وأمر عم زكريا الجارية أن تعود إلى سيدتها؛ لتخبرها بأنهم ذاهبون للبحث عنه في مظانه. ومضى ثلاثتهم صوب الخلاء. واستشعروا رطوبة ليل الخريف فحبكوا اللاسات فوق رءوسهم. وساروا على هدى هلال آخر الشهر وقد تجلى في رقعة مرصعة بالنجوم انحسرت عنها سماء متشحة بالسحب. وصاح حسن بصوت شق الفضاء كالشهاب: «قاسم .. يا قاسم!» فارتد إليه الصدى من جانب المقطم مكررا النداء. وحثوا السير حتى بلغوا صخرة هند، فداروا حولها متفحصين المكان ولكنهم لم يعثروا له على أثر. وتساءل عم زكريا بصوت غليظ: أين ذهب؟ لا هو من أهل المجون ولا من ذوي العداوات!
فتمتم حسن في حيرة: ولا من سبب آخر يدعوه للهرب!
وتذكر صادق أن الخلاء لا يخلو من قطاع طرق فغاص قلبه في صدره دون أن ينبس. وإذا بزكريا يتساءل في فتور: أيكون عند المعلم يحيى؟
وهتف الشابان معا فيما يشبه استغاثة يائس: المعلم يحيى؟!
لكن زكريا تساءل في نكد: وماذا دعاه للبقاء عنده؟
ومضوا نحو أطراف الخلاء صامتين، تتناوبهم الأفكار السود. وترامى إلى مسامعهم من بعيد صياح الديكة، لكن الظلام لم يخف لتكاثف السحب. وند عن صادق صوت كالزفرة وهو يقول: «أين أنت يا قاسم!» وبدت الرحلة عقيما لكنهم واصلوا السير حتى وقفوا أمام كوخ يحيى الغارق في النوم. وتقدم زكريا يدق الباب بقبضته حتى جاءه صوت المعلم وهو يتساءل: من بالباب؟
وفتح الباب فبدا شبحه متوكئا على عصاه، فقال زكريا بأسف: عدم المؤاخذة، جئنا نسأل عن قاسم.
فقال المعلم بهدوء: زيارة متوقعة!
فأحيا قوله نفوسهم لأول وهلة، لكن سرعان ما ارتد إليهم القلق فتساءل زكريا: عندك أخبار عنه؟ - هو نائم في الداخل! - بخير؟ - إن شاء الله!
ثم مردفا في بساطة مقصودة: هو الآن بخير، لكن بعض جيراني كانوا قادمين من العطوف فعثروا عليه عند صخرة هند وهو مغمى عليه، فحملوه إلي، فرششت على وجهه عطرا حتى أفاق، لكنه بدا متعبا فتركته لينام، وما لبث أن استغرق في النوم.
Unknown page