وقالت له قمر معاتبة: شد ما تهمل طفلتك الجميلة! تبكي فلا ترحمها، وتلعب فلا تلاعبها!
فابتسم إلى الوجه الصغير مستروحا نسمة منه لسعير فكره، وغمغم: ما ألطفها! - حتى الساعة التي تجالسنا فيها تغيب عنا كأننا لم نعد من أهل دنياك.
فاقترب منها على الكنبة التي تجمعهما ولثم خدها، ثم قبل وجه الطفلة في أكثر من موضع وقال: ألا ترين أنني بحاجة إلى عطفك؟ - ولك قلبي كله بما فيه من عطف وحب ومودة، ولكن ينبغي أن ترحم نفسك.
وناولته الطفلة فاحتضنها وراح يهدهدها برفق وحنان مصغيا إلى أنغامها السماوية. وبغتة قال: إذا نصرني المولى فلن أحرم النساء من ريع الوقف.
فقالت قمر بدهشة: لكن الوقف للذكور دون الإناث.
فرنا إلى العينين السوداوين في وجه الصغيرة وقال: قال جدي على لسان خادمه: إن الوقف للجميع، والنساء نصف كيان حارتنا، ومن عجب أن حارتنا لا تحترم النساء، ولكنها ستحترمهن يوم تحترم معاني العدالة والرحمة.
وتجلى الحب والإشفاق في عيني قمر. وقالت لنفسها: إنه يذكر النصر، فأين منا هذا النصر؟ وكم ودت أن تنصحه بما فيه الأمن والسلامة ولكن خانتها شجاعتها. وساءلت نفسها عما يخبئ لهم الغد. ترى أيكون لها حظ شفيقة زوجة جبل، أم تصاب بما أصيبت به عبدة أم رفاعة؟! واقشعر بدنها فنظرت بعيدا حتى لا يقرأ في عينيها ما يريبه.
وعندما جاءه صادق وحسن ليذهبوا جميعا إلى القهوة عرض عليهما أن يزوروا المعلم يحيى ليقدمهما إليه. ولما بلغوا كوخه وجدوه يدخن الجوزة ورائحة الحشيش الغنائية عابقة بالجو. وقدم إليه صاحبيه، وجلسوا جميعا في دهليز الكوخ والبدر من كوة يلوح كأنه السعادة. وكان يحيى ينظر إلى وجوه الثلاثة بعجب وكأنه يتساءل: أهؤلاء حقا هم الذين سيقلبون الحارة رأسا على عقب؟! ومضى يعيد على مسامع قاسم ما سبق أن ردده له، قال: احذر أن يعلم أحد بسرك قبل أن تستعد.
ودارت الجوزة دورة مليحة، وكان ضوء القمر النافذ من الكوة يتوج رأس قاسم وينطرح على الكتف من صادق، على حين توهجت جمرات الموقد في ظلمة الدهليز. وتساءل قاسم: وكيف أستعد؟
فضحك العجوز قائلا في دعابة: ليس من حق من اختاره الجبلاوي أن يستعين برأي عجوز مثلي!
Unknown page