30

ملك اليأس فؤاد إسحاق كما ملك سواه، ولكنه لم يطق البقاء في مكانه فنفر من مجلسه وخرج إلى ظاهر فسطاطه يستنشق نسيم الصحراء، وينفس عن صدره بالمشي في الخلاء، وقد صور له اليأس أن يهم هو نفسه بهذه المهمة؛ ليستوقف القافلة حتى يرد عيره بما معهم من الأثقال والحمول، ولكنه لم يكن بصيرا بالطريق. ثم تواردت عليه أخيلة مما صوره له جمالته من مخاوف الصحراء، وكانت الشمس قد آذنت بالغروب، وأخذت الأرض تصطبغ بألوان دهماء، وتعد النفس للأوهام، فخطا نحو رفقته يستأنس، وقد عول على المضي إلى نجران في هوادة، وينتظر بها حتى يرحل إلى الحجاز عير آخر.

الفصل الثالث

ورقة بن صليح

ما كاد إسحاق يستقر في خيمته، وينهي إلى رفقته ما استقر عليه رأيه حتى بلغ أذنهم صياح استغاثة ودقدقة أقدام غير بعيدة عن الفسطاط. فنهض من مجلسه فزعا ونهض من معه كذلك، وخرجوا إلى ظاهره ليروا ما هنالك، وإذا بهم يصطدمون بمقدم جمالتهم فارا من القتل، وإذا هم يرون فتى من عنفوان الشباب يجري محنقا مغضبا وراء الجمال، والسيف مصلت في يده. فاعترضه إسحاق قائلا: على رسلك يا فتى! من أنت؟ ولماذا تجري بالسيف وراء الرجل ؟

وقف الفتى في روعة شبابه يلهث وهو محنق، لا يتكلم بل أخذ ينظر إلى الحكم ورفقته بعينين واسعتين سوداوين طويلتي الهدب زادهما الغضب سعة وسوادا، وأظلهما حاجبان مقوسان كالسيف الذي في يده، وينظرون منه إلى محيا أسيل لم تخف سماحته حتى من وراء ما علاه من الغضب، وفم منتظم الشفتين والثنايا، وعنق متلع على صدر رحب في قامة وسط بين الطول والقصر، وليس عليه إلا ثوب

1

أسود بين المسوح والحبر،

2

قد تمنطق عليه بحميلة سيفه، وغرس خنجره في حزام عليه غير عريض.

وإذ لم يرد سؤال إسحاق عاد إسحاق يسأله وهو يعمل على تهدئته: ما سبب هذا يا ترى؟ هل أساء الرجل إليك؟ فأجابه الفتى، وقد عرفه؛ لأنه رآه هو وبعض من معه في صنعاء: إن هذا الجمال لص غادر. ثم تعجب للسائل كيف لم يتذكره فقال: ألا تذكرني أيها السيد الحكم؟ إني أنا ورقة ابن صليح المكي وقد تلاقينا قبل اليوم.

Unknown page