15

ثم ملأها العرب من بعده بالنازحين إليهما من بلاد العرب الأم على مدى ثلاثة العشرة من القرون. جنسنا فيها واحد هو جنس العرب، ولغتنا فيها واحدة هي العربية، ومجتمعنا فيها واحد؛ إذ حياتنا الاجتماعية في كل صقع منها مثيلة بها في كل صقع عربي آخر، ودين الغالبية، التي لا تعد الأقلية في جوارها شيئا كبيرا، هو الدين العربي، على أن هذه الأقلية عربية قديمة الأرومة، ولن يخرجها من حظيرة الوطنية العامة كونها بقيت على غير الإسلام، ولكن هذه الأوطان قد عبثت بها أطماع أوربة الاستعمارية وفكت من أوصالها.

وفي اعتقادي أن جهودنا في سبيل الحياة والاستقلال يجب أن تكون موجهة إلى توحيد الوطن العربي الذي حددته؛ سواء كنا تابعين في هذا أو متبوعين، ما دام يعصمنا الإسلام من الزلل. ولذلك يجب أن نحيي الخلافة في صورة عصبة متحالفة لأقطار العرب وسائر المسلمين؛ لنحيي المبدأ الذي قامت عليه دولة الإسلام في وجه الدنيا المغيرة منيعة خيرة؛ ليكون من قوينا لضعيفنا صون، ومن عالمنا لجاهلنا نور، ومن غنينا لفقيرنا ثروة وتمكين، ولنا من وسائل ضمانة حسن العمل والتوازن ما عرفنا العلم والتاريخ والنظم القائمة.

هذا ما يجب علينا عمله والدعوة إليه بكل وسيلة إذا كنا راغبين حقا في الحياة على صورة صحيحة مسعدة، أو كنا متألمين حقا لما أصابنا من الوهن والاتضاع، يجب أن نحيي وطننا العربي وديننا العربي، ونجري على ما أمر به رسول الله سيد العرب وسيد الخلق معا؛ لنستعيد مجدنا وهناءتنا ومنعتنا، وإلا فماذا ينتظر هذا الشرق الإسلامي من الدنيا إذا كان لا يعمل لها عملها، بل يهمل أسباب المنعة والقوة، ويكتفي من الأمر بالدعاء لله تعالى أن يرد عنه غائلة المغتالين ومطامع المغيرين! لا، لن يجيب الله دعاء قوم يعطيهم الإسلام فيتجاهلونه، أو يكتفون منه بمظاهر العبادة، فما العبادة إلا وجه من وجوه الإسلام، أما روح الإسلام فالإخاء والتعاون والتناصر والعمل الجدي على صيانة بلاد الله ودينها من عوامل الفناء الملحة عليه من كل جانب، بكل وسائل الصيانة والدفاع، ورد منعتها إليها؛ لتستطيع أن تعيش شريفة، وتسعد الدنيا معها، وتمحو منها هذه الشرور العصبية التي تفتك الآن بالناس جميعا، حتى بالفاتك نفسه.

من أجل هذا شرعت في وضع هذه السلسلة القصصية؛ لأعرف معالم تاريخ الإسلام إلى من لا يعرفونه أو لا يجدون الوسيلة ولا الزمن إلى مطالعته، أو لمن عندهم كل هذا ثم يهملونه؛ إذ هو علم، ولا يهملونه؛ إذ هو قصص، وقديما عرف الأوربيون فضل القصص في الدعاوة والتبصير والدرس الذي ما كانوا يملكونه لولا أن يصاغ في القالب الذي تتهافت عليه الأيدي والقلوب، وهو قالب القصة التي لا يجد فيها الناس مشقة عليهم في قراءتها ولا تكليفا، وإن وجدوا فيها علما ونورا، بل يجدون في عنوانها مغريا بتناولها، وفي روايتها حاديا على قراءتها، وفي اللذاذة منها تطلعا إلى أمثالها، ومن ثم تنتشر حيث لا يخطر على البال: في المدن والصحراوات والبحار وفي الجبال، في البيوت والفنادق والمعسكرات والمستشفيات، في القطر والسفن والطائرات وفي الترام والسيارات وفي الضياع والمزارع والمضارب والمنتجعات والمشاتي والمصايف، بين أيدي الكبار والصغار من رجال ونساء، وبين العلماء والجهلاء، والأغنياء والفقراء، والأبناء والأمهات، والبنين والبنات، وفي أيدي التلاميذ ومعلميهم، والجنود وضباطهم، والعمال والصناع والسادة والخدم وأحلاس البيوت. جميع هؤلاء ومن لا يستطاع حصرهم سيكون لهم من هذه الرواية وما سيتبعها من سلسلة قصص التاريخ الإسلامي - أيسر وسيلة للعلم به واكتناه الحقيقة فيه، وسيرون الإسلام فيما فعل المسلمون، وسيكونون - يومئذ - أدنى إلى الإجابة عند الإهابة، وأرعى للآباء ساعة النداء، وأزكى قلبا وأعظم بالعقل والروح؛ حبا لرسول الله وتقديرا للخير الأعلى الذي جاءنا من ظلال سدرة المنتهى.

وسيكون دأبي في هذا القصص غير دأب ديماس الفرنسي، فهو لم يهتم إلا بالخيال ولو أفسد التاريخ، ولا دأب وولتر سكوت الإنجليزي، فهو لم يرع للتاريخ كبير حرمة، بل سيكون إمامنا في ذلك لورد ليتون

4

وأيبرس

5

الألماني؛ فقد راعى كل منهما التاريخ أولا، وغلب حقه على حق الخيال ؛ لأنه لم يكن بصدد الأدب وحده ، بل كان بصدد مواعظ التاريخ وعبره، ولأحرى بي أن أنهج نهجهما وأنا بصدد العبرة من تاريخ بلادي ومواعظه، حين أنهما كانا يكتبان عن غير بلادهما، على أني لم أجد هذا المسلك علي شديد الوعورة حين كتبت قصصي التمثيلي، وهو أشق من هذا الصنف وأصعب مراسا؛ ولذلك أراني شاكرا فضل الله علي في أني لم ألجأ مرة إلى مباحثات الأدب القصصي فألوي التاريخ، أو أقدم الحوادث أو أؤخرها من أجل الأدب، بل التزمت مسار التاريخ فيما بين أيدينا من الكتب المعتمدة العربية والإفرنجية إلا فيما يختص بأشخاص الرواية الذين تخيلتهم.

وإذا قلنا الرواية فمعنى هذا الذوات التي حيكت بينها قصة محبة تقصر أو تطول تبعا للمقصد، وإذا طالت بنا قصة باب القمر؛ فالمقصد واضح، والغرض أعم وأوسع من أن تتضمنه بضع مئات من الصفحات. •••

Unknown page