قال لي السيد «ف» بعد حين: تعال معي أطلعك على نموذج من الأماكن التي تستخدم للجلوس في الصيف، والتي تقوم عندنا مقام المشارب التي قلت لي عنها إنها موجودة في باريس وفي القاهرة ... وأخذني إلى بناء تدخل فيه إلى حديقة فنائه؛ الحديقة جميلة، وكلها نبات أخضر؛ أعني أن ليس بها زهر مختلف اللون إلا صفا واحدا من زهور كبيرة حمراء ... وكان إلى جانبنا جماعة من الشباب يضحكون ويضحكون في صوت عال ومرح ظاهر؛ فقلت للسيد «ف»: هذه جماعة من الغرباء ويستحيل أن يكونوا من أهل هذا البلد؛ فقال: لا ريب في هذا ... قلت: إني عرفت ذلك من الضحك الذي يضحكونه والصخب الذي يصخبونه؛ فقال: أما أنا فقد عرفته من نوع الشراب الذي يشربونه، فهم يشربون ما لا يشربه أهل نيوأورلينز.
وتحدثنا بعد ذلك حديثا طويلا طليا عن الخلق الأمريكي، كان السيد «ف» في معظم الأحيان يتكلم وأنا أسمع، فوجدته يقول أشياء تتفق حرفا بحرف مع مشاهداتي؛ فقد حدثني عن مسارعة الأمريكي إلى نسبة نفسه إلى أصله الأوروبي، فيقول مثلا إنه إنجليزي أو ألماني أو إسباني ... إلخ، والسيد «ف» يتهم بذلك أهل الشمال وحدهم، مع أني لاحظت المشاهدة نفسها في الجنوب كذلك؛ وهو يعتقد أن أهل الجنوب أعرق حسبا وأعمق تأمركا من أهل الشمال؛ ففي الشمال أسرات كثيرة جدا لم يمض عليها في أمريكا أكثر من جيل واحد أو جيلين، فلا عجب أن يظل أصلهم الأوروبي عالقا في أذهانهم.
ومما لذ لي سماعه من السيد «ف» تحليله التفصيلي لعلاقة الأمريكيين بالإنجليز من حيث المشاعر الحقيقية؛ فقد زعم لي أنهم يمقتون الإنجليز مقتا شديدا، كما أن الإنجليز يكرهونهم، على الرغم من كل هذا الرياء والنفاق، ويقول: لا عجب؛ فنحن نمقتهم لأنهم يستخفون بنا، ويظنون بنا السذاجة والتفاهة والحداثة؛ وهم يكرهوننا لأننا أول من بدأ لهم طريق التدهور؛ فالثورة الأمريكية هي الفصل الأول من انحلال الإمبراطورية البريطانية؛ إن البريطانيين - في رأي السيد «ف» - يتصفون بالبلادة والكسل؛ جاءت إلى أمريكا أثناء الحرب سيدة إنجليزية، ورأت عندنا أكداسا من البصل، فأشفقت على نفسها وعلى أمتها وبكت، قائلة إن البصل هنا مكدس كأنه أكوام من الحصى والتراب، ونحن في إنجلترا لا نكاد نجد بصلة واحدة ... لكن أحدا من الحاضرين لم يعطف عليها رغم بكائها، فلماذا لا يزرعون ما شاءوا من البصل وغير البصل في أرضهم التي يتركونها بغير زرع؟ لقد كنت في الجزء الأوسط من إنجلترا إبان الحرب ورأيت فدادين الأرض بعد فدادينها متروكة بغير زراعة؛ ذلك لأن الإنجليز يريدون من الشعوب الأخرى أن تمدهم بالطعام كما تمدهم بأدوات الحرب؛ إنهم لا يريدون أن يعملوا، بل هم ينتظرون من غيرهم أن يعمل من أجلهم؛ نحن مختلفون عن الإنجليز اختلافا أساسيا جوهريا؛ فهم يجعلون الأهمية الاجتماعية لصاحب الحسب والأصل؛ ونحن