112

Awail Kharif

أوائل الخريف: قصة سيدة راقية

Genres

وبعد قليل، عندما هدأ روعها قليلا، حاولت أن تستخلص بعض الترتيب من الفوضى التي اجتاحت جسدها وروحها. بدا لها أن الحياة كلها صارت مشوشة ومضطربة على نحو ميئوس منه. كانت مدركة نوعا ما، تقريبا دون أن تعرف السبب؛ لأن الرجل المسن خدعها، وطوع إرادتها بسهولة وفق رغباته، مغيرا بذلك المشهد المستقبلي كله. كانت تعرف دوما أنه قوي وبطريقته الخاصة لا يقهر، ولكن حتى الليلة لم تكن قد عرفت مطلقا العظمة الكاملة لقوته ... ومدى عناده، بل وإلى أي مدى يمكن أن يكون منعدم الضمير؛ إذ كان منعدم الضمير وغير منصف، في الطريقة التي استخدم بها كل سلاح في متناول اليد ... كل إحساس، كل ذكرى ... ليحقق رغبته. لم يحدث صراع ضار علنا؛ كان الأمر أبرع من ذلك بكثير. لقد أخضعها دون أن تدري، بعون من جميع قوى الظلام التي تتمتع بالقدرة على تغييرهم جميعا - حتى أبناء سافينا دالجيدو وتوبي كاين - ليكونوا «آل بينتلاند».

أخذت تفكر بمرارة فيما حدث، وتوصلت إلى أن قوته كانت تستند على أساس فضيلته، واستقامته. يمكن للمرء أن يقول - بل ويؤمن يقينا مثلما رأى شروق شمس الأمس بعين اليقين - إن حياته كلها كانت سخيفة ووهمية على نحو مأساوي، مكرسة على نحو غريب للمثال الأعلى الجامد المتصلب لما يجب أن يكون عليه الفرد من عائلة بينتلاند؛ ورغم ذلك ... ورغم ذلك يدرك المرء أنه كان محقا، بل وربما كان شجاعا؛ كان المرء يحترم قوته التي لا هوادة فيها. كان قد قضى على سعادته ودفع السيدة سومز العجوز المسكينة إلى البحث عن السلام النفسي في تجربة نيرفانا السعادة القصوى التي تجلبها المخدرات؛ ومع ذلك كان يمثل لها الحياة كلها: كانت تعيش لأجله فقط. كان نظامه الأخلاقي صعبا وقاسيا وغير إنساني، يضحي بكل شيء في سبيل الالتزام به ... قالت أوليفيا في نفسها: «إلى حد التضحية بي وبنفسه. ولكن لن يضحى بي. سأهرب!»

وبعد فترة طويلة، بدأت ترى بالتدريج ما كان يكمن وراء السلطة الفولاذية التي مارسها على الناس، القوة التي عجزوا جميعا عن مقاومتها. كانت شيئا بسيطا ... فكل ما في الأمر أنه آمن، بشغف وبلا هوادة، كما فعل البيوريتانيون الأوائل.

أما الباقون حولها فلم تكن لهم أي أهمية. فلم يكن لأي منهم سلطة عليها ... لا آنسون، ولا العمة كاسي، ولا سابين، ولا الأسقف سمولوود. لم يكن لهم أي دور في تغيير مسار حياتها. لم تكن لهم أي أهمية. ولم تكن تخشاهم؛ وإنما بدوا في نظرها مزعجين ومثيرين للشفقة.

ولكن جون بينتلاند آمن. كان هذا ما صنع الفارق. •••

بعد أن تعثرت في طريقها وهي لا تكاد ترى، وجدت نفسها بعد قليل عند الجسر حيث الطريق الترابي المار فوق النهر والواصل بين منزل عائلة بينتلاند ومنزل «بروك كوتيدج». منذ أن كانت فتاة صغيرة، كان لمشهد المياه تأثير سحري غريب عليها ... مشهد نهر، بحيرة، ولكن كان الأكثر تأثيرا من أي شيء آخر هو مشهد البحر المفتوح؛ كانت تجد نفسها دوما منجذبة نحو هذه الأشياء مثلما ينجذب الحديد نحو المغناطيس؛ والآن، ما إن وجدت نفسها عند الجسر، حتى توقفت عن الحركة، ووقفت تتطلع من فوق المتراس الحجري تحت ظلال شجيرات الزعرور التي كانت تنمو بالقرب من حافة المياه، إلى البركة المعتمة الراكدة بالأسفل. كانت صفحة المياه داكنة وانعكس عليها ضوء النجوم الصغيرة المتلألئة وكأنها حبات ألماس منثورة فوق سطحها. عبقت الرائحة الكثيفة القوية للماشية الأجواء، مع مسحة من أريج خفيف لزنابق الماء البيضاء التي كانت تحيط بالبركة.

