ولكن الفتى عاد مع إخوته إلى مدينتهم تلك في إجازة الصيف، وإنهم لفي قراءتهم ذات يوم وإذا البريد يحمل إلى أخيه كتابا من أحد أصحابه، وإذا هو يقرأ هذا الكتاب ثم يعيد قراءته على أخيه الفتى فيسمع منه عجبا من العجب.
كان الفتى قد أنفق في طلب العلم في الأزهر ثماني سنين، وكان الأزهر قد تعرض لألوان مختلفة من النظام، فلما كان ذلك الصيف أبيح للطلاب المنتسبين أن يزيدوا مدة انتسابهم النظامية، إذا استطاعوا أن يثبتوا أنهم درسوا في الأزهر أو في المعاهد الدينية الأخرى قبل أن يبلغوا السن التي كانت تبيح لهم الانتساب النظامي، وهو اثنتا عشرة سنة، ليتعجلوا تقدمهم للامتحان وظفرهم بالدرجات.
وأعلن هذا الترخيص في أثناء الإجازة، فيسرع هذا الصديق فيكتب إلى المشيخة طلبا باسم الفتى، يزعم فيه أنه قد درس في الأزهر سنتين قبل أن يبلغ السن القانونية، ويعرض هذا الطلب على اثنين من كبار الشيوخ لم يرهما الفتى ولم يرياه قط، لم يسمع لهما الفتى درسا ولم يسمعا منه شيئا ، ولكنهما يقرآن ثم يشهدان بأن الفتى لم يقل إلا حقا، وأي بأس لذلك وما أكثر ما اختلف إليهما من الطلاب! وكيف السبيل إلى أن يعرفا تلاميذهما الذين لا يحصون!
وكذلك عرف الفتى من حيث لا يدري أنه قد أنفق في الأزهر عشرة أعوام وإن لم ينفق فيه إلا ثمانية، وأنه لم يبق بينه وبين التقدم لنيل الدرجة إلا سنتان اثنتان.
فليصل إذن من حبل الأزهر ما انقطع أو ما هم أن ينقطع، وليظل إذن طالبا بالجامعتين: بالجامعة الأزهرية كما كان الأزهر يسمى في ذلك الوقت، وبالجامعة المصرية، وليحي إذن هذه الحياة المشتركة التي يتجاذبه فيها قديم الأزهر في ذلك الحي العتيق بين الباطنية وكفر الطماعين، وجديد الجامعة في ذلك الحي الأنيق من شارع قصر العيني.
فلندعه كما كان موضوعا للصراع بين القديم والجديد، ومن يدري! لعلنا نعود إليه مرة أخرى.
وها أنت ذا يا بني تهجر وطنك ومدينتك ودارك وتفارق أهلك وأصدقاءك، وتعبر البحر في سنك هذه الصغيرة لتطلب العلم وحيدا في باريس.
فدعني أهدي إليك هذا الحديث لعلك ترتاح إليه بين حين وحين إذا أجهدك درسك ووجدت في اللاتينية واليونانية مشقة أو عناء، هنالك ترى لونا لم تعرفه من ألوان الحياة في مصر، وتذكر شخصا طالما ارتاح إلى قربك منه، وطالما وجد في جدك وهزلك لذة لا تعدلها لذة، ومتاعا لا يعدله متاع.
فيك سورسير
يوليو-أغسطس سنة 1939
Unknown page