وقد جمعتني الصدفة على مائدة عشاء بسيدة إيطالية الأصل ورجل إيطالي الأصل كذلك؛ بعد أن عرف كل منهما الآخر راحا يتحدثان عن إيطاليا بما يدل على شدة حنينهما؛ قالت السيدة: إنها تزور إيطاليا في إجازاتها مرة كل سنتين، فقال إنه كذلك يفعل؛ الرجل صانع لثياب السيدات، وله مصنع به مائة عاملة، فسألته السيدة: كم إيطاليا في مصنعك؟ وهي تقصد بالطبع كم عاملا من أصل إيطالي؟ فقال: كلهم بالطبع إيطاليون؛ وفهمت من الحديث أن السيدة مشتركة في جمعية تجمع الإعانة للمشردين من أبناء إيطاليا، وأقامت الجمعية في جهة بإيطاليا بلدا جديدا يكون مجالا لتربية هؤلاء الأبناء ... هذان أمريكيان، لكن هل يعقل أن يخلو من كل عطف على إيطاليا إذا ما نشبت حرب مثلا بين إيطاليا وأمريكا؟
كل ذلك دعاني إلى التساؤل: هل تكون «أمريكا» أكثر من أرض بها مصالح أهلها، يحبونها بمقدار ما هي مصدر نفع لهم؟ بعبارة أخرى: هل أصبحت أمريكا «وطنا» لأبنائها بالمعنى الذي يفهم من كلمة «الوطن» في العالم القديم؟
السبت 17 أكتوبر
كم نتعجل أحكامنا على الشعوب حين نلقي القول جزافا بغير سند أو دليل! إن الحكم على رجل واحد هو - عند من يحاسب نفسه - أمر عسير، فما بالك بالحكم على شعب قوامه مائة وستون مليونا من الأنفس؟! فكثيرا ما سمعت من مصريين زاروا أمريكا قبل أن أزورها أن روابط القربى هنا ضعيفة، حتى ليكاد الوالد يهمل ولده والولد يتنكر لوالده؛ لكنني لم أشهد علامة واحدة تدل على ذلك، بل كل ما شهدته دليل ناهض على أن روابط الأسرة قوية متينة ... أقول هذا بمناسبة ما رأيته اليوم في جريدة الصباح؛ إذ رأيت صورة لوالد يجلس على مقعد في الطريق، والمقعد موضوع بحيث ينظر الرجل من نافذة بناء إلى جواره - والبناء هو مستشفى - فيرى ولده المريض وهو على سريره في المستشفى؛ وقالت الصحيفة: إن الرجل قد لبث - حتى صدور صحيفة هذا الصباح - يومين كاملين في جلسته تلك ناظرا إلى ابنه لا يتحول عنه، وسئل الوالد: ماذا يدعوك إلى هذا العناء كله؟ إنك قد تعرض نفسك للأذى بهذا الجلوس في العراء ليلا ونهارا، فبكى الرجل وقال: قال لي فلان (وهو ابنه) حين جيء به إلى هنا: «ابق معي يا أبي» فلا يسعني سوى البقاء إلى جانبه كما أرادني أن أفعل، وإذا كان مقامي إلى جواره في المستشفى متعذرا فأقرب نقطة إليه هي هذا المكان من الشارع بالقرب من نافذة غرفته؛ قيل له: لكنك بحاجة إلى النوم والراحة بعد يومين كاملين لبثت فيهما جالسا على هذا النحو المضني! فأجاب: ليس بي أقل رغبة في نوم ...
