القطار يغطس في الأنفاق المظلمة ثم يطفو ثم يغطس ويطفو، كأنه الطائر على سطح البحر يطير ثم يهبط لينغمس في الماء لحظة ثم يعود إلى الظهور ليطير ... على شفة بارزة من سفح الجبل امتد طريق السيارات، تراها جارية واحدة بعد واحدة تلمع في ضوء الشمس ... ليس في أمريكا كلها مكان مهجور مهما بدا في الظاهر أنه كذلك.
القطار ما ينفك في انثنائه ودورانه؛ إنني لا أحب لونه الأحمر لأنه شبيه بلون قطارات البضائع في مصر، ولولا هذا لقلت إن الإنسان حين يحلم برحلة في قطار تبلغ حد الكمال الذي ليس بعده كمال، فلا يمكن أن يطير به خيال الأحلام إلى ما هو أبلغ من هذا وأروع وأبدع ... كيف يمكن في الدنيا أن تكون الرحلة بالقطار أجمل من هذه الرحلة: هذا الصالون ذو المقاعد الدوارة وجدران الزجاج، وعربة المطعم وعربة الشراب وعربة المقصف وجزء من عربة للمكتبة، ثم المناظر التي نخوض فيها خوضا منذ ساعة الظهر حتى أظلم الليل! ثم هذه الشمس الساطعة التي جعلت الهواء شفافا لامعا كأنه كتلة من البلور، وهذا الثلج وهذا الشجر الغارق في أكداس الثلج ... إن تصور ما هو أروع من ذلك مستحيل على الخيال، إلا أن يكون خيالا يشبه خيال هؤلاء الذين خلقوا هذه الأشياء من عدم: فالجبال كشفوها وشقوها ومهدوها، والقطار صمموه وأعدوه وأجروه باسم العلم والعقل المفكر منسابا في أمن وثقة وطمأنينة نفس وراحة جسم.
لا يزال الثلج يزداد انتشارا وكثافة كلما سرنا نحو الشمال، كان المنظر عند أول دخولنا جبال روكي - عند مدينة «ردنج» الزراعية - أخضر صرفا، ثم أصبح أخضر مبقعا بأبيض كأنه جير، وهو الآن أبيض مبقع بنقط خضراء هي رءوس الشجر الغارق في أطباق الثلج الكثيف.
الظاهر أننا قد هبطنا الآن بعد ارتفاع؛ لأننا دخلنا فجوة كالصحن الكبير، تخلو من الثلج أو تكاد؛ فها هنا قل الشجر وزادت الصخور الكالحة الجرداء، فجوة الصحن الكبير تحتنا هناك عميقة بعيدة، وقد تكونت على فوهتها أشرطة من سحاب أبيض كأنها مجاري الماء ... إن هذه الفجوة الكبيرة من الأرض المنخفضة وعليها هذا السحاب شبيهة بوعاء كبير يغلي به ماء، ثم انكشف عن الوعاء غطاؤه فجأة فتكورت فوقه لفائف صاعدة من البخار المتكاثف، وبطانة الصورة عند الأفق الخلفي هي سلسلة الجبال التي خلفناها وراءنا بثلوجها على القمم والسفوح.
لا نزال ساعة العصر، وقد غفوت ربع ساعة صحوت بعدها لأجد الثلج غزيرا والضباب كثيفا تتعذر معه رؤية شيء ... لا بد أن نكون قد دخلنا - في هذا المتحف الطبيعي الكبير - إلى غرفة أخرى بعد أن خرجنا من غرفة كانت قليلة الشجر معدومة الثلج ... لكن الوقت لم يطل حتى انجاب هذا الضباب وظهر الخبئ؛ وهو مسطح من الماء المتجمد، هو سطح بحيرة كلاماث؛ وهو مسطح سرنا خلاله ساعة أو نحوها كله لوح واحد من الثلج كأنه أرض أعدت للانزلاق، ويحيط بهذا المسطح الثلجي جبال من كل النواحي، غطاها الثلج (ألا يكفي اللغة العربية فقرا ألا نعرف كيف نميز فيها بين هذين النوعين من الثلوج
Snow
و
ice ، فالبحيرة سطحها لوح من
ice ، والجبال من حولها يغطيها
snow ، لكن كله عند العرب «ثلج»).
Unknown page