أما المثل الأعلى فإن الإنسان له شهوة كالبهائم، وغضب كالسباع، وعقل كالملائكة، فالشهوة البهيمية ألجأته إلى الأكل واللباس، والشهوة الغضبية تظهر بالقتال والسلاح والقهر كما تفعل السباع والوحوش، والعقل به عقل النظام والحكمة والفضيلة، فإذا عقل الإنسان جعل الشهوة والغضب مثل الحمار، والعلماء والحكماء يقودون تينك الشهوتين، وإذن يركب العقل كما ركبت، ويجري في الطريق السوي كما جريت بحماري على الجسر قريبا من بوبسطيس «تل بسطه»، وإذن يضيء سنا قمر العدل على وجه البسيطة كما أضاء القمر السماوي تلك الليلة وأنا في فرح وسرور.
كم في العالم من علم ظاهر والناس عنه غافلون، هذه مسألة بسيطة سهلة، إنها مثال لما في العالم من الحكم، إن عقولنا فيها خزائن مفتحة الأبواب، وفي العالم من الجمال والبهاء ما لا يستطاع وصفه، إنه لحاضر وما منعنا أن نفقهه إلا الشهوات. السلام سهل وليس يعوزه إلا إرادة الإنسان، وما أقربه من الإنسان إذا أراد أن يعقله، ولو عقل لعمل، والسلام.
الحكمة السادسة: طير الكناري «عصفور»
جلست في بهو فسيح مزدان بجمال الأشجار ونضرة الأزهار، فسمعت تغريدا عجيبا وصوتا بديعا ما سمعت مثله ذا نغمات مطربة فرفعت طرفي إذا طيران أصفران صغيران يتغنيان، فسألت: ما هذا؟ فقالوا: كناري، فعلمت أنه ليس الخبر كالعيان، وما راء كمن سمع، وإن للسمع والبصر في النفس أثرا ليس للخبر، ولقد قرأت عن هذا الطير في كتب الإفرنج، فما أثر في نفسي تأثير سماعه، ولقد أدهشني أنه صغير الحجم عجيب الصوت، وقلت: يا ليت شعري لو أنا أخذنا حجرا مساويا لهذا الطير في الحجم، وقارناهما لوجدنا بونا بعيدا، وفرقا شاسعا.
الحجر والطير من الأرض وما عليها، كلاهما من المادة، إنه ما أحسن صورة الطير، ولا هندس رسمه، ولا أجمل صوته، وأودع جسمه هذه «الحكم التشريحية والطبيعية والكيماوية ونواميس الضوء والإبصار في عينيه وإدراكه ومخيلته وذاكرته وخزانة إدراك مصورة معانيه في عقله»، ما فعل ذلك كله إلا إتقان الصنعة. الحجر والطير المتساويان حجما كلاهما من المادة، وأبعد المسافة بينهما دقة الصنع والإتقان في أحدهما، وبساطته في الآخر، أفلا يكون هكذا الإنسان، ولعل الفرق ما بين الإنسان اليوم وحاله في مستقبل الأيام كالفرق ما بين الحجر والطير.
الإنسان اليوم يظلم الإنسان، ويغشه، ويكذب، ويثقل عليه، كما يثقل الحجر الساقط من جبل على السائرين.
فلعل الإنسان يصقل عقله بالحكمة، ويتوارى عن هذه المخازي والظلم، فيحلق في جو سماء الحكمة، ويتعامى عن الدنايا ويكون كطير الكناري جمالا في علمه، وكمالا في حكمته، ويطير في جو الجمال، وحكمة الصانع الحكيم.
التعليم يصل بالإنسان إلى نهاية كماله، يجمعه على أخيه بالمحبة، ويعلمه حب أخيه، يستخرج من قلبه نور الحب، ويشرق من وجدانه شمس الشوق والرحمة والعطف على سائر نوع الإنسان.
الإنسان اليوم لم يفهم نفسه، لم يبلغ رشده، لم يعقل جمال نفسه، فليتعلم الحب والرحمة والحكمة والفضيلة والإحسان.
الحكمة السابعة: الياسمين
Unknown page