وعلى هذا النحو حفظ الصبي ألوانا من أخبار الكرامات والمعجزات وأسرار الصوفية، وكان إذا أراد أن يتحدث بشيء من ذلك إلى أترابه ورفاقه في الكتاب قصوا عليه أمثاله؛ يضيفونه إلى صاحب السافلة ويؤمنون به إيمانا شديدا.
كانت لأهل الريف؛ شيوخهم وشبانهم وصبيانهم ونسائهم عقلية خاصة فيها سذاجة وتصوف وغفلة، وكان أكبر الأثر في تكوين هذه العقلية لأهل الطريق.
الفصل السادس عشر
على أن صبينا لم يلبث أن أضاف إلى هذه الألوان من العلم لونا آخر جديدا، وهو علم السحر والطلاسم؛ فقد كان باعة الكتب يتنقلون في القرى والمدن بخليط من الأسفار، لعله أصدق مثل لعقيدة الريف في ذلك العهد؛ كانوا يحملون في حقائبهم: مناقب الصالحين، وأخبار الفتوح والغزوات، وقصة القط والفأر، وحوار السلك والوابور، وشمس المعارف الكبرى في السحر، وكتابا آخر لست أدري كيف كان يسمى، ولكنه كان يعرف بكتاب «الديربي»، ثم أورادا مختلفة، ثم قصص المولد النبوي، ثم مجموعات من الشعر الصوفي، ثم كتبا في الوعظ والإرشاد، وأخرى في المحاضرات وعجائب الأخبار، ثم قصص الأبطال من الهلاليين والزناتيين، وعنترة، والظاهر بيبرس، وسيف بن ذي يزن، ثم القرآن الكريم مع هذا كله. وكان الناس يشترون هذه الكتب كلها، ويلتهمون ما فيها التهاما، وكانت عقليتهم تتكون من خلاصته كما تتكون أجسامهم من خلاصة ما كانوا يأكلون ويشربون.
وقد قرئ لصاحبنا من هذا كله فحفظ منه الشيء الكثير ولكنه عني بشيئين عناية خاصة: عني بالسحر، وعني بالتصوف. ولم يكن في الجمع بين هذين اللونين من العلم شيء من الغرابة ولا من العسر؛ فإن التناقض الذي يظهر بينهما ليس إلا صوريا في حقيقة الأمر، أليس الصوفي يزعم لنفسه وللناس أنه يخترق حجب الغيب، وينبئ بما كان وما سيكون، كما أنه يتعدى حدود القوانين الطبيعية ويأتي بضروب الخوارق والكرامات؟ والساحر ماذا يصنع؟ أليس يزعم لنفسه القدرة على الإخبار بالغيب، وتجاوز حدود القوانين الطبيعية أيضا، والاتصال بعالم الأرواح؟! بلى، كل ما يوجد من الفرق بين الساحر والصوفي هو أن هذا يتصل بالملائكة، وذلك يتصل بالشياطين. ولكن يجب أن نقرأ ابن خلدون وأمثاله لنصل إلى تحقيق مثل هذا الفرق، ونرتب عليه نتائجه الطبيعية من تحريم السحر والترغيب عنه، وتحبيب التصوف والترغيب فيه.
وما كان أبعد صبينا وأترابه عن ابن خلدون وأمثال ابن خلدون! إنما كانت تقع في أيديهم كتب السحر ومناقب الصالحين وكرامات الأولياء، فيقرءون ويتأثرون، ثم لا يلبثون أن يتجاوزوا القراءة والإعجاب إلى الاقتداء والتجربة، وإذا هم يسلكون مناهج الصوفية، ويأتون ما يأتيه السحرة من ضروب الفن، وكثيرا ما يختلط في عقولهم السحر والتصوف، فيصبح كلاهما شيئا واحدا، غايته تيسير الحياة والتقرب إلى الله.
وكذلك كان الأمر في نفس صاحبنا، فقد كان يتصوف ويتكلف السحر، وهو واثق بأنه سيرضي الله، ويظفر من الحياة بأحب لذاتها إليه.
وكان من القصص التي تكثر في أيدي الصبيان يحملها إليهم باعة الكتب، قصة اقتطعت من «ألف ليلة وليلة» وتعرف بقصة «حسن البصري»، في هذه القصة أخبار ذلك المجوسي الذي كان يحول النحاس ذهبا، وأخبار ذلك القصر الذي كان يقوم من وراء الجبل على عمد شاهقة في الهواء، وتقيم فيه بنات سبع من بنات الجن، والذي أوى إليه حسن البصري، ثم أخبار حسن هذا وما كان من رحلته الطويلة الشاقة إلى دور الجن ، وبين هذه الأخبار خبر ملأ الصبي إعجابا؛ وهو أن قضيبا أهدي إلى حسن هذا في بعض رحلته وكان من خواص هذا القضيب أن تضرب به الأرض فتنشق ويخرج منها تسعة نفر يأتمرون أمر
1
صاحب القضيب، وهم بالطبع من الجن أقوياء خفاف يطيرون ويعدون، ويحملون الأثقال، ويقتلعون الجبال، ويأتون من عجيب الأمر ما لا حد له.
Unknown page