من الكرام تكون الرحمة، ومن اللئام ... تكون القسوة، من كرم أصله؛ لأن قلبه ورق وجهه، ومن عاقب بالذنوب ترك الفضل، ومن ترك الفضل أخطأ الحظ، ومن لم يغفر لم يغفر له، أولى الناس بالرحمة من احتاج إليها فحرمها، لكل كرب فرج، ولكل عمل ثواب ملكت فأسجحي، قدرت فأعفي، ويل للشجي من الخلي إلخ إلخ.
فانظر ويحك ما هذا الكلام المتقطع المبتدل المطروق المنتزع كله من الأمثال والأحكام، وكأن العشق في الحافظة ... ولم يورده ابن قتيبة إلا في باب النساء والعشق ... ثم ما عسى كان يقول هذان الحبيبان لو أن منية هذه قامت على منبر مسجد الكوفة ... وصعد قابوس المنبر في مسجد البصرة، وأرادا أن يخطبا الناس لإقامة صلاة الجمعة؟ •••
على أن بلغاء الكتاب في كل عصر تناولوا في ترسلهم فن (الإخوانيات) وأجروا فيه رسائل المودة والشوق والصداقة والاستعطاف والعتاب والاعتذار والاستزارة لمجالس اللذات والأنس، وهذه كلها من أمس المعاني بالحب وأقربها شبها به، وقد أجاد بعضهم في ذلك إجادة بالغة، وأنت تجد رسائلهم منثورة في كتب الأدب
9
ومن أبدعها قول سعيد بن حميد، حبيب فضل الشاعرة. «إني صادقت معك جوهر نفسي، فأنا غير محمود على الانقياد لك بغير زمان؛ لأن النفس يقود بعضها بعضا».
10
غير أنهم يشترطون في هذا الفن من الرسائل الإيجاز والاختصار، وألا يتجاوزوا به نكتة المعنى، ليجيء قصدا قريبا، ولعل ذلك للعلة التي أومأنا إليها من قبل، إذا كان هذا على حدود الحب، فإذا تبسط فهو الحب بعينه، والكثير في الحب لا يكثر ولا يمل، أما في الصداقة فإلى حد وحسب.
وانظر ما كتب بعضهم في قطيعة صديق؛ إذ كتب إليه:
لم يدع انقباضك عن الوفاء وانجذابك مع سوء الرأي في ملاحظة الهجر والاستمرار على الغدر - محركا من القلب عليك، ولا خاطرا يومي إلى حسن الظن بك، هيهات! انقضت مدة الانخداع لك حين أخلفت عدة الأماني فيك، وما وجدنا سائرا من تأنيب النصحاء في الميل إليك، والتوفر عليك، إلا الإقرار بطاعة الهوى والاعتراف بسوء الاختيار.
فهذه الرسالة لو أنها صرفت إلى حبيبة، وامتد بها النفس على هذا الأسلوب وبمثل هذا التصرف لتكون صفحتين أو تبلغ ثلاث صفحات، لرجفت أركانها الوثيقة، وخرجت إلى الاستكراه والتكلف، وجاءت عيوبها من محاسنها، وهلك من طولها أولها إلى آخرها.
Unknown page