124

20

بالسفن الواردة إلى المدينة فكست بأجرامها لبة الماء كما تكسو أسراب الأوز العظمية صفحات البحيرات البعيدة عن أذى الإنسان، ولكنهم لم يكونوا يسمحون إلا للسفن الأميرية وشباهها بالدخول والسير إلى مرفأ شارع كانوب

21

الذي يتوسط المدينة مارا من الشرق إلى الغرب. أما سائر السفن فكانت تنعطف إلى اليسار، وتدخل بحيرة واسعة هناك؛ لتنزل حمولها.

وإذ كانت السفينة التي تركبها هيلانة وورقة تحمل شارات القصر فقد سمح لها بالدخول، وسار في رفقتها على الشاطئ بعض الجند؛ ليكونوا في حراستها حتى تقف عند مرساها بالقرب من جسر شارع كانوب.

ولشد ما كان اضطراب نفس هيلانة ووجدها عندما وقعت عينها على مكان عزها: على المدينة التي كانت فيها ثانية اثنتين في المجد والعز والمتعة بل أولى نساء مصر؛ إذ كانت سلفتها زوجة نيقتاس قد قضت نحبها قبل مقدمه، وأصبحت اليوم كأية امرأة، بل دونهن جميعا. فما عز المرأة إلا شعاع من شمس أبيها، فإذا تزوجت كان عزها من شمس زوجها، فإن ترملت انطفأ عنها هذا الشعاع وذاك. شعرت هيلانة في قرارة نفسها بهذه الحقيقة المؤلمة فبكت وسح دمعها سخينا؛ لأنها كانت تفجر دمعها من أعماق قلبها المحترق بالحزن والترمل، وشهد ورقة هذا المنظر المؤلم، وأدرك سره فتألم، ولم يجد من حقه أن يحاول تعزيتها بشيء من القول. فقد كان يعلم حق العلم أن هذا الحزن أبعد من أن تصل إلى الأذن فيه كلمة تعزية. بل كان يرى - وبحق ما يرى - أن كلمة التعزية التي يتعجل بها المجامل في مثل هذا الظرف أدعى إلى إيلام نفس المرجو عزاؤه، بل من شأنها أن تطلعه على خلو نفس المعزي من الحس أو صواب التقدير؛ لأنه لو كان صادق الحس لبكى معه، وندب معه. أما وهو يرى الأمر من الهوان بحيث يملك المعزي عقله ولسانه فيتكلم، ففيه الدليل على أنه غفل القلب أناني جامد الحس يبتغي أن يعود المحزون إلى سابق حالته التي كان للمعزي مصلحة فيها وفائدة. كان ورقة يعرف ذلك بفطرته المخلصة، ويدرك قدر ما تلقى هذه المرأة من الشقوة، ويعرف سر بكائها الآن، وتمثله لنفسه، فاغرورقت عيناه بالدموع أسفا لحالة صديقته الثاكلة الأيمة وحزنا عليها، وإذ نظرت إليه وهو يراقبها في حزنها وجواها ولا يتكلم إلا بهذه القطرات المترددة - أدركت قدر نبل الفتى وصدقه فرقأت عبراتها في تأملها جلال روحه، واستطاعت أن تنهض من مجلسها قائلة: هلم بنا. لقد وصلنا أيها الصديق الوفي. هلم نذهب إلى البيت الذي ولدت فيه لمياء، وكانت بذكر لمياء تحاول مخادعة نفسها، وتتظاهر بالتشجع؛ لكي لا تقصر في حقه عليها من مشاركته فيما لا بد أن يكون فكر فيه من أمر لمياء، ولكنه كان بصيرا بخلجات القلوب فلم يأبه لذلك، واستمر في العناية بصديقته الثاكلة. فقال وكأنما ذكر لمياء لم يوقظه: هلم يا سيدتي، ولكنك نسيت أن تأمري بإكرام غلمان السفينة. قالت: سأكرمهم في بيت أبي. مرهم يحملوا متاعنا. إن البيت قريب من هنا، والأمر لا يحتاج إلى عربة. قال: بل الخير أن يكون إكرامهم قبل أن نغادر السفينة. فابتسمت وقالت: إذن فأعطهم ما تشاء. قال: بل تأمرين يا سيدتي، فما ركبت قبل اليوم سفينة، ولا نقدت نوتيا في حياتي شيئا. فقالت: أعط كلا منهم إذن نصف دينار. ففعل ورقة كما أشارت، وتقبل النوتية عطاءها بفرط الشكر، وانصرفوا يحملون متاع ورقة القليل إلى الشاطئ في أثرهما، ولم تجد هيلانة بدا وقد أعد لهما حارس السفينة عربة إلا أن يركبا، ولاسيما لأن هيلانة لم تكن في ملبس يليق بكرامتها، وإن لم يعرف أحد من هي .

سارت بهما العربة شرقا في شارع كانوب الواسع العظيم مارة فوق أرض مرصوفة بالحجر اللامع بين صفين من القصور والمباني العظيمة ذات الأعمدة الإغريقية والقباب الشاهقة والحدائق تتخللها تماثيل العظماء الغابرين وأعيان الناس، وكان أبين تلك القصور قصر المحكمة تحرسه جنود من الروم والزنج في ملابسهم البهيجة.

ولشدة ما شده ورقة لما رأى وتعجب، ولكنه لم يكن في دهشته هذه أرعن فضاحا لعواطفه بما يبدي من القول والإشارة، بل كان على عادته متزنا ينظر ويتأمل، ويقارن ويعجب، ويتذكر باقوم وما كان يروي، ولعل أعظم ما لفت نظره في تلك الجولة أنه كان يرى الشارع الأعظم تقطعه دروب جانبية

22

كأنما خطت هي والشارع الأعظم يوم مهد على مثل رقعة الشطرنج الذي رأى أهل اليمن يتسلون بلعبه في مجالسهم، وكان في دكانة نعيم رقعة منه يقدمها لأصحابه الذين كانوا يأتون إليه؛ ليقضوا بعض الوقت في متجره. أدهشه النظام والعناية، وشعور حكام المدينة أن حياة المدن تتطلب حسن التدبير حتى تتوافر فيها السعادة والراحة، وكان في ذلك مقارنا بين الإسكندرية ويثرب ومكة بل وصنعاء، حيث الدروب رسوم أفاعي منسابة، أو مجازات للراجل ذات حفر ونقر، ولشد ما كان إعجابه عندما انعطفت بهما العرفة في حي رقودة حي المصريين والجند والأعراب

Unknown page