تدخل أول ما تدخل في بهو فسيح، وتنظر إلى سقفه وإلى جدرانه فيذكرك بصالة بنك مصر في القاهرة من حيث الزخرف، وقد وضعت وسط هذه الصالة شجرة عيد ميلاد مضاءة بثريات الكهرباء، فأينما دخلت في واشنطن هذه الأيام ألفيت شجرة عيد الميلاد مزدانة مضيئة.
أصعد السلم الرخامي الجميل إلى بهو فيه معروضات في صناديق مغطاة بالزجاج، أهم ما فيها وأول ما تراه منها نسخة من إنجيل مطبوع، هي أول طبعة للإنجيل (سنة 1455م)، ويقابلها في صندوق آخر نسخة خطية مكتوبة في نحو الزمن نفسه، لكن الكتابة الخطية على صورة الطباعة حتى ليفوتك أنها مخطوطة إذا لم ينبئوك بهذا؛ وعمد هذا البهو تذكرك بقصر فرساي في جانب منه، ومن هذا البهو تدخل إلى شرفة دائرية تطل منها على حجرة المطالعة، وهي قاعة تعلوها قبة كبيرة وها هنا الوقفة التي لا يكفيها كل ما في لغات الأرض من ألفاظ تصف الجمال والجلال ...
اللهم إني آمنت بأن عظمة الأمم في عظمة فنونها؛ إن أمريكا بلاد جديدة ليس فيها ما في أوروبا من قصور وكاتدرائيات، لكن الأمريكيين بجديدهم الذي أقاموه وشيدوه قد أقاموا الدليل على أنهم - إلى جانب تفوقهم العلمي - في طليعة الطليعة من حيث فن العمارة في مختلف أشكاله.
الأربعاء 23 ديسمبر
كانت غايتي صباح اليوم أن أزور «متحف كور كوران للفن»، وهو معرض للفنانين الأمريكيين بصفة خاصة، بالإضافة إلى آثار كثيرين من رجال الفن في أوروبا ... ليس البناء ملفتا للنظر بفخامة أو جمال، وهو يقع خلف البيت الأبيض، به طابقان، خصص أولهما لرجال الفن في واشنطن نفسها؛ فهو معرض محلي صرف، يعرض في كل عام حصيلة الفن في منطقة واشنطن؛ وأما الطابق الثاني فهو معرض عام.
طفت بالطابق الأول مسرعا بعض الشيء؛ لأن نظرة سريعة تدلك على أن الفنانين جميعا بغير استثناء يرسمون لوحاتهم في جو المدرسة الحديثة، التي تراعي البناء اللوني في الصورة أكثر من أي شيء آخر.
ثم صعدت الطابق الأعلى، ولم أكد أفرغ من قاعة عرض فيها لوحات مستعارة من الفن الأوروبي، حتى تبينت أن الساعة قد جاوزت الحادية عشرة، فلا بد أن أسرع بالذهاب إلى الدكتورة «ز» حسب الموعد، ثم أعود إلى المعرض بعد المقابلة لأدرس محتواه على مهل.
قابلت «ز» ... ما أسرع ما تصبح المرأة العجوز شابة والمرأة الشابة عجوزا! إن الإنسان في هيئته يتغير ألف مرة في العام الواحد ... لقد كنت رأيت «ز» منذ ثلاثة أشهر فرأيتها إذ ذاك امرأة متقدمة في السن حتى لتكاد أن تخرج من عداد النساء؛ لكني رأيتها اليوم فدهشت للشباب الذي دب فيها، ولا أعلم إن كنت مصيبا في نظري إليها هذه المرة أو تلك ... كانت اليوم مرحة بدرجة ملحوظة؛ وأعتقد أن الوجه في حالة المرح يزيل عن ملامحه كثيرا جدا من آثار السنين، وفي حالة العبوس يضيف إلى السن سنا أخرى.
وعدت إلى معرض كور كوران لأستأنف دراستي على مهل؛ رأيت غرفة بأسرها تعرض صور الفنان الفرنسي «كورو»، وصوره كلها ذات طابع واحد، حتى ليخيل إلي الآن أني أميز صوره لو رأيتها؛ فالصورة عنده كتلة متداخلة الأجزاء من شجر لا تميز فيه فروعا ولا أوراقا، واللون الأخضر فيها دائما يميل نحو ظل خفيف من الاصفرار، ثم يغلب أن يضع شخوصا إنسانية صغيرة الحجم في وسط الصورة، ومن هذه الشخوص يتخذ اسم صورته، كصورة «ركوب القارب» وصورة «التهامس بالسر» وصورة «رقص الحور» ... وله بين الصور صورة تختلف عن البقية تصميما وإن لم تختلف عنها روحا، هي صورة «الغجرية تعزف على الماندولين».
لم أكد أنتقل مسرعا بعد ذلك من سائر الغرف التي عرض فيها الفن الأوروبي إلى اللوحات الأمريكية حتى أحسست بالنقلة المفاجئة من جو إلى جو؛ فها هنا - في أول غرفة دخلتها من غرف الفن الأمريكي - مجموعة من الصور معظمها مضيء باللون الفضي اللامع، وقد كان اللون السائد في اللوحات الأوروبية أميل إلى القتام.
Unknown page