وأن الإسكندرية ذات مرفأ عظيم على البحر يصل بينها وبين الدنيا برمتها فلا خوف عليها من المجاعة. نعم إن هرقل استنزف ذخيرتها من القمح والغلال، ومن جنود الروم الأبطال، ولكن كان فيها من هذه وتلك ما يقيمها على العز أعواما لو أحسن الدفاع عنها.
2
كل ما كانوا يخشونه أن ينفد الماء العذب الذي في الصهاريج، ولكنهم كانوا في الشتاء، وفي استطاعة كل بيت أن يجمع من فضل الله حاجة حياته بلا كبير عناء، ويدخرها في الصهاريج لأيام الصيف إذا منع الفرس عنهم ماء الخليج، ولذلك لم يضطرب أهل الإسكندرية إلا بمقدار ما شعروا من أنهم أصبحوا حبيسين وراء أسوارها المنيعة، منقطعين عن إخوانهم في الدلتا والصعيد انقطاعا تاما، وإن لم يكن يفيدهم اتصالهم بهم شيئا كثيرا؛ لوقوع تلك الجهات في يد الفرس من قبل.
أما نيقتاس فكان على غير حالهم. نعم، إنه لم يكن يخشى حصار الفرس؛ لاطمئنانه إلى أسوارها، وكفاءة المرابطين عليها، وقدرة مجانيقها، ولكنه كان يخشى خيانة اليعاقبة واليهود. فهؤلاء في اقتدارهم مهما ضعفوا أن يشغلوا حماة الأسوار عن حمايتها بما يجب لها من التوفر، وكانت مؤامرة الأمس سببا في إيقاظ نفسه إلى التعجيل بالعمل على وقاية المدينة من هذه الثورات الداخلية، وتذكر ما نصح به ورقة من ضرورة مضاعفة الجند في حيي رقودة واليهود فقال للقواد: إني أعلم أن ما تحت يدكم من الجند قليلون، ولكنكم لا تجهلون أن اليعاقبة كالبراغيث إن لم يؤلم البدن قرصها كبير الإيلام فهو يشغله عن الانصراف إلى غير الحكة، واليهود شر من هؤلاء، فهم كالبق تكفي بقة واحدة؛ لتشغل البدن عن كل شيء. فاقتطعوا إذن من رجالكم من تستطيعون؛ ليكونوا في مخفري رقودة ومعسكر قيصر تحت إمرة ضباط من الشبان يعملون بأمر ضابطي المخفرين. قالوا: كل هذا حق وإنا نازلون عيه من فورنا، ولكنا نرى أن ندعو إليك بطريق اليعاقبة وحبر اليهود تعلنهما بجزاء من يثور، وتطلب إليهما تحذير أتباعها من العبث. قال: هذا ما كنت عازما عليه، ولكني سأكتفي بأن أرسل إليهما رسولا يحسن القول.
ثم التفت إلى ورقة وكان واقفا وراءه في المجلس فقال له: خد جوادا وانصرف به إلى بطريق كنيسة الأنجليون، وإلى الحبر في الكنيس، وأبلغ إلى كل منهما ما سمعت ولا حاجة إلى توصيتك بما يقال. ثم انصرف إلى مخدعك فنم. لقد تعبت طول يوم أمسك وسهرت طول ليلك، وها نحن أولاء نكلفك عبئا. قال ورقة: إن سعيي في خدمة مولاي يفعمني قوة، وتكليفه إياي بمهمة للدولة مكرمة ومفخرة لي تزهيني وتنشطني. قال له الجمع: أحسنت الجواب يا فتى! بورك فيك! وكان نيقتاس ينظر إليه وهو يسمع إعجاب قادة الجيش بحارسه مزدهيا ممتلئ القلب حبا له، كأنه ابنه لا أنه عربي لا يجمعه به من صلات الدنيا إلا حبه للمياء ابنة هرميون الرومية التي عزم أن يزوجه إياها في عشية يومه.
الفصل الثاني والأربعون
غرام مفاجئ
ذهب ورقة إلى كنيس اليهود في حيهم شرقا فيما وراء كنيسة المار مرقص، وأنهى إلى الحبر رسالة المقوقس فتلقاها الحبر باستياء عظيم، ولكنه كان في الواقع استياء متكلفا. فقد كان اليهود يبيتون الشر للروم فعلا، واجتمع أحبارهم بمن جاءوا من بلاد القدس؛ للعمل على الإسراع في القضاء على حكمهم في مصر، ولكن الحبر لم يكن له إلا أن يتظاهر بأن سوء الظن باليهود في غير محله بعد ما ثبت للأمير ولاؤهم. قال ورقة: إن الأمير يعد السيد الحبر الكبير مسئولا بالذات عن كل حركة من شأنها تعطيل الجند عن مدافعة المحاصرين، ولا يريد أن يتهمه بأنه اجتمع بإسحاق بن مرداس والحبر اليمني، ولا أنه هو الذي دبر لهما الاجتماع ببعض قساوسة اليعاقبة في سرب قصر ليونوتس المتهدم. فلما سمع الحبر هذه التهمة اضطرب وهلع، وأخذ يقسم أغلظ الأقسام على أنه لم يرهما ولم يجتمع بهما، وخانه حجاه فجعل كل إنكاره منصرفا إلى أنه لم يشترك في شيء، ونسي أنه إنما كان يقر بأنهما وجدا، وبأن كان هناك اشتراك في مؤامرة. فنهض ورقة يقول: لقد بلغت رسالة الأمير وهو لا يرجو إلا أن تعوها. ثم خرج بين التحية والإجلال من الحبر ورفقائه، وامتطى جواده إلى كنيسة الأنجيليون للقاء أندرونيكوس بطريق اليعاقبة.