نجعل الأهمية لصاحب العمل والإنتاج؛ المهمون في تاريخنا وفي مجتمعنا هم روكفلر وروتشيلد وأضرابهما من الرجال، لا اللورد فلان ولا الإيرل علان؛ فالأساس مختلف عندنا عنه عندهم؛ إنه لو زارتنا ملكة الإنجليز - مثلا - فيستحيل أن تجد أمريكيا واحدا ينحني لها؛ لأننا لا نحني ظهورنا لأحد كائنا من كان، بل قد نجد الأمريكي الأصيل البسيط يرحب بها مبتسما قائلا: أهلا يا ملوكة! كيف الحال؟
واستطرد السيد «ف» يقول: قد تدهش لما سأقوله لك الآن لكنه صحيح؛ فنحن أقرب إلى الألمان في روحنا منا إلى الإنجليز؛ ففي أيام الحرب، وعلى الرغم من الحرب بيننا وبين الألمان، كان الأمريكي لا يشعر في ألمانيا أنه غريب بقدر ما يشعر بالغربة في إنجلترا؛ لأن البيت العادي في ألمانيا والحياة العادية فيها هي نفسها الحياة التي تعودها الأمريكي في بلاده؛ فالشوارع عريضة ونظيفة، وفي كل بيت ثلاجة كهربائية وغسالة ... إلخ، فلما ذهب جنودنا إلى ألمانيا وجدوا هذه الأشياء في البيت الألماني، فوجدوا الصورة التي ألفوها في بيوتهم؛ وكذلك وأهم من ذلك، وجدوا استعدادا عند الألماني أن يعمل، وهذا هو فهم الأمريكي للحياة؛ أما في إنجلترا فلم نجد عندهم طعاما ولا وجدنا في بيوتهم شيئا من المعدات الحديثة، ولا رأينا الطرق وتخطيط المدن على الطراز الحديث، ثم ما هو أهم من ذلك كله، وجدناهم شعبا يريد أن يستريح على حساب عملنا نحن وعمل غيرنا من الشعوب ... إني أحب لك أن تقرأ كتابا قيما في هذا الموضوع لكاتب اسمه
James Truslo Adams
وعنوانه «الأمريكي»؛ ففيه يحلل هذا الكاتب ما بيننا وبين الألمان من قرابة نفسية وروحية، وكيف نبعد عن الإنجليز ونختلف عنهم ... كان لي صديق بكباشي في الجيش الأمريكي أيام الحرب، أرسل إلي خطابا وهو لم يزل محاربا في ألمانيا، فلم يتردد حتى في تلك الظروف أن يمجد لي الألمان بكل قلبه؛ فهم بمجرد هزيمتهم انصرفوا فورا إلى الأرض يزرعونها وإلى الحياة ينشئونها، قل لي بربك: لماذا كان الإنجليز بغير طعام ولم يزرعوا أرضهم؟ كنت تعبر بحر المانش آتيا من إنجلترا إلى فرنسا، فترى الناس يزرعون ويملئون أسواقهم بالطعام، ثم تعود فتعبر البحر إلى إنجلترا فلا ترى إلا قلة في الخيرات وكثرة في الصلف والكبرياء!
وانتقل السيد «ف» إلى الحديث عن الفكر الأمريكي الخاص بهم من أدب وفلسفة، فقال: إنهم ليسوا مجرد أتباع مقلدين؛ فأين في آداب العالم شبيه ب «إدجر ألن بو» أو ب «إمرسن» ... إن الذي خلق منا شعبا هو أعظم شعب شهده التاريخ، هو أننا صفوة من عدة شعوب، فكأنما خرجت من هذا المزيج عجينة فيها أحسن ما في الأجزاء كلها؛ هذا إلى أننا بدأنا تاريخنا من نقطة البداية، فلم يكن وراءنا تقاليد بالية تعوقنا وتعطل سيرنا، وليس بيننا تفاخر بالأسر مما يكون من شأنه أن يعرقل مساواة الفرص أمام الجميع.
