة وهو يقول له: الحمد لله الذي نجاك من القرضاب، ولكني أنصح لك أن تبعد عن هذا المكان على الفور، وإني أخشى أن يدركك.

دهش ورقة لهذا النبأ، فسأله: أتعرفه؟ قال: نعم. أنا غلامه. قتل أبي منذ ثلاث سنوات وأخذني سبيا لأني كنت معه، ولقد وقع في فخاخه كثيرون، وشهدت ما حاق بهم؛ قتلهم، واستلب أموالهم من نقود ومطايا كما فعل بأبي. بالله خبرني كيف نجوت؟ إنه يحسن الرماية فإذا كان السهم الأول قد طاش فما كان يطيش الثاني. قال ورقة ولم يرد أن يشرح ما جرى قبل أن يعرف ما عجز عن معرفته: أما كيف نجوت فبفضل الله، ولكن قل لي ما سر هذا الماء الذي يسير منحدرا عن الجبل تراه العين من مدى بعيد، ثم لا تجد له الآن أثرا؟

قال الغلام: هذا ما خدع به كل من جاءوا قبلك. كان بعضهم يلتمس مقيلا في تلك الخميلة، أو ماء لراحلته إن كانت قد أوشكت أن تموت عطشا فيأتي إلى الجبل. فإن كان غرا صدق حكاية النسر، ومضى تاركا راحلته بما عليها للإله، فنزل وأخذها ودار بها حول الجبل حتى يصعد بها. ثم ينحدر بها إلى الأسواق ويأخذني معه فيبيعها ويعود على راحلتي وأنا أرادفه، وإن لم يكن غرا رماه بالقوس فقتله، ولكني رأيتك تسير وحدك وقد تركت راحلتك، فلماذا رماك؟

قال ورقة: لأنه رأى أني لم أكن غرا وإن كنت قد تركت له هذه الشملالة. ثم ضحك والتفت إليها. لا. لم أكن لأفارقك حتى أموت. ثم عاد إلى الغلام يقول: ولكنك لم تخبرني عن الماء. ما اسمك يا غلام؟

Unknown page