هناك تلقاه قسيس مهيب الطلعة برتبة مطران عرف أنه وكيل البطريق فلما لقيه أحس ورقة كأنما قد رآه في سرب القصر مع المتآمرين، وتنبه إلى ذلك لما رأى الرجل الذي كان معه. فلما واجهه قال: إنه آت برسالة من عند المقوقس يبلغها إلى البطريق نفسه، ولذلك يرجو منه أن يستأذن له في الدخول عليه. فاعتذر الوكيل بعدم استطاعته ذلك؛ لأن البطريق مريض لا يقوى على مقابلة أحد، وأنه إذا تفضل فأنهى إليه رسالة الأمير فهو ضمين له بتنفيذ مشيئته فيها، وكان الرجل يتكلم وفي صوته رعدة لم تخف على ورقة فقال: لمن أوجه القول من رؤساء هذه الكنيسة الموقرة؟ قال مخاطبه: لوكيلها تيوناس أيها الضابط الشريف قال: ومن هذا الذي يشهد معك الحديث، ويسمع معك رسالة الأمير؟ وكان داعيه إلى هذا السؤال أنه اشتبه في الرجل الثاني أيضا فقد أحس أنه بطرس البحريني بعينه إلا أنه حلق لحيته وشاربه وحواجبه كذلك، وأحنى ظهره ولبس لباس الكنيسة، ولكنه لم يشأ أن يفاجئه وانتظر جواب الوكيل. قال: هذا كاتبي. قال: منذ متى؟ قال: منذ ... جاءنا من كنيسة منوف قال ورقة: عرفت مخاطبي إذن. اسمعا. فاضطرب الرجلان، وبدا الذعر على أعينهما، ولكنهما تماسكا فانصرف ورقة يقول: إن مولاي يحذركما من أن تعودا إلى مثل ما كنتما فيه بالأمس مع إسحاق بن مرداس والحبر اليمني في سرب قصر الحاكم ليونوتوس، وهو ينذركما، وينذر البطريق، وسائر رجال الكنيسة معكما أنه إذا قامت في هذا الحي اليعقوبي حركة أو شغب من شأنه أن يشغل الجند عن مدافعة الفرس فدمكم على رءوسكم ... ثم نهض لينصرف، وقد حاول الرجلان أن يردا تهمة التآمر التي ألقاها ورقة عليهما، وانبرى بطرس على عادته من الزئاط يفند التهمة، ويستعدي الرب على الظالم، واستقام عوده منه على غير وعي فكان صوته وعمله أدل عليه مما بقي من صورته، ولكن ورقة لم يلتفت إليهما، وخرج ولم يرد بكلمة حينما كان يسايرانه إلى الباب، وركب جواده وانصرف.
عجب بطرس ووكيل الكنيسة كيف عرف أنهما كانا في ذلك السرب بالأمس، وثبت لبطرس ما سمعه من أن ضابط المخفر في رقودة كان يبحث عنه فلم يصدقه ولم يصدقه المطران، ولذلك عادا إلى الغرفة صامتين من فزعهما. فلما استقرا عادا إلى التساؤل والرجم بالغيب، وهما يكادان يحسان شفرة السيف فوق رقبتهما، وأخذ كل منهما يفكر في طريقة للهرب من الإسكندرية على الفور واتفقا على ذلك، ولكن الأبواب كانت في ذلك الوقت مقفلة لا يدخل أحد منها ولا يخرج بسبب الحصار إلا ما كان على البحر فقد كان هنك اثنان: أحدهما باب ميناء لوكياس، ميناء قصر الإمارة التي لا يدخلها إلا سفن الأمير أو الإمبراطور وتحميها الغلايين الحربية الخاصة، وباب الخليج عند اتصاله بالبحر في الميناء الغربية. كان هذا الباب مباحا للجمهور والصيادين، غير أنه كان كسائر أبواب المدينة قد أقفل، وإن ظل في صون بطس الحرب والحراقات التي كان الميناء الغربية مخصصة لها
Unknown page