وبينما كانت تقف هناك، منغمسة في سكينة العزلة المعتمة، بدأت تفهم قليلا ما حدث بينهما في الغرفة المعبقة برائحة الويسكي وصابون السرج. رأت كيف أسفر غباء الآخرين وجهلهم ورياؤهم عن مأساة جون بينتلاند وحياته بالكامل، ورأت، أيضا، أنه كان بلا أدنى شك حفيد توبي كاين الذي كتب هذه الخطابات الجامحة المتقدة بالعاطفة والتي تمجد الرغبة الحسية؛ غير أن جون بينتلاند كان قد وجد نفسه حبيسا داخل سجن ذلك الشيء الفظيع الآخر؛ ألا وهو النظام الأخلاقي الذي كان قد تعود عليه، والذي كان يؤمن به. ورأت الآن أنه لم يكن من المستغرب أنه سعى إلى الهروب من الواقع بالانعزال والانغماس في الشرب حتى الدخول في غيبوبة. لقد كان محاصرا، بشكل مأساوي، بين هاتين القوتين الغاشمتين. حسب نفسه من آل بينتلاند بينما اشتعلت بداخله النار الكامنة في خطابات توبي كاين وفي النظرة الفاسقة التي تجمدت إلى الأبد في اللوحة المرسومة لسافينا بينتلاند. ظلت صورته ماثلة أمامها وهو يقول: «لم أخنها مطلقا، ولو لمرة واحدة طيلة كل هذه السنوات التي مرت منذ ليلة زفافنا ... أعرف أن العالم لن يصدق مطلقا، ولكن أردتك أن تعرفي؛ لأنك أنت والسيدة سومز الشخصان الوحيدان المهمان لي ... وهي تعرف أن هذا صحيح.»

بدا لها أن هذا الإخلاص كان شيئا مريعا وخبيثا.

وباتت تدرك أنه خلال حديثهما كله، ظلت خاطرة، فكرة مايكل حاضرة طوال الوقت. بدا وكأنهما كانا يتحدثان طوال الوقت عنها هي ومايكل. ظل الرجل المسن يتطرق إلى الأمر عشرات المرات على نحو مبهم ولكن مؤكد. لم يكن لديها أدنى شك في أن العمة كاسي عرفت منذ فترة طويلة كل ما يمكن أن تعرفه من الآنسة بيفي عن اللقاء الذي جرى بالقرب من حوض النعناع البري ، وكانت واثقة من أنها نقلت المعلومة إلى أخيها. ومع ذلك، لم يكن يوجد أي شيء قطعي فيما رأته الآنسة بيفي، وإنما القليل جدا بحيث لا يثير الشكوك على الإطلاق. ومع ذلك، أثناء استرجاعها لحديثها مع الرجل المسن، بدا لها أنه بعشرات الطرق والكلمات والنبرات والنظرات كان قد أشار ضمنيا إلى أنه عرف السر. وحتى في نهاية الحديث، عندما تطرق بقسوة وبيقين غريب إلى الخوف الوحيد، والشك الوحيد الذي كان يشوب حبها لمايكل، بقوله على نحو عرضي جدا: «ومع ذلك، أظن أنه من الأفضل أن نتوخى الحذر بشأنه. فهو رجل أيرلندي ذكي في سبيله إلى الوصول لغايته ... ومثل هؤلاء الرجال يجب أن يخضعوا للمراقبة. إنهم عادة لا يفكرون إلا في أنفسهم.»

ثم خطرت على بالها أغرب الأفكار جميعها ... ألا وهي أن حديثهما معا، حتى تلك الأسرار المؤلمة والمأساوية التي أسر بها بجهد بطولي، كان في الحقيقة يستهدفها. كان قد فعل كل هذا -خرج من قوقعة الصمت والكتمان، وأذل كبرياءه الطاغي - ليجبرها على التخلي عن مايكل، ليجبرها على التضحية بنفسها على مذبح ذلك المثال الأعلى الوهمي الذي يؤمن به.

Unknown page