من صلاة العصر وهو يقرأ شيئا من الأدعية كعادته، فاستقبلهم مبتسما مطمئنا، وكان صوته هادئا، وكان صوت سيدنا عاليا، وكان صاحبنا لا يقول شيئا، وكان اليتيم مبتهجا. أجلس الشيخ سيدنا ورفيقيه، ووضع في يد اليتيم قطعة من فضة، ودعا الخادم وأمره أن يأخذ هذا اليتيم إلى حيث يصيب شيئا من الطعام، ومسح على رأس ابنه وقال: «فتح الله عليك! انصرف إلى أمك، وقل لها: إن سيدنا هنا.»
وكانت أمه قد سمعت صوت سيدنا، وكانت قد أعدت له ما لا بد منه في مثل هذا الوقت، وهو كوز ضخم طويل من السكر المذاب لا شيء عليه، أخرج إلى سيدنا هذا الكوز فعبه عبا، وشرب رفيقاه كوبين من السكر المذاب أيضا، ثم أخرجت القهوة فشربها سيدنا مع الشيخ، وكان سيدنا يلح على الشيخ في أن يمتحن الصبي فيما حفظ من القرآن، وكان الشيخ يجيب: «دعه يلعب إنه صغير.» ثم نهض سيدنا لينصرف، فقال له الشيخ: «نصلي المغرب معا إن شاء الله.» وكانت هذه هي الدعوة إلى العشاء، وما أحسب أن سيدنا نال شيئا آخر أجرا على ختم صاحبنا للقرآن؛ فقد كان يعرف الأسرة منذ عشرين سنة، وكان له فيها عادات غير مقطوعة، وكانت الكلفة بينه وبينها مرفوعة، وكان واثقا أن الحظ إن يخطئه معها هذه المرة فلن يخطئه مرة أخرى.
الفصل السادس
منذ هذا اليوم أصبح صبينا شيخا وإن لم يتجاوز التاسعة؛ لأنه حفظ القرآن، ومن حفظ القرآن فهو شيخ مهما تكن سنه، دعاه أبوه شيخا، ودعته أمه شيخا، وتعود سيدنا أن يدعوه شيخا أمام أبويه، أو حين يرضى عنه، أو حين يريد أن يترضاه لأمر من الأمور، فأما فيما عدا ذلك فقد كان يدعوه باسمه، وربما دعاه «بالواد»، وكان شيخنا الصبي قصيرا نحيفا شاحبا زري الهيئة
1
على نحو ما، ليس له من وقار الشيوخ ولا من حسن طلعتهم حظ قليل أو كثير، وكان أبواه يكتفيان من تمجيده وتكبيره بهذا اللفظ الذي أضافاه إلى اسمه كبرا منهما وعجبا لا تلطفا به ولا تحببا إليه. أما هو فقد أعجبه هذا اللفظ في أول الأمر، ولكنه كان ينتظر شيئا آخر من مظاهر المكافأة والتشجيع؛ كان ينتظر أن يكون شيخا حقا، فيتخذ العمة ويلبس الجبة والقفطان، وكان من العسير إقناعه بأنه أصغر من أن يحمل العمة، ومن أن يدخل في القفطان ... وكيف السبيل إلى إقناعه بذلك وهو شيخ قد حفظ القرآن! وكيف يكون الصغير شيخا! وكيف يكون من حفظ القرآن صغيرا! هو إذن مظلوم، وأي ظلم أشد من أن يحال بينه وبين حقه في العمة والجبة والقفطان!
وما هي إلا أيام حتى سئم لقب الشيخ، وكره أن يدعى به، وأحس أن الحياة مملوءة بالظلم والكذب، وأن الإنسان يظلمه حتى أبوه، وأن الأبوة والأمومة لا تعصم الأب والأم من الكذب والعبث والخداع.
ثم لم يلبث شعوره هذا أن استحال إلى ازدراء
2
للقب الشيخ، وإحساس بما كان يملأ نفس أبيه وأمه من الغرور والعجب، ثم لم يلبث أن نسي هذا كله فيما نسي من الأشياء.
Unknown page