أهذه مشاعر أب يعيش في شعب لا يعبأ بالعواطف الأبوية؟
دعاني مستر «ه» إلى مصاحبته في رحلة إلى الريف لنقضي عطلة الأسبوع، وحدد لي موعدا في الساعة الواحدة أمام متحف الفنون. لم أكن قد رأيت هذا الرجل العجيب، إنما تم التعارف بالتلفون؛ فلما جاء الموعد رأيتني إزاء رجل في الخامسة والستين ممتلئا بالحيوية والنشاط، لا تمضي عليه دقيقة واحدة دون أن يضحك من كل قلبه؛ تظهر عليه البساطة الشديدة في حديثه وثيابه ونكاته، لكنك لا تلبث أن تنفذ ببصرك إلى قلبه فترى قلبا مليئا بالهموم، وقد ظن أن الضحكات المتوالية قادرات على إزالة همومه ... رحب بي ترحيبا كريما، ودخل بي إلى متحف الفنون من بابه الخلفي الخاص بموظفي المتحف، وصاح بأعلى صوت: أين هؤلاء البنات؟! فعجبت أول الأمر أن أراه يستبيح هذا الصياح في مكان كهذا؛ لأنني لم أكن أعلم على وجه الدقة مع أي رجل أنا الآن ... أجابه الدكتور «ك» (وهو مدير المتحف) من داخل المتحف صائحا بعبارة لم أتبينها؛ فعاد مستر «ه» إلى صياحه: لا، أنا لا أريدك أنت ولا أسعى إلى رؤيتك، فما لك من قيمة عندي، إنما أردت البنات! وكنا في هذه اللحظة قد بلغنا مكتب الدكتور «ك» مدير المتحف، فسلمنا، وعندئذ جاءت فتاة فصاح صديقنا «ه»: «أهلا»، وقال: ها هي ذي «م»؛ تعالي يا «م» فهذا هو ضيفنا الدكتور محمود جاءنا من مصر، سيصحبنا في رحلة اليوم ... و«م» هذه فتاة في الثالثة والعشرين، تحمل درجة في الفنون الجميلة، وتعمل في المتحف، وفنها هو زخرفة الخزف؛ وهي وسط في جمالها، مليئة الجسم نوعا، لو قيل لي إنها مصرية لصدقت؛ لأنها تشبه مصريات كثيرات في بشرتها وسواد عينيها؛ ودقائق قليلة جدا تكفيك أن تعلم كم بلغت «م» من قوة الشخصية والثقة بالنفس؛ فهي تنظر إلينا نحن الكهول بالنسبة لها، وتحدثنا كأنها تنظر وتتحدث إلى صغار! صوتها واضح، وتعبيرها واضح؛ لا يغرها أنها تعلم، ولا يخجلها أنها تجهل.
خرجنا من المتحف نحن الثلاثة: فتاتنا «م» ومستر «ه» وأنا، وركبنا سيارة «ه»، وبعد قليل وقفت بنا السيارة أمام منزل في الطريق، فنزلت «م» صامتة، وعادت ومعها سيدة عمرها بين الخمسين والستين، هي السيدة «ب»، فسلمنا وتعرفنا؛ وقد عرفت أنها مديرة المطبعة في الجامعة؛ فهي المسئولة عن كل ما تخرجه الجامعة من مطبوع ومنشور؛ والسيدة «ب» هي الزميلة الرابعة في رحلتنا اليوم.
لست أدري في الحقيقة ماذا أقول وماذا أدع من ألوف التفصيلات التي انطبعت في ذهني من هذه الرحلة؛ ولذلك فإني سأترك القلم يكتب ما يطفو على سطح الذاكرة من تفصيلات؛ وأول ما أبدأ به هو شخصية هذا الرجل العجيب مستر «ه» أمرح مخلوق على ظهر الأرض؛ يستحيل أن ترافقه دقيقة واحدة دون أن ينفض عنك الخجل ويدفعك إلى الضحك وإلى المرح دفعا؛ إنه لا ينقطع عن الصياح والزئاط كأنه الطفل الصغير يلعب على شاطئ البحر في الرمل والماء؛ وهو من أغنياء المنطقة، ويعتز بأسرته التي هبط منها؛ فهو وحده الآن يملك نحو ستين ألفا من الفدادين، ويدير عملا واسعا في كولمبيا؛ ثم هو فوق ذلك محام وعضو في مجلس شيوخ الولاية ومشهور في الناس.
جلست إلى جانبه في السيارة، وجلست السيدة «ب» والآنسة «م» في المقعد الخلفي، وهو ترتيب يخالف التقاليد؛ إذ كان ينبغي أن تجلس سيدة في المقعد الأمامي، لكنهم اتفقوا على ذلك لتتاح لي فرصة الرؤية الكاملة، والاستماع إلى ما يقوله مستر «ه» تعليقا على مشاهدات الطريق.
أشار إلى شجرة تحتها صخرة، وقال: إن لهذه الصخرة قصة محزنة؛ ففي الحرب الأولى فقدت أم ابنها وجاءها خبر موته؛ فلم تلبث أن مسها الجنون، وصور لها جنونها أن قد جاءها من ولدها خطاب يقول لها فيه إنه آت إليها في الطريق راكبا إحدى السيارات العامة؛ ولذلك فهي تنتظر قدوم تلك السيارة العامة التي تحمل ولدها؛ تنتظرها يوما بعد يوم، وقد ظلت خمسة عشر عاما لا تنقطع يوما واحدا عن المجيء إلى هذه الصخرة، والجلوس طول النهار حتى مغرب الشمس؛ معها قليل من طعام، وإبرة وخيط؛ وكلما مر بها إنسان في الطريق، قالت له: «إنني أنتظر ولدي، إنه قادم في سيارة عامة، كتب إلي يقول هذا ...» إنني أكتب هذه القصة دليلا على الأواصر العاطفية الشديدة التي تشد قلوب الأسرة الواحدة بعضها إلى بعض؛ فليس الأمريكيون كما يقول عنهم الناس قوما في صدورهم قلوب من حجر، يعبدون «الدولار» وحده ويسبحون بحمده!
Unknown page