Awham Caql
أوهام العقل: قراءة في «الأورجانون الجديد» لفرانسيس بيكون
Genres
1
فليس من الواضح متى ينبغي على الباحث البيكوني أن يتوقف عن جمع ركام الجزئيات لكي يقفز إلى التعميم المجرد. بعد دستة من الشواهد؟ بعد ألف؟ الحق أن منهج بيكون لا يقدم شيئا يرشد الباحث في تحديد ذلك غير الحدس الحرفي أو الغرزي. وبدون ذلك يظل الباحث البيكوني سادرا في ملاحظة الجزئيات، سائخا في رمال البيانات، محتجزا على أول درجة من السلم البيكوني بين معلومات مبتذلة، ولن يغادر الأرض أبدا. ولعل اعتبارات مثل هذه هي ما دفع وليم هارفي إلى أن يصف بيكون بأنه «يكتب عن الفلسفة الطبيعية مثل لورد شانسلور» (قاضي القضاة)؛ أي مثل سياسي أو مشرع لا مثل ممارس علمي، الحق أن أعظم خطوات التقدم في المعرفة العلمية لم تتحقق بواسطة الاستقراء البيكوني، بل بواسطة الحدوس الافتراضية الجريئة والمخاطرة (أي بواسطة الفروض) التي تعرض عندئذ على محك الاختبار فإما تعزز وإما تكذب.
تذهب النظرة الساذجة للعلم إلى أن العلماء «يلاحظون» الطبيعة، ويجمعون ملاحظاتهم ليكونوا بها صورة صادقة للأشياء، مركبا من كل الحقائق وليس من شيء غير الحقائق، وبعبارة أخرى: تذهب النظرة التقليدية للمنهج الاستقرائي إلى أننا نبدأ بجمع ملاحظات خالصة، دون فروض مسبقة، تقدم لنا الوقائع بطريقة محايدة نزيهة، ومن تكرار هذه الملاحظات تبدأ أنماط معينة في الظهور وتؤدي إلى تكوين فروض عامة تربط بعض الظواهر الملاحظة، عندئذ تجري الاختبارات التجريبية التي تثبت صدق الفروض فترقى إلى منزلة النظرية. «المشكلة الكامنة في هذه النظرة هي أن هناك ما لا نهاية له من الملاحظات التي يمكن أن نلاحظها ونسجلها، الأمر الذي يجعل الوصف الدقيق للطبيعة طويلا لا آخر له، ومضجرا كدليل التليفون. بإمكان المرء مثلا أن يشرع في وصف هيئة كل حبة رمل على شاطئ معين، لكن لا أحد ولا حتى بيكون نفسه يمكن أن يتصور كيف تكون مهمة العلم إذا سار بهذه الطريقة.»
2
ورغم ذلك فقد كان على العلماء أنفسهم (وكذلك على مراقبي العلم من الفلاسفة) أن ينفقوا زمنا حتى يدركوا بوضوح أن الملاحظة - لكي تكون ذات معنى - يجب أن تسترشد بنظرية. وقد ظل كثير من الناس يصرون على أن الملاحظات يجب أن تأتي أولا وبعدها وبناء عليها يمكن للنظريات أن تنشأ، ولكن ما يحدث في عامة الأحوال هو أن نظرية ما هي التي تخبر العالم على وجه التحديد، أي الملاحظات هي الجديرة بأن يقوم بها، أضف إلى ذلك أن النظرية تمد العالم أيضا بالمفردات اللغوية التي يصف بها ملاحظاته. إن للأشياء والأحداث والمواقف التجريبية ما لا ينتهي من الخواص القابلة للملاحظة والوصف. إن النظريات هي التي تحدد للعالم أي هذه الخواص هي التي تعنيه وتتصل بموضوعه خلال وحدة محددة من العمل العلمي.
3
وتترتب على الصورة المتطورة للعلم - والتي تؤكد على أهمية النظريات - نتيجة عجيبة: إن اللغة التي تستعمل لكي تجسد الملاحظات والنتائج التجريبية هي ذاتها شيء تحدده نظرية معينة وتقدر له شكله وصفته مقدما، فتوصف اللغة التي يستخدمها عالم ملتزم بنظرية معينة بأنها لغة «محملة بالنظرية»
theory-laden .
4
والحق أنه ليس هناك طريقة آلية لابتكار الفروض العلمية، ولا طريقة آلية يمكن بها للعلم أن يحقق تقدما، وأن العلم ليس أقل احتياجا للخيال من أي فن آخر. وقد لاحظ أينشتين أنه بينما يمكن للنظرية أن تختبر بالبينة
Unknown page