Awham Caql
أوهام العقل: قراءة في «الأورجانون الجديد» لفرانسيس بيكون
Genres
فلو أن واحدا قبل اختراع المدفع وصف هذا الشيء بتأثيراته، وقال مثلا إن ثمة اكتشافا جديدا يمكن بواسطته زعزعة أقوى الحصون والأسوار وتدميرها من مسافة بعيدة؛ من المؤكد أن الناس عندئذ ستشرع في التفكير في طرائق زيادة قوة المنجنيق ومعدات الحصار بواسطة الأثقال والعجلات وما شابه من آليات الرجم والقذف. أما فكرة ريح نارية تتمدد فجأة وبعنف وتنفجر؛ تلك فكرة ما كانت لترد في تصور أحد أو خياله؛ ذلك أنه لم يشهد بنفسه شيئا شبيها بذلك في حياته، ربما باستثناء زلزال أو صاعقة، وهي أشياء قمينة بأن يستبعدها الناس على الفور باعتبارها خوارق أو غرائب الطبيعة التي لا يمكن أن يحاكيها البشر.
وبنفس الطريقة فإنه لو قال أحد قبل اكتشاف الحرير إن هناك صنفا اكتشف من الخيط لغرض اللبس والأثاث أرقى من الكتان أو الصوف، وفي الوقت نفسه يفوقها في القوة وأيضا في الجمال والنعومة؛ عندئذ سيشرع الناس في التفكير في نبات ناعم ما أو في الشعر الأنعم لحيوان معين أو في ريش أو زغب طائر. أما أن تكون خيوط دودة صغيرة، دودة وفيرة الإنتاج تجدد نفسها كل عام؛ فهذا ما لم يكن يخطر ببال أحد، بل إذا قال أحد ذلك عن إحدى الديدان؛ لأثار السخرية منه على أنه يتوهم نوعا جديدا من نسيج العنكبوت.
كذلك لو أن أحدا - قبل اكتشاف البوصلة البحرية - أشار إلى أن أداة قد اكتشفت يمكن بها أخذ اتجاهات ونقاط السماء وتمييزها بدقة؛ فسوف يأخذ الناس في التخمين في الأمر والحديث عن تطوير أدوات فلكية أكثر دقة وما إلى ذلك؛ أما فكرة أن يكتشف أي شيء يتفق في حركته تماما مع الأجرام السماوية وليس هو نفسه جرما سماويا بل مجرد حجر أو مادة معدنية؛ فذاك شيء سيبدو بعيدا تماما عن التصديق. غير أن هذا وأمثاله من الأشياء قد ظل خفيا على البشر عصورا طويلة، ولم تكتشفها الفلسفة ولا الفنون الميكانيكية، بل اكتشفت بالحظ والصدفة؛ ذلك أنها حقا (كما قلنا آنفا) من نوع مختلف تماما وبعيد كل البعد عن أي شيء معروف من قبل، فلم يكن لأي تصور سابق على الإطلاق أن يقود إليه.
ومن ثم فإن لنا أن نأمل في أن الكثير من الأشياء الرائعة والمفيدة ما زالت مذخورة في حشا الطبيعة، بعيدة الشبه جدا عن الأشياء التي تم اكتشافها، وبعيدة جدا عن منال تخيلنا، وما زالت غير مكتشفة، ولكنها بغير شك سوف تظهر إلى النور في وقت ما خلال انعطافات القرون وتحولاتها، تماما مثلما ظهر غيرها، ولكن ليس بغير المنهج الذي نعالجه الآن يمكنها أن تظهر وتستبق بسرعة وفورية وتزامن.