عدنا إلى منزل السيد «ف» ليغير ثيابه استعدادا للعشاء الذي تفضل فدعاني إليه، وهناك أطلعني على كتاب لم يكن يعلم أني قرأته، هو كتاب «ثورة الجماهير» للكاتب «أورتيجا إي جاست» ... قال: إن غاية هذا الكتاب هي أن يبين كيف نما وعي طبقات الشعب بنفسها؛ فقلت له: إن في ذلك رائحة ماركسية؛ فقال: وهل كل ما قاله ماركس خطأ؟ لقد أعجبني من روزفلت مرة أنه قال في إحدى خطبه - وكنا لا نزال عندئذ في قتال مع إيطاليا: إن موسوليني بطل حقيقي وإيطالي عظيم لكن إلى حد معين من مجرى حياته، غير أنه جاوز ذلك الحد فبدأ الخطأ ... ومضى السيد «ف» في كلامه فقال: إنك تستطيع أن تقول شيئا كهذا عن ماركس وأضرابه ممن يأتي خطؤهم من تجاوز الحدود.
كان حديثي مع السيد «ف» على مائدة العشاء يدور حول بعض الأدباء الأمريكيين المحدثين والمعاصرين، خصوصا من استمدوا إلهامهم من «نيوأورلينز»؛ فكان ممن ذكرهم «مرغريت متشل» كاتبة «ذهب مع الريح»، قال: إننا جميعا هنا كنا نعرف القصة - يقصد الحوادث الحقيقية التي بنيت عليها القصة - ونعرف المناظر، ومعظمها في مدينة أتلانتا (بولاية جورجيا) ... دهشت حقا حين رأيت الحماسة والانفعال الذي يتكلم بهما السيد «ف» كيف أن رجال السينما قد صفعوا الجنوب صفعة قوية على وجهه حين لم يقع اختيارهم على ممثلة من أهل الجنوب لتقوم بالدور الرئيس في «ذهب مع الريح»، فما دامت القصة كلها والكاتبة وكل شيء ينتمي إلى الجنوب، فلماذا لا تقوم بالدور الرئيسي ممثلة من الجنوب؟ ألأن الجنوب لم يخرج ممثلات من أبرع الممثلات؟ ألم يخرج الجنوب فلانة وفلانة وفلانة وهن جميعا من الصف الأول بين ممثلات العالم براعة وقدرة؟ لكن أهاننا القائمون بصناعة السينما، ولكي يستروا هذه الإهانة الكبرى جاءوا بممثلة أجنبية، فلا هي من الجنوب ولا هي من الشمال (هي فيفيان لي الإنجليزية) ... هذا فضلا عن خديعتهم للكاتبة مرغريت متشل حين أعطوها خمسة وسبعين ألفا من الدولارات، ولما كانت المسكينة لا يهمها المال أبدا ولا تفكر فيه لم تناقشهم الحساب، وأخذت ما أعطوها إياه، مع أن هذا الفيلم السينمائي كان ينبغي ألا يقل أجر كاتبه عن مليون دولار ... هنا أبديت دهشتي من ضخامة المبلغ قائلا: مليون دولار؟! فقال: معلوم! لم لا؟ نعم مليون دولار، إن «تنسي وليمز» قد أخذ ربع مليون في كتابه «مركبة الترام المسماة دزاير» ... ألا تعلم أن «ذهب مع الريح» هو أعظم فيلم أخرجته هوليوود في حياتها الفنية جميعا؟
وانتقل السيد «ف» بحديثه إلى نقد الأمريكيين في جهلهم بالعالم الخارجي، فقال: إن تعليمنا ناقص؛ فالأمريكي يوشك ألا يعرف عن العالم الخارجي شيئا، وكل أمريكي يتوهم أن ما في أمريكا من أشياء إنما هي منقطعة النظير في العالم، تراهم في جهل وسذاجة يفخرون بضخامة دليل التلفون في مدينة نيويورك، مع أنني لما ذهبت إلى باريس وجدت دليل التلفون هناك ضعف هذا الحجم ... الأمريكي يفخر فخر الأطفال بضخامة الحجم، فتراه يقول إن ارتفاع العمارة عندنا هو كذا طابقا، واتساع الشوارع كذا مترا، وننتج من السيارات كذا ألفا ... وهكذا.
Unknown page