والظاهر أن حرج الموقف لم يسمح للأعين بالإفصاح عما في الصدور، غير أن زقلط سأله: ماذا تطلب نظير عملك؟
فقال بهدوء: لن أطلب نقودا، ولكني أطلب كلمة شرف باحترام آل حمدان في كرامتهم وحقهم في الوقف.
وساد الصمت، فبدا أن الجو يتنفس بالحقد المكتوم. وتضاعف قلق الهانم على حين أخفى الناظر عينيه في الأرض. وعاد جبل يقول: لا تظنوا أنني أتحداكم، الحق أنني أذكركم بما يمليه عليكم الحق والعدل نحو إخوانكم المغلوبين على أمرهم. إن الخوف الذي أخرجكم من دياركم ما هو إلا جرعة مما يتجرع إخوانكم كل يوم من أيام حياتهم التعيسة.
التمعت في الأعين نظرات غضب سريعة كالبرق في السحاب، وسرعان ما اختفت تحت غيم الكظم. غير أن أبو سريع صاح: أستطيع أن آتيكم بأحد الرفاعية ولو نبيت خارج بيوتنا يومين أو ثلاثة أيام حتى يحضر من قريته.
فتساءلت الهانم: كيف لحارة بأكملها أن تبيت خارج بيوتها يومين أو ثلاثة؟
وكان الأفندي يفكر بكل قواه مغالبا ما استطاع عواطف الغضب والحقد التي تستعر في صدره، وإذا به يقول مخاطبا جبل: إني معطيك كلمة الشرف التي تطلب، فابدأ عملك.
وذهل الفتوات، غير أن الموقف لم يسمح لهم بإعلان ما في نفوسهم، وران على صدورهم هم قاتل. أما جبل فأمر الجميع بالابتعاد إلى أقصى الحديقة فخلا له المكان والبيت. وتجرد من ثيابه فانقلب كيوم التقطته الهانم من الحفرة المترعة بمياه الأمطار. ومضى ينتقل من مكان إلى مكان، ومن حجرة إلى حجرة، وهو يصفر صفيرا خافتا تارة أو يغمغم بكلام غير مبين. واقترب زقلط من الناظر وقال له: إنه هو الذي بعث بالثعابين إلى بيوتنا.
فأشار الناظر إليه بالسكوت وتمتم: دعه يخرج ثعابينه.
وأذعن لجبل ثعبان كان مختفيا في المنور، وأخرج آخر من حجرة إدارة الوقف، فلف الثعبانين على ذراعه، وظهر بهما أمام السلاملك حيث أودعهما جرابه. وارتدى ملابسه ووقف ينتظر حتى جاء الجميع، فقال موجها خطابه لهم: هلموا إلى بيوتكم؛ لأطهرها.
والتفت نحو الهانم وقال بصوت خافت: لولا تعاسة أهلي ما اشترطت في خدمتك شرطا قط.
Unknown page