69 (110) ولكن هناك صنفا آخر من الاكتشافات يبرهن على أنه قد تكون هناك كشوف قابعة تحت أقدامنا، ومع ذلك يعبرها البشر دون أن يلحظوها؛ فإذا كان اكتشاف البارود والحرير والمغناطيس والسكر والورق وما إليها يعتمد على خصائص معينة للأشياء ذاتها وللطبيعة، فليس ثمة في تقنية الطباعة أي شيء غير ظاهر وغير مكشوف، إلا أن البشر - لغفلتهم - سلخوا أحقابا طويلة بدون هذا الاكتشاف الجميل الذي قدم خدمة جليلة في تقدم المعرفة؛ ذلك أنهم - لغفلتهم - لم يلاحظوا أنه رغم أن صف أحرف الطباعة أصعب من كتابة الأحرف بحركة اليد إلا أن أحرف الطباعة ما إن يتم صفها حتى تمكننا من أخذ ما لا يحصى من الطبعات، في حين لا تسمح الأحرف المكتوبة باليد إلا بنسخة واحدة؛ وأنهم - لغفلتهم - لم يلاحظوا أن الحبر يمكن أن يكثف بحيث يسم
70
من غير جري، وبخاصة إذا كانت الأحرف متجهة إلى أعلى وفعل الطبع يجرى من أعلى.
وهكذا هو حال العقل البشري في سيرة الكشف؛ لقد مرن في أغلب الأحيان على التعثر والخرق؛ فهو في البداية غير واثق من نفسه، ثم محتقر لها بعد ذلك، «في البداية يبدو له هذا الاكتشاف أو ذاك بعيدا عن التصديق، وبعد أن يتحقق الاكتشاف تبدو له غفلته نفسها بعيدة عن التصديق»؛ إذ كيف تفوت البشر هذه الملاحظة كل هذا الزمن؟! وهذا نفسه قد يكون من دواعي الأمل، بمعنى أن هناك حشدا هائلا من الكشوف تنتظرنا، نستنبطها ونخرجها إلى النور بمساعدة الخبرة الكتابية (المتعلمة) التي تحدثت عنها، ليس فقط باكتشاف طرائق غير معروفة، بل أيضا بنقل الطرائق المعروفة ومضاهاتها وتطبيقها. (113) أظن أيضا أن الناس يمكن أن تستمد بعض الأمل من خلال النموذج الذي أمثله أنا شخصيا. ولست أقول هذا من باب التفاخر، بل لأن من المفيد أن أقوله. فلينظر إلي من يقنطون ولا يثقون في قدراتهم: هاكم رجل هو الأكثر انشغالا بين مجايليه بشئون الدولة، رجل ليس في تمام الصحة (ومن شأن ذلك إضاعة الكثير من الوقت)، ومستكشف أول يرود وحده هذا الطريق، لا يقتفي خطى أحد ولا يشاور في أفكاره أحدا. ولكن بمجرد أن وضعت قدمي بثبات على الطريق الصحيح مسلما عقلي للطبيعة، فإنني أجرؤ على القول بأني حققت للمسألة التي أعالجها دفعة ما إلى الأمام، «فما بالكم بما يمكن أن يتوقع (بعد أن تبين الطريق على هذا النحو) من أناس لديهم وفرة من الوقت، ومن جهود متآزرة، ومن توالي العصور، على طريق غير مقصور على عابر واحد في الوقت الواحد (مثلما هو شأن التأمل العقلي)، بل طريق يمكن فيه لأعمال الناس وجهودهم (وبخاصة في جمع الخبرة) أن تتوزع على أفضل نحو ثم تتحد، فلن يدرك الناس قوتهم إلا عندما لا تعود الأعداد الكبيرة تقوم كلها بنفس الشيء، بل يتولى كل واحد شيئا واحدا ويقدم إسهاما مختلفا عن الآخر.»
71 (117) وكما أني لا أدعي أني أؤسس مذهبا، كذلك أنا لا أقدم ولا أعد بتقديم نتائج معينة؛ ومن ثم قد يعترض البعض قائلا: أنت يا من تكثر من الحديث عن النتائج وتعلق كل شيء على هذه الغاية، ألا يليق بك أن تقدم أيضا بعض عينات منها؟! غير أن طريقتي ومنهجي (كما قلت كثيرا بوضوح، وكما يسرني أن أكرر) ليس أن أستخلص نتائج من نتائج أو تجارب من تجارب (مثلما يفعل التجريبيون العشوائيون
empiricis )، بل من النتائج والتجارب أستخلص العلل والمبادئ، ومن تلك العلل والمبادئ أعود فأستخلص نتائج وتجارب عديدة، شأن مفسر شرعي للطبيعة .
Unknown page